هناك حقيقة بينة تؤكد على أن أرقى خير يمكن أن يبلغه المرء بجهده هو الوصول إلى الشعور بالسعادة، إذ أن السعادة قمة مطالب الحياة الإنسانية، فهي الغاية المنشودة والتي يسعى البشر إلى الوصول إليها حتى إذا لم يعرفوا على وجه الدقة- ماذا عسى أن تكون تلك السعادة التي يصبون إليها. ولا يخفى على أحد ما يشهده القرن الواحد والعشرين من التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية فضلاً عن التغيرات التي لحقت بالقيم الإنسانية، وتسببت في صراعات بين القديم والجديد. إن هذه التغيرات المتسارعة والصراعات المتعددة تحمل بين طياتها الكثير من الآلام والمتاعب النفسية، والكثير من مصادر الضغط النفسي للإنسان، وبالتالي الكثير من الشقاء الإنساني، وهذا ما يجعل من السعادة أمراً شاقاً يصعب نيله والوصول إليه.
ومفهوم السعادة من المفاهيم التي اهتم بها الفلاسفة، فالبحث عن السعادة عند اليونان هو المطلب الأسمى للإنسان، وخيره الأعلى وغايته القصوى، حيث ينظر أرسطو إلى السعادة على أنها لا تعدو أن تكون حالاً من أحوال النفس البشرية، وسعادة الإنسان تكون بمزاولته ما يمتاز به عن سائر الموجودات، أي بمزاولة الحياة الناطقة على أكمل الوجوه، كما يؤكد على أن النجاح في الحياة ضروري لحصول السعادة، وتحقيق الخير والفضيلة. وحينما قال بعض فلاسفة اليونان إن السعادة هي الخير الأسمى أو الخير المطلق فإنهم لم يكونوا يعنون بالسعادة مجرد خير نسبي متغير كاللذة، بل كانوا يعنون بها تلك الغاية القصوى التي ليس بعدها غاية. ومعنى ذلك أنهم كانوا يعدون اللذة جزئية، في حين أنهم كانوا ينظرون إلى السعادة على أنها كلية.
ولئن كانت السعادة لدى اليونان هي المطلب الأساسي للإنسان، فإن حب المؤمن لله تعالى وعبادته له، هما المطلب الأسمى والغاية القصوى التي يتحقق بهما أعظم السعادة لدى المسلمين، وبالتالي فإن السعادة الحقيقية المستقرة الدائمة في الإسلام تعنى تمسك الإنسان بالإيمان والتقوى والعمل الصالح واتباع منهج الله في الحياة.
وبالرغم من أن اهتمام الناس بالسعادة له تاريخ طويل، إلاّ أنه يتضح من التراث السيكولوجي أن اهتمام علم النفس بدراسة السعادة لم يبدأ قبل العام 1970، وحينما حاول علماء النفس دراسة السعادة، ركزوا عليها في ارتباطها بالإشباع واعتبروا أن الإشباع البيولوجي والاجتماعي والنفسي هو العلة الحقيقية للسعادة. ويبدو ذلك واضحاً فيما أكده ماسلو أن إشباع الحاجات الأساسية البيولوجية والاجتماعية والنفسية يعد مصدراً مباشراً للشعور بالسعادة والصحة النفسية.
أن علماء النفس وخلال العقود الثلاثة الماضية تحولوا من دراسة العوامل الديموغرافية كمحددات للسعادة إلى التركيز على الشخصية كمحدد مهم في حكم الفرد على مدى إحساسه بالرضا عن الحياة وشعوره بالهناء الشخصي Subjective well- being.
وقد أشارت نتائج الدراسات التي تناولت السعادة إلى أنه يوجد علاقة بين السعادة والصحة الجسدية، والصحة النفسية، وتحقيق الذات وتقدير الذات، والكفاءات الشخصية مثل الذكاء الانفعالي، والنجاح في مجالات متعددة من الحياة والرضا عن الحياة، ويتضح مما سبق أهمية السعادة للإنسان كمصدر مهم لهنائه ورضاه في الحياة.
والسعادة لا تعني فقط غياب المشاعر الاكتئابية، ولكنها تعني أيضاً وجود عدد من الحالات الانفعالية والمعرفية التي تتسم بالإيجابية، كما أنها ليست عكس التعاسة، إذ تعتبر انعكاساً لدرجة الرضا عن الحياة، ومعدلات تكرار حدوث الانفعالات السارة، وشدة هذه الانفعالات، وليست عكس التعاسة تماماً.
وعلى هذا، فإن السعادة ليست حالة انفعالية فقط ذات طابع إيجابي بل حالة انفعالية عقلية ذات طابع إيجابي يخبرها الإنسان ذاتياً، ويرجع السبب في ذلك إلى أن مريض الهوس يبدو في حالة طيبة جداً وسعيد بنفسه، ولكن هل هذا يعني أنه يتمتع بالسعادة حقاً، بالطبع لا حتى وإن كانت أفكاره تعبر عن حالة المرح التي يعيشها، فالسعادة الحقيقية هي حالة عقلية وانفعالية تتسم بالإيجابية.
ولكن ما الذي يحقق للإنسان هذه الحالة الانفعالية والعقلية ذات الطابع الإيجابي؟
لطالما فكرت ما الذي يحقق السعادة للبشر؟ هل هو المال....الأولاد... النجاح... العمل... الحب... طاعة الله... راحة البال... راحة الضمير...القناعة... الأمان........؟ وفي النهاية وجدت أن كلاً منا يجيب عن هذا السؤال من خلال تجربته الشخصية وتقييمه الخاص الذي يعتبر انعكاساً لمعنى السعادة لديه، فالشعور بالسعادة والتعبير عنها يختلف من فرد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، وأكثر من ذلك، فإن مصادر السعادة قد تتباين من فرد إلى آخر، فقد يكون المال مصدر سعادة لفرد ما، بينما يكون النجاح في الحياة الزوجية قمة السعادة لدى آخر، في حين يكون الشعور بالأمن والاطمئنان هما السعادة بعينها لدى ثالث، ولكن تظل السعادة ndash; كما أسلفت ndash; قمة مطالب الإنسان وغاية الغايات.
إذاً بالرغم من تعدد مصادر السعادة التي يدركها الأفراد، نجد أن السعادة هي عبارة عن حالة انفعالية وعقلية تتسم بالإيجابية يخبرها الإنسان ذاتياً، وتتضمن الشعور بالرضا والمتعة والتفاؤل والأمل، والإحساس بالقدرة على التأثير في الأحداث بشكل إيجابي.
ومن المهم جداً أن نميز بين شعورنا اللحظي بالسعادة ومستوى شعورنا بالسعادة، فالشعور اللحظي بالسعادة يمكن أن يتأثر بسهولة ببعض الأشياء البسيطة التي من الممكن أن ترفع من معنوياتنا مثل: باقة من الزهور من شخص يهمنا، أو مشاهدة فيلم فكاهي، أو شراء ملابس جديدة أو حتى تناول نوع مفضل من الطعام، أما مستوى شعورنا بالسعادة فهو أكثر ثباتاً من شعورنا اللحظي بالسعادة. ومن الملاحظ أيضاً أننا لا نشعر قط بأننا كنا سعداء، إلاّ بعد أن تفارقنا تلك السعادة التي كنا غارقين في غمرتها، وربما كان السبب في ذلك هو أن السعادة تخلق ضرباً من الانسجام بين الذات والعالم الخارجي.
ويوجد عاملان رئيسيان يؤثران في مستوى شعور الفرد بالسعادة، شخصية الفرد والبيئة التي يعيش فيها الفرد. فبالرغم من أن متغيرات الشخصية كالانبساط والانطوائية ومركز الضبط والتفاؤل تقوم بدور مهم في السعادة، فإنها أي الشخصية ليست العامل المؤثر الوحيد. وفي الحقيقة فإن الشخصية إذا كانت هي العامل المؤثر الوحيد، فإن مستوى السعادة لدى الشخص يجب أن يبقى ثابتاً وغير متغير طوال حياته كلها. ولكن ما نلاحظه في الواقع أن السعادة هي نتاج تفاعل مركب بين الشخص وبيئته.
وعن معدلات السعادة في دول العالم، فإن دراسة حديثة قام بها وايت (White، 2006) بجامعة ليستر Leicester في بريطانيا بهدف معرفة معدل الشعور بالسعادة في 176 دولة في العالم، كشفت عن أن الدنمرك حصلت على المرتبة الأولى، بينما حصلت بوروندي على المرتبة الأخيرة. كما كان ترتيب أمريكا وبريطانيا واليابان وروسيا كان كالتالي 23، 41، 90، 167. ويتضح من معدلات السعادة السابقة أنها تكشف أهمية الثقافة كعامل محدد لمستوى الشعور بالسعادة لدى الشعوب المختلفة.
أما عن معدلات السعادة في الدول العربية، فلا توجد قاعدة بيانات توضح ذلك، ولكن توجد دراسات متفرقة في بعض هذه الدول توضح ذلك، منها دراسة أجريت في الكويت قام بها عبد الخالق وآخرون عام 2003 كشفت عن أن مستوى الشعور بالسعادة لدى طلبة جامعة الكويت بلغ 64.83%، ودراسة أخرى قامت بها كاتبة هذا المقال عام 2007 كشفت عن أن مستوى الشعور بالسعادة لدى طلبة جامعة الأقصى بلغ 63.34%. وهذا يعني أن طلبة الجامعة في غزة يشعرون بمستوى لا بأس به من السعادة بالرغم مما يعانيه المجتمع الفلسطيني من ضغوط شتى اقتصادية وسياسية وأمنية، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على إيمان الإنسان الفلسطيني بقضاء الله وقدره وأنه يعيش في أرض الرباط إلى يوم الدين.
وبالرغم من أنه لا توجد قاعدة بيانات توضح ترتيب الدول العربية ومعدل شعورها بالسعادة مقارنة مع دول العالم، إلا أنه يمكن أن نقارن بين نتائج دراسة كل من عبد الخالق وآخرون (2003)، وجودة (2007) ونتائج دراسة قام بها فرينهام وشينج (Furnham amp; Cheng، 2004) على عينة من طلاب جامعة في لندن أسفرت نتائجها أن مستوى السعادة بلغ 77.93%، وهذا يعنى أن مستوى السعادة في الغرب أعلى منه لدى العرب، علماً بأن المقياس المستخدم في الدراسات الثلاث السابقة في المجتمع الكويتي والفلسطيني والبريطاني هو مقياس أوكسفورد للسعادة Oxford Happiness Inventory.
وموضوع السعادة يقودنا إلى سؤال مهم، هل يتغير الشعور بالسعادة مع تقدم العمر-وعلى وجه الخصوص في مرحلة الشيخوخة؟ كشفت بعض البحوث الحديثة أن كبار السن لا يبدو أنهم تعساء أكثر ممن هم في منتصف العمر أو في مقتبله، وذلك على الرغم من التدهور في الصحة البدنية، وموت الأقران والرفاق، وغير ذلك من التغيرات الموضوعية المصاحبة للتقدم في العمر. وذهب بعض الباحثين خطوة أبعد من ذلك فافترضوا أن السعادة يمكن أن تزداد وتتحسن بمرور العمر، وأرجعوا ذلك إلى أن كبار السن يتعلمون التحكم في انفعالاتهم بشكل أكثر كفاءة كلما تقدم بهم العمر. وبالرغم من أن عدداً من البحوث قد توصل إلى أن التقدم في العمر لا يرتبط دائماً بانخفاض معدلات السعادة، إلا إن هذا لا يعني أن العلاقة بين السعادة والعمر هي علاقة بسيطة بل هي علاقة مركبة. ولكن أعتقد أنه كلما توفر للمسن الشعور بالأمن والأمان والاطمئنان، فضلاً عن حاجته إلى تأكيد ذاته وشعوره بأنه ما زال نافعاً، ويستطيع أن يقدم شيئاً ذا فائدة أو أنه على الأقل ليس عبئاً على الآخرين كان أكثر شعوراً بالسعادة والرضا عن الحياة.
وأخيراً وليس بآخر، فإن السعادة مشاعر راقية سامية وانفعال وجداني إيجابي ما زال الإنسان ينشد الوصول إليه، قد تحيط بنا ولكن قد يكون الوصول إليها باعتبارها غاية من غايات الإنسان الأساسية أمرا معقدا وربما تطلب تحقيقها ابسط استجابات الحياة وأيسرها.

** أستاذ مشارك في الصحة النفسية، رئيس قسم علم النفس- جامعة الأقصى الفلسطينية.