الحلقة الثانية
أين تقع مصلحة العراق عسكرياً وأقتصادياً؟
أن العراق في أمس الحاجة الى حماية سيادته الوطنية وحدوده بنفس مظلة الحماية الأمريكية التي تُحمي دولاً عديدة في المنطقة العربية ، وقد لاأكون مبالغاً في القول بأن العراق بموقعه الجيوبولتيكي والأخطار المحيطة به يحتاج الى توظيف الألة العسكرية الأمريكية لصالحه أكثر من العديد من الدول المجاورة التي مازالت تحتمي بهذه المظلة لدرء الأعداء عنها . والأمر يتطلب بالتأكيد الشجاعة الوطنية والتصميم ، وبدون أي شك ، الذكاء والدهاء السياسي لتحجيم الوجود الأمريكي وتحديد مهامه والأستفادة من أمكاناته واستغلالها للمصلحة القومية العليا .
أن تركيا المسلمة على سبيل المثال تتمتع بكل ميزات السيادة على أرضها ومياهها الأقليمية ولديها من الأستقلال والقوة مايمنعها من الدخول في أتفاقات عسكرية مع الولايات المتحدة ومع ذلك تطلبت مصالحها القومية والوطنية الدخول في مثل هذه الألتزامات دون تردد ووفق ماأملته ظروفها وأرادتها الوطنية. فالسيادة ليست أسلامية أو دينية وأنما هي وطنية تتعلق بتربة الوطن وحرمته.
وفي مثل هذا السياق دخلتْ المملكة العربية السعودية وعمان والبحرين في ألتزامات وعقود مصلحية مماثلة مع الولايات المتحدة وبريطانيا . وقد تفهم مواطنوها أهمية أزالة مبدأ التخوين والعمالة والتحذير الذي يُطلق بين الحين والأخر. ولعل أعلى درجات الوطنية هوالدخول العملي الى عالم المصلحة الوطنية وخصوصيتها واستعادة نشاطات العراق الحضارية في مختلف أوجه الحياة .
قد لايختلف المرء بأن عراق عام 2003 يمر بعاصفة لمرحلة تاريخية حرجة وفي غاية الخطورة ، وهي دون أدنى شكِّ مرحلة قد لاتتشابه خطورتها في أي دولة عربية منذ تقلص الدولة العثمانية ، ولها كل مكونات التراجع والتفتت التي لانستطيع أن نجد لها مثيلاً في العالم. وما لم يتحكم قادة العراق بالحكمة ووحدة القرار والدهاء والموهبة فقد ينجرف الوطن الى نهاية مروعة ينام بنتائجها المريرة على فراش الماضي العتيد ويشخر بأغانِ وطنية جديدة يعتاش عليها العامة .
في الثقافة السياسية الحزبية منها والأجتماعية تُصنَفُ أمريكا في الشارع الوطني quot;بعدوة الشعوب quot; كنتيجة للمواقف الأمريكية من العالم العربي وبالأخص مناصرة أسرائيل وتزويدها بأمكانات عسكرية وتقنية هائلة (1).
وعلى مضض ، فهمت بعض الأنظمة السياسية العربية تماماً ألتزام الولايات المتحدة العسكري وتعهداتها المالية لأسرائيل .....وهو الأمر الذي دعا مصر والأردن الى توقيع أتفاقات سلام ودخول زعامات فلسطينية في مفاوضات معها .
أِلا أن عراق النظام السابق أتخذ موقف الند للتعهدات الجديدة وحذرت العرب من التمادي والتفريط بالأرض الفلسطينية والعربية ، الأمر الذي أدى أالى شروخ في العلاقات العربية. quot; تصريحات صدام الى الصحفيين العرب quot;.
أن التحليل الذي أجد نفسي بصدده لايتطرق أساساً الى : أسباب الحرب على العراق أو ماأهدرته حكومتا الولايات المتحدة والعراق من أموال وضحت به من الجنود الشباب أو الضحايا البشرية العراقية نتيجة الحرب والأرهاب، ففي أستطاعة القارئ أن يجد العديد من هذه النشرات في الصحف والمعاهد المتخصصة وأرشيف الأمم المتحدة.
أن ماأُدونه هنا هو الحديث عن خصائص الدول التي رضخت تحت الأحتلال وتمسكت بشرعية سيادتها الأقليمية على أرضها . وأجمالاً ، أود أن أُبين بأن الدول quot;الُمعترفquot; بسيادتها وأستقلاليتها في الأمم المتحدة هي 193 دولة بضمنها الفاتيكان وتايوان . وقد تشتبك المفاهيم على القارئ عندما يتساءل عن: : كم من هذه الدول تمتلك وتتمتع بكل خصائص السيادة الأقليمية المطلقة على أراضيها ؟ وهل يُشكّلُ الوجود الأجنبي على أراضيها أنتقاصاً لسيادتها أم لا ؟
أن الصراع الأقليمي داخل الدولة وخارجها ويأخذ طابع العنف وأستخدام القوة يرجع في معظم الحالات الى صراع حول ملكية الأرض أو طبيعتها الحيوية ألأستراتيجية والجغرافية كالمضايق والقنوات البحرية ، المصادر الطبيعية كألأنهار والمعادن والنفط . كما يمكن أن يكون جوهر الصراع يتعلق بالثقافة والدين والروح القومية .
نقلة نوعية في الفكر السياسي الوطني العراقي
لعله من المهم أن نذكر أن أختلاف التوجهات السياسية العراقية وتناقض التصريحات اليومية وتعميماتها التي تصدر من القيادة السياسية والقوى البرلمانية والدينية في البلاد والمتعلقة بوجود القوات الأمريكية على النحو التي هي فيه تثير القلق وتدلل على فوضوية القرار العراقي الغير موحد وتسهم بالتأكيد في غموض العلاقات القائمة بين البلدين المتحالفين الرئيسيين. لقد مرَّ ونستن تشرشل بمثل هذه الظروف العصيبة مع سياسيه وبرلمانييه ومعارضيه عندما كان رئيساً للحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية الأمر الذي قاده الى القول في أحدى خطبه الشهيرة quot; هناك الكثير من الأكاذيب السيئة التي تدور حول تصرفاتنا ولعل أسوءها هي تلك التي يكون نصفها صحيح quot;.
لايمكن أطلاق التعميمات بخصوص الربط بين كمال الأستقلال الوطني والسيادة الكاملة ووجود قوة أحتلال وفق ماهو متعارف عليه في القانون الدولي الوضعي أو ميثاق الأمم المتحدة. وفي تقديري، أن الدول تتصرف وتتعامل وفق مصالحها القومية أولاً وتدخل في تحالفات قد تنتقص من سيادتها التي وفرتها لها الأمم المتحدة ، لكنها تتجاهلها ولاتأخذ بها لحاجات أنية أو مستقبلية تتعلق بأمنها الحدودي المهدد من الخارج ، أستقرارها السياسي والأقتصادي ورخائها المالي ورفاهية مواطنيها .
أن السيادة المطلقة للدولة على أراضيها كان ومايزال مثار جدل ونقاش وحجج بين المعنيين في أمور العلاقات الدولية وتشابك وتزاحم المصالح وقيام التحالفات الأقليمية التي تخضع للمؤثرات التي ترتبت كنتيجة للنزاع وظهور متطلبات جديدة تعيد الدول ألتزاماتها على ضوئها .
نماذج من العالم على صيغ السيادة الوطنية والأحتلال الأجنبي

من المعلوم أن تنشأ نتيجة الصراع الأقليمي الداخلي و الخارجي أعماال ذات طبيعة عسكرية وأرهابية وقد لاتستطيع الأطراف المتنازعة أنهاء الصراع بحدود فاصلة أو أتفاق على أنهاء الأعمال العدائية على بينها الأمر الذي يؤدي الى أستمرار الصراع ، كما هو حال النزاع بين الهند والباكستان حول كشمير. كما لم ُتنتَقص السيادة البريطانية بوجود قواعد جوية أمريكية على أراضيها ، كما أن أسبانيا و البرتغال، ولأسباب أقتصادية ، مازالت تعطي التسهيلات والتراخيص الجوية لمرور وهبوط الطائرات الحربية الأمريكية. ولعل الأغرب في تقديري هو أن قادة الصين الشيوعية لم ترى أي أنتقاص لسيادتها الوطنية بتواجد قوات بريطانية محتلةعلى أراضيها في مقاطعة هونج كونج التي لم تسترجعها ألا في 30 حزيران يونيو 1997 . ولم تقم بأسترجاعها الى الوطن الأم بالطرق العسكرية انظراً لمصلحتها القومية ، حيث كانت هونج كونج النافذة المالية والأقتصادية للصين وبوابة صادرتها وأيرادتها من العملات الصعبة .
أن منع كوريا الشمالية وتهديدها الخارجي بالأتفاقات العسكرية التي دخلت فيها كوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة مكًنها من وضع قاعدة صناعية تجارية جبارة في جنوب شرقي آسيا بعدما توفر لها من حماية عسكرية حيث يرابط مايقارب 40 ألف جندي أمريكي في المنطقة المنزوعة السلاح منذ الخمسينات ، وهو الذي أتاح لكوريا الجنوبية الأزدهار والتقدم الأقتصادي الذي حققته ونراه اليوم. فرغم حقيقة أن الكوريتين تجمعهما اللغة والتاريخ والحضارة المشتركة ألا أن كوريا الجنوبية وقادتها كانوا قد أرتأو بأن مصلحة بلادها ومواطنيها ترتكز على ما تقدمه الدولة الصناعية الكبيرة من خدمات. ودخلت معها في العديد من التحالفات التجارية بالأضافة الى التحالف العسكري الذي وفّر لها الحماية والأستقرار. وتقوم كوريا الجنوبية منذ التسعينات بتصدير مختلف البضائع والأف السيارات والمكائن ليشمل التصدير غزوها الحقيقي لسوق السيارات الأمريكي التي تضاهيها في الأسعار.

أن الترحيب الحار الذي لقيه بوش في دول الخليج والمملكة السعودية هذا الشهر rlm;كانون الثاني rlm;rlm; يناير rlm;08rlm;20 ، ماهو ألا دليل آخر على أن هذه الدول لاتشعر بعقدة السيادة المنتقصة التي كان يروج لها بعض تجار السياسة العراقية في عهد النظام السابق ، كما أن هذه الدول كانت قد أرتأت منذ الخمسينات أن مصلحتها ترتكز على ماتستطيع الدول الغربية وأمريكا بالذات من تحقيقه لأمنها ووحدة أراضيها ورفاهيتها الأقتصادية .
لقد أوردت quot; أيلافquot; في عددها الصادر في 15 يناير 2008 خبراً عن الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية وبأنها quot;أطلعت رئيس الوزراء العراقي على نتائج جولة الرئيس الامريكي في منطقة الشرق الاوسط وأبلغته أن أستقرار العراق من استقرار المنطقة كلهاquot;. وبقي أن نفهم كيف سيحقق قادة العراق هذا الأستقرار وكيف سيترجموه على أرض الواقع ؟
أن العراق يحتاج ضرورةً الى:
1. السيطرة الكاملة على القوى quot;الغير رسميةquot; التي مازال يحمل أفرادها السلاح عن طريق المفاوضات والمشورة أو القوة أذا تطلب الأمر ،لأن أحداث الأعوام الأخيرة لاتسير وفق منهجية واضحة أو مُتفق عليها بين الحكومة وهذه الأطراف الغير رسمية.
2. السيطرة التامة على حقوله النفطية ورسم سياسة تتعلق بأعادة المرافق النفطية. وأن صحَ ماقاله وزيرالنفط العراقي بتقدير quot; ايرادات العراق لعام 2008 ب 42 مليار دولار بافتراض تصدير مليون برميل يوميا من النفط بسعر 50 دولارا للبرميلquot;، فأن البلاد تحتاج الى أعادة تقييم عائداتها لأعادتها الى الحالة الطبيعية وتحسين الوحدات الأنتاجية من النفط والغاز والمشتقات وتحديث طرق الأستخراج والتصفية وأضافة مصافي نفطية حديثة وتدريب العمال الفنيين في الدول المجاورة التي سبقت العراق في هذا المضمار ، ووضع معايير وقوانين جديدة لعقود التصدير الخارجي. كما يحتاج القطاع النفطي الى تحسين الوحدات الأنتاجية من النفط والغازالطبيعي والمنتجات النفطية التي يحتاجها المواطن والشركات والمصانع العراقية ، أذا ماأريد للعراق التقدم الحقيقي. أن ولوج الدولة بهذه العقلية التجارية البحتة سيؤدي الى تراجع حاد في أعمال التخريب والأرهاب ويقلل بنسب عالية من البطالة التي تخيم على البلاد.
3. حماية حدوده الدولية ومياهه الأقليمية وتنظيف نهر شط العرب عن طريق الدخول في أتفاقات مع الولايات المتحدة ودول خليجية للأستفادة من خبراتها التقنية والاستفادة من الوجود الأجنبي لأستقرارالأستثمار والحماية الأقتصادية أضافةً الى توفر الحماية والأمن لتدفق النفط والغاز بالشكل الملائم .فالأرقام والأحصائيات التي يوردها المختصون لوحدها لاتكفي للدلالة على أن الأمور تجري بشكل ملائم . فمصافي النفط في الجنوب quot; الشعيبةquot; بالأخص عتيقة وقليلة الصيانة والأدامة ولاتخضع للمقاييس الحديثة ، كما أنها كانت مصدراً لتهريب كميات من النفط لتكون مواردها المالية في خزينة quot;القصر الجمهوري quot; في عهد الدكتاتور وجيوب بعض المهربين حالياً.

ضياء الحكيم

[email protected]

الحلقة الاولى