ماهو العلم؟
كنت قد نشرت في موقع (إيلاف) يوم الجمعة 16 أغسطس 2007، مقالة حول (مفهوم العلم) تحدثت فيها عن تعريف العلم وبعض الإشكاليات التي تتعلق بهذا المفهوم، فكتب (كامل النجار) مقالة يفند فيها مقالتي منطلقاً من أرضية تعتقد أن الدين يناقض العلم، ما جعلني أخص مقالته بالملاحظات التالية :
1. لقد بدا واضحاً من مجمل ما جاء في مقالة الناقد كامل أن له موقفاً قاطعاً رافضاً للدين، وهذا يعني أننا وإياه ينبغي أن نبدأ من نقطة الصفر، من قضية الإيمان نفسها، وليس من خلافنا على تعريف العلم، فإذا كان الناقد الكريم يؤمن بخالقٍ لهذا الوجود فلابد أن يؤمن بأن الخالق هو الذي أودع في هذا الوجود القوانين التي تحكم حركته، وعندئذ سيتفق الناقد معنا في تعريفنا للعلم بأنه (المعرفة الصحيحة بهذه القوانين) وأما إن كان الناقد لا يؤمن بخالق لهذا الوجود فليخبرنا : هل خلقت هذه القوانين نفسها بنفسها ؟ وكيف فكرت أن تخلق نفسها حين كانت عدماً ؟
2. زعم الناقد كامل أن حشو مقالتي بالآيات القرآنية قد قلل من قيمتها، مع أن المقالة تقع في 8 صفحات ولم يكن فيها سوى 3 آيات، ومع هذا فقد اعتبرها محشوة (هكذا!) بالآيات، وكم كنت أتمنى على الأخ الناقد أن يتروى قليلاً قبل أن يطلق هذه الأحكام التي اعتدنا على سماعها من بعض العلماء الماديين الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس والمشاهد، متناقضين في هذا الموقف مع أحدث النظريات والكشوف العلمية التي باتت تؤكد أن ما ندركه من هذا الوجود لا يزيد عن 4% فقط، وأما بقية الوجود فهو مادة مظلمة حسب تعبير العلماء (تجنباً منهم ستخدام وصف الغيب!) وارجع إذا شئت إلى نظرية الوتار الفائقة التي تعد اليوم من أكثر النظريات قبولاً عند العلماء .. فتأمل!
3. الناقد كامل عرَّف الإيمان بأنه (التصديق أو الاعتقاد بشيء أو منظومة تعاليم بدون أي دليل عقلي أو مادي عليها) وهذا التعريف للإيمان غير صحيح على الإطلاق، فإن إيماننا بالخالق العظيم يقوم على أدلة عقلية قاطعة، في مقدمتها القرآن الكريم الذي أصبح العلم الحديث يأتينا في كل يوم بالدليل تلو الدليل على صدقه ما جاء فيه، فكيف يزعم ناقدنا الكريم بأن إيماننا لا يقوم على دليل عقلي ولا مادي ؟!
4. إن حديثنا عن تعليم آدم الأسماء كلها كما جاء في قصة الخلق لا يعني أن آدم يحمل علم الأولين والآخرين، بل يعني أن الله عز وجل أودع في آدم القابلية للتعلم من خلال إرشاده إلى كيفية تسمية الأشياء وتعريفها، وهي الخطوة الأولى التي لابد منها للتعامل مع هذا العالم الذي استخلف آدم فيه، فهي كالمصطلحات التي لا يكون العلم علماً إلا إذا بدأ بها وحددها وعرَّفها، ومن هنا فإن ذكر قصة آدم لا يناقض تعريفنا للعلم، كما توهم الناقد، فقد انتهينا إلى أن (العلم هو المعرفة اليقينية بالقوانين التي تحكم الظواهر الكونية) وهذا بالفعل ما يفعله العلماء الذين يتلخص عملهم باكتشاف هذه القوانين ومعرفة كيفية تسخيرها.. فهل في قولنا هذا تناقض أو إنقاص من قيمة العلم ؟ أم إن المسألة ـ عند الناقد ـ هي فقط رفض كل ما يمت إلى الدين بصلة حتى وإن كان حقاً ؟!
5. يفند الناقد الكريم مقولتي بأن العلم البشري سيبقى قاصراً عن الإحاطة بما في هذا الوجود من ظواهر ومعارف اعتماداً على قوله تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، وحجة الناقد في هذا أنه (ليس للعقل البشري العلمي أي حدود غير حدود الإيمان بالغيبيات التي تلغيه تماماً، وتدريجياً سوف يفقد الناس ثقتهم بالممارسات غير العلمية حتى تنتهي تماماً ويصبح العقل هو الإله ووقتها سوف لا يكون للعقل حدود) وأقول إن في هذا القول مبالغة لا دليل عليها إلا الحماسة المفرطة للعلم المادي والرفض غير العقلاني للدين ومقولاته جملة وتفصيلاً، وفيه أيضاً اعتراف صريح من الناقد بتأليه العقل وإحلاله محل الخالق سبحانه على طريقة العلماء الماديين الذين بدأ كثير منهم يتراجع عن مثل هذه المواقف، ويعترفون صراحة بقصور العقل وأن له حدوداً لا سبيل له أن يتجاوزها، ولو كان للناقد أدنى اطلاع على آخر البحوث العلمية لتواضع قليلاً وراجع نفسه، فالعلماء أنفسهم يقولون اليوم إن ما يمكن أن نراه أو ندرسه أو نصل إليه من هذا الوجود لا يزيد عن 4% فقط كما ذكرنا، بل يقولون ما هو أعجب من هذا، فنظرية الأوتار الفائقة التي بات يؤمن بها أكثر العلماء اليوم اعترفت أخيراً بعالم الغيب، وبينت أن هناك على الأقل سبعة عوالم أخرى غير مرئية موازية لعالمنا المرئي، وأننا لا سبيل إلى رؤيتها أو الوصول إلى كنهها، وهذه من الحقائق التي تحدثت عنها الأديان السماوية قاطبة قبل العلم الحديث بقرون طويلة، فهل يصح بعد هذا أن نتنكر للدين وأن نرفضه جملة وتفصيلاً ؟!
وعلى أية حال ففي الحلقات التالية من وقفتنا مع (مفهوم العلم) المزيد من الأجوبة التي قد تقنع ناقدنا الكريم، وتجيب على الكثير من الغموض الذي يغلف نظرته للعلاقة ما بين الدين والعلم .. فإلى اللقاء في حلقاتنا القادمة