هنالك مثل عراقي شهير يقول: ( اللي يشوف الموت يرضى بالسخونة أي الحمى )!!، و على هذا الأساس لاحظت أن بعض القراء يعجب أشد العجب من موقفي المضاد للوضع الحالي في العراق و لتخبطات السياسة الأمريكية و فشلها الفظيع في الإيفاء بكل الوعود بدولة ( المن و السلوى و المهدي الأمريكي المنتظر) الذي نجح في أوروبا الغربية ثم الشرقية و في اليابان و كوريا بينما نراه يتخبط خبط عشواء في العراق الذي أعيد بضربة أمريكية واحدة لعصر ( سقيفة بني ساعدة ) و لشعارها الشهير: ( منا أمير و منكم أمير )!!

و لعصر الفتنة الكبرى ؟ و باتت معارك ( الجمل ) و ( صفين ) و ( عين الوردة ) و التوابين و خلافات بنو هاشم و بنو العباس هي المهيمنة في عصر غزو الفضاء و إقامة المستعمرات البشرية فيه!!، كما أخذ الكثيرون بالربط الخاطيء بين ما يحصل من مجازر مروعة و تخلف حضاري و فكري و سيادة الأحزاب و الفرق التهريجية و الفولكلورية و الخرافية و بين ما يسمونه بعدالة و أرجحية النظام البائد!! وهي قضية خطيرة باتت تثير اليوم إشكاليات عديدة لأنها تنطلق من مقدمات و نتائج خاطئة لتفرض بالتالي مفاهيم خاطئة لا علاقة لها بطبيعة الصراع التاريخي بين التقدم و التخلف، بين القوى الداعية للتقدم و البناءو السلم الأهلي و بين تلك التي تدعو لتشييد المشاريع الخرافية و تجاهد من أجل فرض ديكتاتورية سلفية و مذهبية و دينية متخلفة لا علاقة حقيقية لها بعدالة السماء و لا بقوانين الأرض! و إفتراض أن النظام السابق كان جيدا مقارنة بالفوضى الحالية هو إفتراض خاطيء، لأنه ببساطة ما كان لكل الذي يحصل اليوم أن يتجسد و ينطلق بأبشع صوره لولا ممارسات النظام السابق البائد الذي قاد العراق بإمتياز و تفرد نحو الهاوية، و ساق جموع الشعب نحو قيم التخلف و الإنكفاء الطائفي و العشائري الذي كان في سنوات النظام الأخيرة هو السمة العامة للنظام، فنظام البعث الذي تأسس بشكل إنقلابي دموي تآمري عام 1968 فشل في أن يقيم قواعد حقيقية لدولة مؤسساتية يمكنها أن تصمد أمام المتغيرات، بل كان ذلك النظام بدوره و بداياته مخلبا من مخالب الغرب في الصراع الدولي على العراق و المنطقة ضمن ترتيبات مرحلة الإنسحاب البريطاني من شرق السويس، و هي مرحلة كانت تتطلب إعداد خرائط طريق لأنظمة المنطقة بدءا من أقصى المغرب مرورا بليبيا و مصر و السودان ووصولا للعراق وجنوب الجزيرة العربية، مرحلة شهدت هزيمة الأنظمة العسكرية و الحزبية في مصر و سوريا في الخامس من حزيران / يونيو 1967، و تميزت بصعود أنظمة إنقلابية عسكرية ذات نمط جديد شعارها: ( الثأر من هزيمة حزيران )!! وهو ماورد في البيان الإنقلابي الأول لعصابة البعث العراقي جناح البكر/ صدام في السابع عشر من يوليو 1968!! وهو شعار تدليسي كاذب فلم يفعل البعثيون شيئا للثأر من تلك الهزيمة القومية المرة بل ثأروا أشد الثأر من نظام الراحل جمال عبد الناصر في مصر الذي ناصبوه العداء حتى رحيله عام 1970 و لم يثأروا لا من إسرائيل و لا من غيرها بل كانوا على العكس عونا لها في أشد مراحل التاريخ العربي المعاصر سخونة و تحولا! ففي حرب 1973 كانت مشاركتهم رمزية و كان الجيش العراقي في حالة يرثى لها بسبب حروب الشمال مع الأكراد و ضعف تسليحه و في إحتلال إسرائيل لبيروت عام 1982 كان البعثيون متورطين في حرب القادسية ضد إيران و سبق للمفاعل النووي العراقي أن دمرته الطائرات الإسرائيلية في السابع من حزيران 1981 دون أن يرد الجيش و لا الطيران العراقي على تلك الإهانة الكبرى بل رد عبر قصف عرب الأهواز في إيران بصواريخه الروسية!!، و نعود إلى المنطقة العربية و ترتيباتها و التي دخلت أيضا في دوامة الإنقلابات العسكرية التي جاءت بأنظمة عسكرية وراثية بعضها سقط و إنتهى من ذاكرة الزمن و بعضها ما زال حيا يسعى!! ففي السودان جاء في مايو 1969 جعفر نميري، و في ليبيا قفز صغار العسكر على السلطة ضد نظام الملك الراحل إدريس السنوسي في الفاتح من سبتمبر 1969 أيضا، و في سوريا هيمن الراحل حافظ الأسد على السلطة المطلقة بعد تصفية جماعته من يسار البعث المتطرف ليحيلها جمهورية بعثية وراثية ليوم يبعثون منذ عام 1970 و حتى اليوم!كما شهد المغرب الأقصى محاولتين إنقلابيتين عسكريتين لم تنجحا أعوام 1971/1972، و لم يحل عام 1973 حتى كان المشهد العربي مرتبا وفق نمط خاص، نعود للعراق الذي هو موضوعنا الرئيسي و لكي لا نتشتت في متاهات فرعية عربية أخرى بدأت بعد حرب أكتوبر وأهمها تسخين الملف اللبناني و إندلاع الحرب ألأهلية هناك منذ عام 1975 وحتى أواخر عام 1990 و التي أفرزت أوضاعا خاصة يعيشها لبنان اليوم.


نظام البعث في العراق في عودته الثانية للسلطة لم يكن يهدف إلا لتثبيت سلطته و فرض آيديولوجيته التعبانة وهي أيديولوجية فقيرة عاجزة تمسك بأهداب الشعارات القومية الساخنة و تنطلق في خطتها الإقتصادية من تصورات شيوعية و ماركسية و في ظل هيمنة قيادات شبه أمية و جاهلة تستند لعصبية عشائرية و مناطقية و أدواتها الرئيسية هي إستعمال أقصى العنف لفرض الإستفرار و إشاعة الرعب لتحصين النظام، و برزت وجوه بعثية قيادية لم تكن تمتلك من مواصفات السلطة و أدواتها الحقيقية سوى التفنن و الخبرة في مراكز التعذيب و القتل الشامل للمعارضين و بكل الوسائل المتاحة و الممكنة و تصاعد الصراع بين القياديين البعثيين الفاشيين للهيمنة على السلطة المطلقة لذلك نرى أن عهد البعث في سنواته الأولى كان يتميز بالتصفيات الجسدية المتبادلة بين أركان النظام و الحزب ففي صيف 1973 و في الثلاثين من حزيران/ يونيو سمع الشعب العراقي بقصة تمرد مدير الأمن العام ( ناظم كزار ) الذي كان واحدا من أبشع الشقاوات و البلطجية في حزب البعث و كان مسؤولا منذ عام 1963 عن عمليات التعذيب للخصوم من شيوعيين و قوميين و إسلاميين ثم بنيت شهرته في الشارع العراقي على أنقاض ( قصر النهاية ) وهو قصر الرحاب الملكي السابق الذي شهد نهاية العائلة الهاشمية المالكة عام 1958 و الذي تحول لمركز تعذيبي كبير و مرعب لا يمكن أن تنساه الذاكرة الشعبية و التاريخية العراقية و وثق فصولا من ذكرياته و مشاهداته العديد من المناضلين العراقيين الأحرار و منهم أستاذنا الجليل أحمد الحبوبي في كتيبه الصغير و الفظيع ( ليلة الهرير في قصر النهاية )!، أو ما خطه يراه د. جليل العطية في كتابه ( فندق السعادة )!!، في ذلك القصر و سراديبه و صوره كانت تشيد مملكة البعث الحقيقية برجالها الذين يرأسهم المشنوق صدام حسين نفسه و كان كزار و غيره من العناصر الساقطة و كل القيادة القطرية البعثية آنذاك تسهر و تبتهج لمتابعة حفلات التعذيب المميتة ضد الخصوم و لا زال البعض ممن عايش تلك المرحلة حي يرزق يستطيع نبش الذاكرة و التفصيل في هذا الأمر و منهم أستاذنا الجليل د. عزيز الحاج الذي كان شاهدا وشهيدا و تعرض لضغوط جسدية و نفسية هائلة لم تزل قائمة حتى اليوم رغم مرور أربعة عقود على ماحدث، فتمرد رئيس المعتقل و مدير ألأمن العام على سيده صدام وحاول القيام بإنقلاب عسكري لم ينجح بسبب السذاجة في التخطيط و التنفيذ و هو مشابه في إطاره العام لخطة الجنرال المغربي محمد أوفقير بقتل الملك الحسن الثاني في مطار الرباط/سلا عام 1972!! و فشل الإنقلاب و الذي ما تزال العديد من الإجابات الحقيقية متوارية عن الأنظار و لكنه ترك أبعد ألاثار على مسيرة حزب البعث الحاكم وقتذاك فبسبب ذيوله تم إبعاد و إعدام العديد من قيادات الصف الأول في الحزب و منهم المرحوم عبد الخالق السامرائي ( أبو دحام ) الذي كان صدام حسين يخشاه حيث أعتقل وصدر فيه حكم الإعدام الذي لم ينفذ إلا بعد ستة أعوام مع وجبة القياديين البعثيين الذين وجد صدام في عيونهم ( نقطة سوداء ) عام 1979!!، ذلك الملف التصفوي الغامض و الذي مر في تاريخ حزب البعث بشكل عابر و أدى لنتائج مستقبلية فظيعة في إنهاء حزب البعث فعليا و تحوله لمطية لصدام و عشيرته و أتباعه المتخلفين مما جر على العراق الويلات، ووسط معمعة التصفيات البعثية كانت أجهزة البعث الأمنية تمارس نشاطها المحموم في تصفية الشارع العراقي من كل القوى السياسية و من مختلف التوجهات مما أشاع في الشارع العراقي الرعب القاتل وفي ظل صمت دولي بل مساندة من دول الغرب و خصوصا فرنسا في عهدها الديغولي أيام جورج بومبيدو ووزارة جاك شيراك، ثم أيام فاليري جيسكار ديستان و فرانسوا ميتران وحيث تم دعم نظام البعث الدموي بأحدث الأسلحة ذات المواصفات التقنية المتطورة مثل طائرات سوبر أيتندارد و صواريخ إكزوسيت و حتى الأسلحة الكيمياوية التي تضخم ملفها فيما بعد كانت مقدمة من شركات غربية فرنسية و ألمانية و بريطانية و بموافقة معلنة و صريحة من الغرب قبل أن تنقلب التحالفات و تتبدل المصالح، لقد خان الغرب قيمه المعلنة من أجل مساندة نظام إرهابي قمعي و جميعنا نتذكر فضيحة تسليم حكومة الفرنسي جاك شيراك للاجئين عراقيين لنظام صدام تمت إستعادتهم فيما بعد في نادرة تاريخية تؤشر على مدى التحالف البعثي / الغربي و ذلك عام 1986، و في عام 1988 حينما أستعمل نظام صدام أسلحة الإبادة الكيمياوية ضد الأكراد في حلبجة كان ذلك على مرأى و مسمع من العالم الحر و لم يتحرك أحد بل كان الرئيس الأميركي وقتها رونالد ريغان كالقردة الثلاث لا يرى و لا يسمع و لا يتكلم، و كان الضمير الإنساني في إجازة مفتوحة!!!، و كان الإعلام العالمي في حالة صمت مفزع و حزين و في طليعته الإعلام العربي طبعا الذي كان نظام البعث يصول و يجول فيه من المغرب و حتى البجرين، بعد غزو الجيش العراقي لدولة الكويت في 2/8/ 1990 تغيرت المعادلة و فتحت كل ملفات النظام البعثي دفعة واحدة و بعد الهزيمة و تحرير الكويت تكررت مأساة الشعب العراقي الذي إنتفض بفعل قهر السنين فأباد الجيش المهزوم في الكويت الآلاف من شعبه و قد أغمض العالم و قوات التحالف التي كانت تراقب المجزرة عيونهم و سدوا كل حواسهم لأنهم لم يكونوا يريدون أن يكون سقوط النظام عن طريق إنتفاضة عفوية ليس مخططا لها من قبل الدوائر الستراتيجية التي تصنع الحدث و تخلق السيناريوهات و توفر كل المشاهد الخلفية و الموسيقية لذلك الحدث كما حصل بعد عقد و نيف من السنين حين تم ربط النظام العراقي بنشاط جماعة القاعدة و فعلت كل ملفات الماضي السوداء تمهيدا للإحتلال الذي تقرر أن يكون ضمن سياسة ما كان يعتقد بأنها إصلاح لخطايا السياسات الأمريكية الماضية قبل أن يتبين الوهم الكبير و الخديعة الكبرى، نعم لقد كنت و لا أزال مؤمنا بأن التخلص من الطغاة و أنظمتهم العشائرية الكريهة لا يمكن أن يتم بدون مساعدة دولية و لم أندم على موقفي السابق بل على العكس أفتخر به لأن نواياي كانت سليمة و تنطلق من حرص مبدئي على ضرورة التخلص من الفاشية و الحكم الفردي الذي يدمر الشعوب بعد أن يكسحها بالكامل، فنظام البعث لم يكن يوما رحيما بشعبه بل كان يسوم العراقيين شر العذاب و كانت دماء الشباب العراقي مهدورة في حروب خاسرة و في نظام تجنيد بليد و متخلف للجيش العراقي و بطريقة تسحق إنسانية و آدمية الإنسان في ظل مؤسسة عسكرية عراقية غبية و جاهلة تسلط عليها الأميون و الصبيان و مماليك العشيرة الذهبية الحاكمة التابعة للخان البعثي الأكبر ليتحولوا في رمشة عين من رعيان للغنم لجنرالات و حكام يأمرون و ينهون كما هو الحال مع جنرالات أسرة المجيد بدءا من علي كيمياوي مرورا بحسين و صدام كامل و بقية كبار الضباط في الجيش العراقي الذين كانوا يساقون كالأغنام لمسالخهم!!

وكل السلبيات القاتلة التي نراها في العراق اليوم هي نتاج خاص للتربية البعثية و لحملات عسكرة المجتمع العراقي ثم للحملات الإيمانية السخيفة التي جعلت التيارات السلفية المتوحشة تنمو بشكل مريع ليقابلها نمو مضطرد للجماعات الشيعية المتطرفة و المدعومة إيرانيا لتكون الصورة الراهنة نتاج حتمي لما زرعته أيادي النظام البائد الذي مارس سياسة تجهيل و إفقار كارثية للشعب الذي حكمه ثم قاده نحو الهلاك، لقد كان رئيس الوزراء العراقي السابق المرحوم نوري باشا السعيد على علم كامل ودراية متكاملة بالصراعات التي كانت تعتمل في قاع المجتمع العراقي لذلك أطلق تحذيره الذي صيغ بشكل هزلي في تصوير نفسه على كونه ( غطاء البالوعة )!! الذي سيمنع القذارة العراقية من التدفق!! و برغم قساوة التشبيه إلا أنه تحليل دقيق و تاريخي للحالة العراقية التي شهدت تدهورا مضاعفا و فظيعا منذ سقوط النظام الملكي و حتى اليوم الذي تفاعلت فيه قوى الطائفية و السلفية لتحاول فرض مناهج غيبية و فاشية مغرقة في عوالم الوهم و الخرافة، وجرائم نظام البعث الصدامي كانت هي الدليل الوافي للمجزرة العراقية القائمة... فالإرث الفاشي في العراق قد تحول اليوم من الحمولة و الخلفية القومية المزيفة، للخلفية الطائفية و الدينية المتخلفة و البدائية و الخرافية..! تلك هي الحقيقة العارية للأسف؟.

داود البصري

[email protected]