ليس اختصاصي النحو وقواعده ولست مولعا فيه كهواية، ولكنني اتذكر جيدا ان معلم اللغة العربية احتفل بنا عندما اعتقد انه نجح في تعليمنا إعراب جملة كاملة تتكون من الفعل والفاعل والمفعول به، كان ذلك في البداية قبل ان نزور واياه، كان وإنً واخواتهما، والضمائر والحال والظرف وغيرها. قال الاستاذ حينئذ، تذكروا هذا جيدا فالفاعل هو الذي يقوم بالفعل والمفعول به هو الذي يقع عليه ذلك الفعل، اي ان الفاعل هو (الكافخ) والمفعول به هو (المكفوخ) والفعل يضبط العلاقة بين (الكافخ والمكفوخ). ربما يتساءل القارئ الكريم عن هدف هذا الكاتب (النصف ردن) في اقحام ذكريات وجمل من كتب الدراسة الاولى وانظمة التعليم في مواضيع السياسة، فتارة يكتب (الى متى يبقى البعير على التلِ؟)، وثانية عن مصيبتنا في (قدري وهو يقود بقرنا)، وثالثة يسمح لنفسه باعلان نتائج رسوب الحكومة العراقية الحالية في امتحانات الدور الاول ويتنبأ بنفس النتيجة في الدور الثاني، وهاهو اليوم يحاول وصف حال انتقال السياسة لدينا من فاعل مغامر الى مفعول به تقطعًت اجزائه بفعل الفاعل الجديد والقديم على اختلاف لونه وجنسيته واجندته وزمنه. وفي كل هذا ليس القصد إلا تقريب الصورة وايصال الفكرة وربط الاحداث والتطورات السياسية بعناصر تجلس عند الكثيرين مستقرة في قلب الذاكرة الدائمة.
لست معارضا لنظرية المؤامرة بل اؤمن احيانا ان السياسة بشكلها العام ليست إلا مؤامرة مستمرة بفصول لاتنتهي تتباين فيها درجة النظافة تبعا لخلفية اللاعب وزمن اللعبة ومكانها. لكنني اعتقد ايضا ان تعليق الاخفاق بشكل كامل على شماعة المؤامرة هو في بعض جوانبه اعتراف صريح بمحدودية مهارة اللاعب او بحساباته الخاطئة على اقل تقدير.
بقي التطرف في تفضيل المصلحة القومية او الاجنبية على حساب المصلحة الوطنية سمة مميزة للسياسة العراقية على مدى عقود من السنين حيث كان الشعار العتيد - العراق اول من يضحي واخر من يستفيد - هو المبداً الرئيسي الذي حرك تلك السياسة التي ادت الى تضحيات جسيمة في الدم العراقي والى تبديد وتبذير في ثروات العراق لم يحصل العراقيون على اثرها حتى على كلمات شكر خجولة من المستفيدين منها لابل على العكس كان حالهم دائما حال (سمكهم المسكوف) الماًكول والمذموم في ان واحد.
لاناًتي بجديد عندما نقول ان العراق بقي لعقود (طوعا او رغما او توريطا) - يحشر انفه - في كل المشاكل والصراعات على الساحة القومية والعالمية فكان للعراق يد في حركة انقلابية في موريتانيا او في السودان كما حشر نفسه في الشاًن اللبناني او الاماراتي ويبقى الحديث عن الدور العراقي في القضية الفلسطينية طويلا الى الحد الذي توهم فيه الكثير من الفلسطينيين ان العراقيين هم فلسطينيون اكثر منهم. اما على الصعيد العالمي فقد تم نقل العراق الى كل البؤر الساخنة في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية من خلال ماسمي بمساندة حركات التحرر فيها وكان التنافس على اشده بين النظام السابق في العراق وبين النظام الليبي حول اي من النظامين يستطيع ان يحشر انفه في اكبر عدد من القضايا والصراعات وللتاريخ فان النظام الليبي استطاع ان يحسم المنافسة لصالحه من حيث العدد وليس من حيث نوعية التدخل عندما اضاف القضية الايرلندية الى قائمة اهتماماته من خلال علاقاته مع الجيش الجمهوري الايرلندي السري، ربما يقول قائل ان السياسة على ارض الواقع هي مرأة عاكسة للفكر الايديولوجي الذي يحمله النظام، ولكن ذلك لايمنع االنظرة المتجددة للحياة وتطورات الاحداث بما يؤدي الى تحقيق افضل النتائج باقل الخسائر. ان السؤال الذي يطرح نفسه هو مَن من الدول العربية ابدت استعدادا للتضحية بمصلحتها الوطنية من اجل العراق. حتى القيادة الفلسطينية نفسها كان صوتها جهوريا على ارض مطار الكويت وهي تعتذر عن الموقف ازاء غزو الكويت وتشمت بمن غزاها!.
وعندما انتهى النظام بالطريقة المعروفة وحل (فرسان) العهد الجديد في بغداد استبشر البعض خيرا في ان عهدا جديدا سيبداً وستكون اخطاء الماضي امام اعين اطراف اللعبة الرئيسيين حيث سيضع هؤلاء المصلحة الوطنية فوق اي اعتبار اخر، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، وهكذا عوضا عن ان يذهب العراق الى كل بؤر الصراع قدِم الاشقاء والجيران والاصدقاء والاعداء الى العراق، يتصارع العراقيون بالنيابة عنهم على ارض العراق وبعدما كنا نتدخل في شؤون الاخرين اصبح العالم كله يتدخل في شوؤننا ونكشف لهم عوراتنا فلا يخجل رؤساء الاحزاب الجديدة عن التصريح بان زياراتهم للدول هي بهدف مناقشة الشان العراقي بل وصل الامرالى حد التوسل الى تلك الاطراف الخارجية في مطالبتها بالتباحث على ارض بغداد وفي ضيافة مايسمى بحكومة الوحدة الوطنية حول مستقبل العراق، من المؤكد ان رئيس الوزراء العراقي الذي حضر يسمع ذلك الحوار ويقدم (البقلاوة والشاي) قد انتابه نفس الشعور بالانكسار والخجل الذي انتاب الرئيس السوداني او اعضاء حكومته في جولات اجتماعات المصالحة مع المعارضة او في اقرار مصير قضية دارفور!
لا نعرف عن اية هيبة للدولة يمكن ان نتحدث والسفارة الامريكية هي القصر الجمهوري بينما السفارة الايرانية هي بمثابة بناية المجلس الوطني (ايام زمان)، فالذي يتطلع جيدا الى خطوات السفير الايراني يعتقد انه المندوب السامي الايراني وليس سفيرا عاديا في العراق، اما السفير الامريكي فلاداع لوصف حاله حيث يكفي انه سفير دولة الاحتلال البغيض، بينما الاحزاب السياسية العراقية هي قنصليات لهذه السفارة او تلك ينتظرون الضوء الاخضر من سعادة السفراء ليغيروا من سياساتهم و ينفذوا التعليمات بما يتفق ومصالح تلك الدول.
نعم لقد ذهب العراق فيما مضى الى العالم ليفتش عن الصراعات ويشارك فيها والان جاء العالم الى العراق من خلال وكلاء له لتصفية حساباته وتنفيذ اجندته، وللاسف في الحالين دفع ويدفع العراق كوطن وشعب الثمن واي ثمن، لكن وانصافا للحقيقة فاننا في ظل ذلك الفاعل المغامر كنا نفتقد الكثير، لكن شعورا بهيبة الوطن وكرامته (حتى وإن كان ذلك بدافع الخوف والاحتراز) كان يمكن ملاحظته على وجوه وتصرفات الدول والشعوب والافراد تجاه العراق، اما وبفضل مكارم فريق (المفعول به الجديد) فاصبح حالنا حال تلك التي (لاحِظت برجيلها ولاأخذت سيد علي) حيث امال الشعب الذي استبشر خيرا يراها تذهب ادراج الرياح وما كنا نفتقده لم نحصل عليه، يضاف الى ذلك احترام و تقدير الكثيرين الذين باتوا ينظرون بتقزز الى افعالنا وادائنا ونتائجنا وحالنا، ناهيكم عن اخرين من ذوي القربى والجيران وجدوا في هذا الحال فرصتهم الذهبية للشماتة والانتقام.
[email protected]


يرجى إرسال جميع المقالات الخاصة بآراء إلى البريد الجديد: pointsofview@elaph.com