تمتلك بعض الصحف العربية اليوم مصداقية إعلامية واضحة نتيجة إلتزامها المهنية والموضوعية في نقل الأخبار بحدود مقبولة، إلى جانب هامش الديمقراطية الذي تتيحه لكتّاب الرأي والرأي الآخر، وهي، أي تلك الصحف، لم تفعل ذلك أعتباطاً، بل نتيجة لتطور مستوى القاريء العربي الذي لم يعد بالإمكان تضليله بسهولة أو إقناعه ب(أي كلام)، أي أن المصلحة المشروعة المتبادلة بين القاريء وبين تلك الصحف التي تريد المحافظة على مكانتها، هي سبب وخلفية هذا التطور.
تتيح تلك الصحف هامشاً مقبولاً للحوار ولكن بسقف يرتفع هنا وينخفض هناك، بسبب ظروف الصحيفة أو أجتهاد المحرر أحياناً. ما فعلته (إيلاف) وأكسبها مكانتها المعروفة هي أنها رفعت هذا السقف إلى درجة يشعر معها كتابها، في كثير من الأحيان، أنهم يقفون على طول قاماتهم دون أن يطأطؤ لسقف الممنوعات، أي يعبرون عن آرائهم دون تردد أو حذر قد يعيق عملية إنتاج الأفكار. وإذا كانت الأمور نسبية دائماً في هذا المجال، فإن هامش (إيلاف) المميز ساهم في تطوير أداء العديد من كتابها وبضمنهم كاتب هذه السطور، ولأعترف - إذ دأبت على النشر في إيلاف لعدة سنوات مضت، خصوصاً السنوات الثلاث الأولى بعد سقوط الديكتاتورية - أن الكثير من أفكاري المتواضعة لم يخطر في بالي تدوينها على الورق لولا الهامش الرائع الذي تتيحه (إيلاف) وهذا ما حدث لي مع جريدة (الحياة) أيضاً منذ مطلع التسعينات، وتلك مسألة غاية في الأهمية بالنسبة لعموم الكتاب، لأن الكتّاب لا يتجشمون عناء الكتابة لكي يعرضوا مقالاتهم لزوارهم في البيت، بل لأن هناك صحفاً تحترم عقولهم وتتواصل معهم على هذا الأساس. أما بالنسبة للقراء فإن سعة إنتشار (إيلاف) تتيح للمتابع أن يقول دون مبالغة، بأنها لم تعد جريدة إلكترونية مقروءة فقط، بل أصبح لها تأثير لا يختلف عن تأثير أهم الفضائيات العربية، فلا يوجد قاريء عربي مشترك في الأنترنيت لا يضع إيلاف على قائمة المواقع المفضلة، ليس بسبب حرية التعبير وتعددية الآراء فقط، بل وأيضاً لتنوع المادة الثقافية والفنية والإخبارية وكمية المعلومات المتنوعة التي تضخها الجريدة في مختلف المجالات الأخرى.
لقد توقفتُ عن النشر في إيلاف منذ أكثر من سنة، لأسباب خاصة، لكنني بقيت حريصاً على متابعتها كقارىء للأسباب المذكورة أعلاه. فأنا أتحدث هنا مُعلِّـقاً على مقالي الزميلين محمد الموسوي وعامر الحنتولي والقرار الذي أتخذته إيلاف على أثر نشرهما، لا بصفتي أحد كتابها، بل كقاريء حريص على سوية إيلاف وأدائها وسمعتها في مجال حرية التعبير. ولندخل الموضوع مباشرةً : لو كنتُ مكان الزميل الموسوي لاكتفيت بتناول الموضوع من الناحية السياسية الموضوعية فقط، أي لتناولت أزمة العلاقات الأردنية العراقية في خلفياتها السياسية والإعلامية وبينت الضرار والحيف الواقع على العراقيين جراء بعض السياسات وبعض الإعلام الأردني، لأن الهدف المفترض للمقال، هو وضع الحقائق أمام الرأي العام وبضمنه المسؤولين في الأردن لتلافي أسباب الأزمة بين بلدين عربيين متجاورين، كل منهما بحاجة إلى الآخر، وأي توسيع للأزمة سيلحق الضرر بالطرفين. هذا هو هدف الإعلام والغاية من حرية التعبير في مواضيع من هذا النوع. فالتطرق لأزمات أو سلبيات هذا المجتمع أو ذاك قد يلحق ضرراً بمشاعر قطاعات واسعة من المواطنين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في العلاقات الدولية والأزمات الناتجة عنها، خاصة وأن سلبيات أي مجتمع - ولا يوجد مجتمع يخلو من السلبيات - هي نتائج لظروف وأوضاع معينة وليست صفة طبيعية في سلوكه. فالضرب على هذا الوتر يؤدي إلى أنحراف الموضوع عن هدفه المطلوب، وبما لا يخدم أحداً، خالقاً إشكالية لا مبرر لها أصلاً.
لكن وبالمقابل لنتساءل: كيف وبأي أسلوب عالج الزميل عامر الحنتولي الموضوع ؟! لم يكتف الحنتولي بإضاعة فرصة لمناقشة هادئة لتبيان الجانب الخاطىء في مقال الموسوي، بل زاد الخطأ أخطاءً، بما في ذلك الأخطاء الأملائية والنحوية، متيمناً على ما يبدو بقول الشاعر القديم ( إلا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا) وهو تيمن لم يكن في محله مطلقاً، وأسباب ذلك عديدة سنبينها بالترتيب.

لنبدأ مع الفقرة الأولى من مقاله، فبعد سطور عن موقفه من حرية التعبير يقول السيد الحنتولي حرفياً: ( أمس طالعنا المدعو محمد حسن موسوي بمقالته (الأردن لئم دائم).. صدمني ليس بمقالته لأن من حقه أن يشخّص وينظّر كما يشاء.. بل بأخطائه الإملائية التي لاتفوت طالبا في أعوامه الدراسية الأولى فمن باب أولى ان يحسن المدعو موسوي إملائيته قبل أن يفرض نفسه كاتبا يضحك الناس عليه بدلا من يحترموا فكرته.. فيا سيد موسوي هذا تكتب (اللؤم) وهكذا أيضا تكتب (نستقرئ) هذا إذا جاز لغويا ان تكتب على هذه الصيغة أصلا.. فالأصل أن نقول تعالوا quot;نقرأquot; وليس نستقرء هذا عيب جارح بكرامتك وتفتح باب الإعتقاد بأنك لا تعرف عن اللغة العربية شئ وبالكاد تستطيع أن تنطقها.. ) فهو ينحو باللائمة على الموسوي بسبب خطأين إملائيين، لكن لننظر إلى عدد الأخطاء النحوية والإملائية والتعبيرية التي وقع فيها الحنتولي، والتي وضعنا تحتها خطاً، في الفقرة أعلاه وكذلك الفقرات الأخرى التي سنأتي عليها تباعاً، فإذا صححنا هذه الفقرة، فهي ينبغي أن تكون ( أمس طالعنا الكاتب محمد حسن الموسوي بمقاله quot; الأردن لئم دائم quot;.. صدمني ليس بمقاله، لأن من حقه أن يشخص وينظّر كما يشاء.. بل بأخطائه الإملائية التي لا تفوت طالباً في أعوامه الدراسية الأولى، فمن باب أولى أن يحسّنَ الزميل الموسوي إملاءه قبل أن يفرض نفسه كاتباً يضحك الناس عليه بدلَ أن يحترموا فكرته.. فيا سيد موسوي هكذا تكتب quot; اللؤم quot; وهكذا أيضاً تكتب quot;نستقرىءquot; هذا إذا جاز لغوياً أن تكتب على هذه الصيغة أصلاً.. فالأصل أن نقول تعالوا quot; نقرأ quot; وليس نستقرء، هذا عيب جارح في ثقافتك يفتح باب الاعتقاد بأنك لا تعرف عن اللغة العربية شيئاً وبالكاد تستطيع أن تنطقها )!!

أما تكرار الأخطاء النحوية في الفقرات الأخرى فهو أكثر غرابة حقاً، ناهيك عن التفكك في بنية الجمل والعبارات. وسنستعرض هنا تلك الأخطاء مع تصويبها، يقول الحنتولي ( معمما أوصافك الدنيا على شعب بأكمله يحتضن وطن يقيم فيه مليون عراقي ) والصواب ( وطناً ) لأنه مفعول به. و يقول (لكن على صعيد شخصي أقول أن في العراق شعب عربي طيب يعيش كبوة الظلم والإحتلال) والصواب هو (شعباً عربياً طيباً) لأن شعباً هو أسم أن، وعربياً طيباً هما صفتان تتبعان الموصوف. وكذلك يقول (الظلم والضيم الذي يتعرض له العراقيين في الأردن) والصواب هو (العراقيون) لأنها فاعل. وأيضاً يقول (لأنها لن تصادف في عموم الأردن قاتل واحد يريد أن يسلبها شرفها) والصواب هو ( قاتلاً واحداً) ويقول كذلك (إنني كأردني حر أعلن اعتزازي بالأردن السيد ملكا وحكومة وشعبا.. وجيش ومؤسسات) والصواب هو (جيشاً) فهي معطوفة على (ملكاً). وأيضاً يقول (هذا ينطبق على كثيرين إلا أنهم ورغم ذلك يحتفظوا بالحد الأدنى) والصواب (يحتفظون) وهكذا نجد أن السيد الحنتولي لم يترك خطأً إعرابياً لم يرتكبه بما يجعل المرحوم سيبويه الفارسي مستفزاً لما لحق بالعربية من إهانة، أكثر من أستفزازه جراء شتائم الحنتولي للأمة الفارسية وهي شتائم عنصرية فاقت في غرابتها كل توقع ممكن!! إذن لماذا كل هذا الضجيج والتشكيك بعروبة الموسوي لمجرد أرتكابه خطأين إملائيين!! لدرجة يقول معها الحنتولي ( بقي شئ في صدري قادني الى التثبت بأنكم لاتعرفون عن العروبة شيئا لا لغة ولا نطقا ولافكرة حتى.. الخ )
وهكذا نجد أن الحنتولي بدل مناقشة الأفكار أو الأخطاء التي وقع فيها الموسوي، أعتمد لغة الشتائم والإبتزاز العنصري والطائفي بطريقة لا تتناسب مع قيم واعتبارات حرية التعبير، لذلك يُفترض بنا كقراء وكذلك بالجهة الناشرة، من ناحية المبدأ، أن لا نقبل بالرد على مقال ينطوي على أخطاء مضمونية معينة بمقال يكرر نفس الأخطاء ويزيد عليها، وإلا فإن مصداقيتنا ستتعرض للتساؤل بالضرورة، ناهيك عن مجزرة الأخطاء الإعرابية التي أرتكبها الحنتولي بأريحية غريبة حقاً!! ويزيد على ما لا مزيد من بعده، بقوله ( بقي شئ في صدري قادني الى التثبت بأنكم لاتعرفون عن العروبة شيئا لا لغة ولا نطقا ولافكرة حتى..) فهل هذه المجزرة اللغوية تدل على معرفة بالعروبة يمكن أن يُعتد بها!! ثم متى كان الخطأ الإملائي ينفي الهوية القومية عن الإنسان العربي ؟! إذن ما هي حقيقة هويتك العربية في هذه الحالة وأنت تنصب المرفوع وترفع المفعول به ؟! ثم ماذا عن ملايين المواطنين العرب المحرومين من القراءة والكتابة أصلاً، هل نبعثهم لإيران أيضاً لأن عروبتهم مشكوك فيها ؟! وهل خلافنا مع النظام الإيراني القائم يبيح لنا كل هذا العنصرية التي تقشعر لها الصخور!! هل الشعب الإيراني بتاريخه وحضاراته وإبداعاته القديمة والجديدة يستحق كل هذه الكراهية لمجرد خلافنا مع نظامه السياسي ؟! أم هذه هي ثقافة (عيب على شواربكم) و ( هذولة غوغاء ) ؟! التي درج عليها صدام حسين حتى قاد العرب والمنطقة من خراب إلى خراب.
أن الأخطاء والمغالطات والتجاوزات التي انطوى عليها مقال الحنتولي، فاقت كل تصور حقاً، ولذلك من حقنا كقراء أن نستغرب من قرار (إيلاف) منع الموسوي من النشر وبالطريقة التي جاءت بها الكلمة التوضيحية في نهاية مقال الحنتولي!! لاسيما وأن الأخير أخذ حقه بالرد. وأيضاً من حقنا أن نتساءل : هل هذا يعني أننا سنقرأ في إيلاف مقالات أخرى للحنتولي على نفس الغرار ما سيؤدي إلى إنقراض اللغة العربية وحلول لغة عامر الحنتولي محلها!! ولكن هذا لا يعني أن طريقة الموسوي في معالجة الموضوع لم تتضمن بعض الأخطاء، والواقع أن مقاله هذا يختلف عن العديد من مقالاته السابقة التي اتسمت بالهدوء والدقة في تشخيص الظواهر التي تناولها.
بقيت نقطة أكثر أهمية، وهي: أننا لو إنتبهنا إلى طبيعة الحالة الحضارية المضطرب التي نعيش تحت وطأتها نحن العرب منذ مطالع القرن العشرين، حيث الحلول الستراتيجية معلقة أو غائبة، والأزمات تتفاعل وتعيد إنتاج نفسها!! لوجدنا أن الحالة المضطربة تحولت بالتراكم إلى نسق حضاري مضطرب. ولو إنتبهنا إلى التأثيرات السلبية لهذا النسق المضطرب على أفكارنا ومشاعرنا، لوجدنا أن مقالي الموسوي والحنتولي هما ليسا من تأليف الكاتبين بل من تأليف الواقع المضطرب ذاته. وما يحدث أحياناً، هو أننا لا نقاوم تلك التأثيرات أو نناقشها ونحلل مكوناتها وخلفياتها، بل نسقط تحت التأثير السلبي القاهر لهذا الاضطراب فيسيطر علينا ويجعلنا نكتب ما يريد هو وليس ما نريده نحن بالضرورة!! هذا هو السبب الخفي الذي يجعلنا أحياناً نكتب أو نتخذ مواقفَ لا تنفع أحداً بل تضر الجميع، محولين الحوار المعرفي المفترض إلى مجرد (نقرة) وتلاطش بالكلمات!!