مع الضجيج المربك، يختفي quot;الصمتquot;، يختفي الحسّ البليغ. أن تصبح quot;أُذُناًquot; تسمع كل شيء، يعني أن تصبح كائناً منزلقاً، كائناً يعيش في جوف العالم العربي المليء بالدماء والأشلاء بالأغاني الممتدة كالأعناق الذليلة من أقصى العالم العربي إلى أقصاه. تصاب بالتشبع من كل الأصوات من كل الأوهام، تعرف أن المعزوفات التي يجترونها قديمة وبالية. كل الأصوات مبحوحة، وقديمة، نعالج الظواهر الأزلية بخطبة أو مقالة، نعالج كل شيء بنهيق صوتي، وثرثرة عقيمة. تبحث عن صوت جديد فلا تجد إلا المحللين الأبواق، الذين يستهلكون الدهونات والأصباغ، ويأتون يهرعون من كل مكان من أجل تكرار اسطوانة مشروخة، يأتيك الخبراء من كل صوب يجرون جهلهم وعقمهم، يشرحون أميتهم يبرزون تصحّر ذهنهم على الملأ. يقعون في مغالطات تثير الشفقة، خاصة حينما نعلم أن الأميين والعاطلين أصبحت الفضائيات تسبغ عليهم ما هب ودبب من الألقاب المجانية. يمارسون الانتهاز ولا يخرجون إلا مع الدماء.
تخرج الحثالات يومياً من جحورها، تهرع إلى المنابر والاستديوهات والصوالين، يتحدثون بأصوات زاعقة إما عن خطر الغرب، أو عن حسناته، يخرج أنواع من البشر، يتحدثون إما عن حماية المرأة أو تحريرها، ويتصارعون كالديكة، وترتفع أصواتهم وأصابعهم ثم يذهبون إلى بيوتهم ويمارسون سلوكاً واحداً، يختلفون فقط في اللغة والصوت، الكل يقبع في عمق الانحطاط مهما بلغت نبرة اللغة التحديثية، وتعالت زعقات المطالبة بالتطوير والإصلاح، الكل يمارس الاستبداد والعنف. تقع الشعوب بين فكين، بين فاسد يحافظ على حصته من الفساد، أو إصلاحي يطالب بحصته من الفساد، وتستمر الهرطقات والبجعات اللغوية في النقنقة والتصويت من دون أي أثر أو نفع.
أصبحت quot;القضايا العربيةquot; المبرمجة، quot;ضمانات اجتماعيةquot; للكتاب والخبراء، أو للقصاص والوعاظ، أو للمشعوذين والأطباء الشعبيين، أو شعراء القضايا العربية وشعراء القلطة، أصبح فضاءاً مليئاً بالزعق والفحيح، بالحديث الدائم عن الخرافات، أصبح السطح العربي كله، مسرحاً لإقامة حفلات التكاذب الجماعية، لتبادل النفخ ونفخ النفخ وتهذيب نفخ النفخ، أصبح صهيلاً طويلاً ndash;على أحسن الأحوال- وأحياناً ينجرّ نحو الزفير والصفير والنهيق، أصبح البعض يرزّ كرشه متمسكاً بيافطة بسيطة وأصبح مدراء العلاقات والإعلام أو الناطقين الرسميين أو الخبراء الاستراتيجيين يصمون آذاننا بكذبهم وهرائهم اللغوي، ويحذروننا من أمور ليست خطرة. بينما يشكلون هم أسوأ الأخطار.
حينما يصبح من يبرز لنا كل يوم في الأخبار ويشارك عوائلنا في الغداء والعشاء من يحلل تحليلاً صبيانياً لظواهر لها علاقة بالثقافة والاقتصاد والوجود فيهذر لغوياً بكلام مبعوج لا يستوي على أرض، حينما يقوم المشعوذ بتسطير كلماته على أنها من النوادر والحكم، حينما يأتي من يدعي الاعتدال والعلم لينشر الكراهية على الملأ، حينما تسمع الطيش الأعمى في كل الاتجاهات تبحث عن quot;الكلامquot; ndash;متسائلاً- أين هو الكلام!
هل جربوا الصمت يوماً؟ حينما تستمع إلى مقطوعة موسيقية أو تركض ببؤبؤ عينك وراء مشهد سينمائي ثري، أو تركض باتجاه لوحة فنية، تشعر أن كل اللغة عاجزة عن شرح كل هذا الجمال، لأن اللغة الصامتة هي الصوت الحقيقي، إن اللغة لا تستطيع أن تشرح إلا اللغونات الصوتية، لأنها ماكينتها تبريرية. ما لا تستطيع اللغة شرحه السيمياء التي تفضح المتحدث والمحلل، الطبقة الساكنة التي تختفي تحت طبقات الحديث.
منذ بدأت فلسطين، ونحن نثني على القدس، ونشتم إسرائيل، مررنا لغويا على فلسطين، أصبحت فلسطين ملجأ كل متسول، وأصبحت مرتعاً لكل عاطل. فلسطين كأي قضية عربية استخدمت قسراً ثم اغتصبت. أصبحت فلسطين مرتعاً لطغاة البعث، وللمتطرفين الإسلاميين، وللمرتزقة من العلمانيين، أصبحت جمعية خيرية لكل من يبحث عن تكأة يصعد فوقها، يركن جثته على كتفيها، ويبدأ بالزعق والتصويت.
ككل القضايا العربية أصبحت بعض قضايانا وعاء لأطماعنا وتشهياتنا. بتنا نشاهد اللصوص وقطاع الطرق قادة في مسارح العالم العربي يخطبون ويحذرون من الفتنة والرذائل ومن السرقة والغش، أصبحت القضايا مغشوشة مغتصبة، حتى قضايانا أصبحت بائسة تشاهد القضية-أي قضية- كأنك تشاهد عجوزاً مريضة أمية أعياها الزمن أجبرتها الأيام على قضاء عمرها بين الأوحال، أصبحت القضايا كالأطفال الذين يملأون أزقة المدن العربية ركضاً وطيشاً يعيشون لعقود قادمة فوق هذا الصفيح الملتهب غموضاً وفساداً وكذباً، في عالم يعيش أهله تحت وطأة الموت والاستبداد. لا تغنوا فقط لمن تسمونهم الشهداء الذين رحلوا، غنوا للأحياء الأموات، لبقعة من المحيط إلى الخليج يعيشون خارج التاريخ ويظنون أنهم أحياء، لبقعة فيها أجساد تتحرك ولكنها تتحرك بموت بطيء إلى مقابر جماعية تسمى أوطاناً.
كاتب سعودي
[email protected]