فى عام 1948 وعند اعلان دولة اسرائيل، قررت ادارة المدرسة المتوسطة التى كنت فيها ان يقوم التلاميذ بمظاهرة، وتولى ذلك معلم الرياضة. اتجهنا نحو البرلمان القديم ونحن نهتف لفلسطين ونشتم الاستعمار. ولما وصلنا البرلمان صرخ بنا المعلم طالبا السكوت ثم طلب منا ان نردد هتافاته: يسقط الدب ستالين (روسيا)... يسقط ترومان (أمريكا)... يسقط تشرتشل (بريطانيا). وبقينا نردد هذه الهتافات حتى بحت أصواتنا وعدنا الى المدرسة عودة المنتصرين بعد أن أسقطنا ثلاث دول عظمى!!!.بعد عودتى الى البيت أخبرت المرحوم والدى بما جرى فضحك وقال بأن هذا الأمر ليس بالجديد عليه فقد شهد فى شبابه مظاهرة تردد شعار: فرنسه وانكلتره والقندره.!!! كما انه شهد فى طفولته فى الحرب العالمية الأولى مظاهرة عند وصول الجنرال مود البريطانى لمشارف بغداد، وكان المتظاهرون يهتفون: بارودنا عند العجم... وطوابنا هسه تجى.وتعنى باللهجة العراقية: مدافعنا ستأتى قريبا!!!.
لوحات كثيرة كانت منتشرة فى بغداد وخارجها وقد كتب عليها: التصوير ممنوع منطقة عسكرية. يضحك المطلعون على باطن الامور وهم يعلمون جيدا انه ليس هناك ما نخفيه عن الأجنبي العدو فهم مطلعون على كل حركاتنا وسكناتنا ويعرفون بدقة مالذى نستورده من الخارج وخاصة السلاح واين يخبأ. الجاهل الوحيد هو الشعب العراقي الذى يمنع من التصوير، بينما الأقمار الصناعية تسجل كل شيء. وأكاد اجزم بأن هذه الظاهرة المضحكة تنتشر فى كل البلدان العربية وجمهوريات الموز. فى عام 1957 أخذت احد اصدقائى (ألماني الجنسية) لزيارة مشروع الثرثار قرب سامراء، وأخذ صديقى يصور الجسر، فسمعنا صراخا وجنودا يصيحون: ممنوع ممنوع!. أصر الضابط على ان يخرج صديقى الفلم من الكاميرا لاتلافه. وسألت الضابط باستنكار عن السبب فقال انه لديه امرا بمنع التصوير وخاصة الأجانب. فأشرت بأصبعى الى لافتة من قماش كتب عليها: (انشاء شركة زبلن الألمانية). خجل الضابط ولكنه أصر على مصادرة الفلم.
قبيل بدء حرب الخليج الثانية (90/91) ظهرت على شاشة التلفزيون المذيعة الأمريكية (دايان سوير) فى مقابلة مع صدام الذى قال لها بأن العراق سينتصر على أمريكا اذا ما نشبت الحرب، فذهلت المذيعة وتساءلت فى دهشة بالغة: العراق سينتصر على أمريكا؟. أجابها صدام بأن الله معنا ومن كان الله معه سينتصر، وان امريكا ستخسر لانها مع الشيطان!!!. وأضاف ان امريكا لا تتفوق علينا الا بقوتها الجوية وان الطائرات عمرها ما حسمت حربا!!!!. صعقت عندما سمعت كلامه العجيب ثم تذكرت انه قد قيل من قبل ضابط بريطاني فى الحرب العالمية الأولى، ونقله صدام حرفيا بعد مرور ثمانين سنة على ذلك القول. ترى من هو الأكثر حماقة: صدام أم من لقنه هذا الحديث البالى؟ وكرر صدام نفس الخطأ بعد حوالي 13 سنة، وفر هاربا عند دخول الجيوش المتحالفة لمدينة بغداد. والمجموع أصبح ثلاث حروب دمرت العراق تدميرا مريعا، كل ذلك لأن القائد (الضرورة) لم يدرك التغيرات التى طرأت على العالم خلال ثمانين عاما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى
المعروف عن البريطانيين شدة تمسكهم بالقديم وبطء التحديث فى معظم المجالات، ولكن يظهر اننا فى العراق أشد تمسكا منهم بالماضى (وآهاته)، ونبرهن على ذلك فى هذه الأيام بكل وضوح. والأدهى من ذلك اننا بعد تقدم ملحوظ بدأنا الرجوع القهقرى، فعادت العباءة السوداء الكئيبة تلف النساء وعاد التحجب، وعادت دشاديش الرجال الى الظهوربعد انحسار، وطالت اللحى والمسابح وعاد اللطم والتطبير وزاد عدد دعاة الدين فقد وجدوا فيه عملا مريحا مربحا، فكل ما يحتاجونه هو حفظ آيتين أو ثلاثا ولسانا ذلقا وصوتا جهوريا ويحفظ عبارات سياسية نسمعها كل يوم مثل: جدولة الانسحاب، مؤامرات أمريكا واسرائيل، والجهاد والموت فى سبيل الله (وكأن الله عاجز عن حماية نفسه).
وفى فترة قصيرة بعد سقوط الصنم فى بغداد تعلمنا تفخيخ السيارات وتفجيرها فى الأسواق والأحياء السكنية وعلى الجسور، واستعمال مدافع الهاون وذبح البشر بالسكاكين (بعد التكبير)، وتعلمنا اختطاف الناس وطلب الفدية من ذويهم وتعلمنا تهجيرهم من بيوتهم ونهب محتوياتها، وتعلمنا قتل الأطباء وأصحاب الشهادات العالية وتعلمنا قتل الأطفال والصبيان وتسميمهم، وتعلمنا قتل باعة الثلج والفلافل والحلاقين والخبازين، وتعلمنا هدم دور العبادة والمستشفيات والمدارس ومصافى الماء والنفط ومحطات الكهرباء والغاز، وتعلمنا كيف نميز بين السني والشيعي لنقتله. كما تعلمنا نهب النفط والغازوتهريبهما، وأخيرا اكتشفنا تجارة جديدة وهى تجارة جثث الموتى حيث لا نفرج عن الجثة قبل استلام (الأتعاب).
كل هذا ونحن نردد ((من قتل نفسا بغير نفس او فسادا فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. آية 32 سورة المائدة)) و ((لئن بسطت الي يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى لأقتلك لأنى أخاف الله رب العالمين. آية 28 سورة المائدة)) و ((خذ العفو وامر بالمعروف واعرض عن الجاهلين. آية 199 الأعراف)) و ((ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما. آية 29 النساء)) و ((يا أيها الذين آمنوا اذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى عليكم السلام لست مؤمنا. آية 94 النساء)) و ((عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم. آية 105 المائدة)) و ((ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. آية 125 النحل)) و((فانما عليك البلاغ وعلينا الحساب. آية 40 سورة الرعد)).
ولم تعد تنطبق علينا الآية الكريمة: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)).
لقد أرسل الخالق العظيم جميع أنبيائه فى منطقتنا (الشرق الأوسط) وخاصة ما بين النهرين، ولم يفلح احد منهم ndash;على ما يظهر- على اصلاحنا وتقويمنا. فلا تكاد بادرة أمل تبدوا حتى يسارع البعض منا الى اخمادها، وصار قوادنا من ذوى الأصوات العالية والأدمغة المتحجرة يفوقون عدد من ينطقون عن علم ومعرفة، والجاهلون لا يتبعهم الا الجاهلون، وما أكثرهم. كنا نتهم أحدنا الآخر بالعمالة لدول أجنبية، وبعد ان خفت حدتها أوجدنا تهمة جديدة خطيرة وفظيعة أدت وتؤدى الى مذابح وكوارث لم تخطر ببال أحد الا وهي تهمة الطائفية الدينية التى أصبحت ككرة السلة يتلقفها اللاعبون لرميها فى سلة الخصوم وتسجيل النقاط عليهم.
ترى متى سنثوب الى رشدنا ونتوقف عن القتل والتدمير؟ ان كنا لا نبالى بأرواحنا فلنتفكر بما سيحصل لأطفالنا واراملنا وشيوخنا من بعدنا من ضياع وعذاب. هل وصلنا الى حد لايردعنا معه دين ولا أخلاق؟ أم هل اننا فقدنا عقولنا؟، فان ما يحدث فى العراق اليوم لا يتقبله العقل الرشيد.. رحمة بهذا الشعب المسكين فقد عانى الكثير وضحى بالكثير، وكل يوم يمر عليه يزيد من معاناته.