تكلم الدكتور عبدالله الموسى كثيراً في لقائه مع الإعلاميين في أمسية من أمسيات شهر رمضان المبارك، ولم يكن كل كلام الدكتورشر ٌ محض كما يتصور البعض.. بل كان حديثه في مجمله جيداً ويخدم المبتعث لو هدأت النفوس وتمعنت جيداً في الخطاب!!.. ولكنربما من حظ الدكتور السيئ هو ما تواتر عنه من أنه نصح المبتعثين باستخدامالدراجة (السيكل) في تنقلاتهم للتخفيف من الأعباء المالية التي يشتكون منها!!..

وإن صدق هذا التواتر (حيث ظهرت أحاديث أن الدكتور عبدالله نفى أن يكون قد درس في ألمانيا، وأنّ دراسته كانت في أمريكا!) فأين الخطأ في هذه النصيحة!!.. أليس من أهداف برنامج الإبتعاث تأهيل المبتعثين أكاديمياً وعلمياً وثقافياً ومهارياً!!.. أليست الغربة شهادةأكاديمية ونظامحياة نصقل فيه مواهبنا ونكتسب مهارات جديدة تدعم تحصيلنا العلمي والأكاديمي!!.. أليس ينتج من العمل في الجامعات الأمريكية خبرة وتجربة ودخل مادي!!.. لماذا يتعمّد البعض من المبتعثين تكريس الصورة السلبية عن العمل في الجامعات الأمريكية على أنه لا يتعدى دورات المياه وتنظيف طاولات الطعام!!.. أين ذهبت معامل الكمبيوتر والمكتبات ومكاتب الطلاب الدوليين والأقسام الفنية ومراكز التصوير والمراكز الطلابيةالترفيهية!!.. كل هذه الأماكن تطرح فرص وظيفية مريحة لمن يرغب في العمل ودعم دخلة الشهري بمبالغ جيدة!!.. وليس المال وحدة هو نتاج هذه الأعمال، بل إنّ الخبرة والمعرفة والاحتكاك فوائد يمكن جَنْيها وتحصيلها.. وشخصياً عملت مع بعض الأساتذة في تحرير مواقعهم الإلكترونية وتصحيح نتائج امتحاناتهم ومراقبة الطلاب الممتحنين لقاء دراهم معدودة، ولم تكن تلك الدراهم هي قبلتي، بل الخبرة من ممارسة هذه الأعمال هي الدافع الذي جعلني استقطع أجزاء من وقتي لأقوم بها وأدعم سيرتي الذاتية من خلالها.. وعندما نعود إلى كلمةquot;السيكلquot; في الخطاب فليس المقصودهو الحصول على الخبرة في قيادته، ولكنه التعبير المجازي الذي يتجاوز المصطلح اللفظي ليتعارك المبتعث مع نظام الحياة الأمريكية ويشعر بقيمة تلك المعارك وأثرها في بناء شخصيته.. وهي معارك وآثار تراكمية قد لا يشعر المبتعث بقيمتها الوقتية، ولكن أثارها تظهر ولو بعد حين!..

حتىكلمة quot;التفاحةquot; التي أطلقها أحد كتّاب المقالات ونصح المبتعثين بأنتكون التفاحة هي وجبتهم للغداء وذلك في معرض حديثة عن تجربة الإبتعاث والاستفادة منها!!.. البعض منا تداول هذه الكلمة بشكل ساخر وتناول المقال بشكل أكثر سخريةمتجاوزين بعض الحق الذي فيه وذلك من خلال تصورات ضيقة النطاق ومحدودة التفكير!!.. فالتفاحة هنا رمز أكثر منها وجبة.. فرمزية التفاحة تكمن في تعفف المبتعث عن الوجبات الثلاث أو الأكلات الدسمة التي تُميت الهمّة وتقتل النشاط، وأن يكون المبتعث أكثر عملية في تحصيله العلمي بعيداً عن كماليات الأكل وأوقاته المهدرة وطقوسه المُعقدة لدينا نحن الطلبة السعوديين!.. ولا يعني هذا التزام الزهد والتضور جوعاً، ولكنها الحياة العملية للغربة التي تتطلب سعياً حثيثاً للتحصيل العلمي والاجتهاد الأكاديمي.. وكثيرة هي تلك الأيام التي أنستنا أنفسنا فضلاً على أن نتذكر وجبة الغداء أو العشاء!!.. إنها حياة ممتعة على قسوتها حينما يجد الطالب المبتعث أن يومه ينتهي بانجازات أكاديمية نسي معها حقوق جسده من حيث تغذيته وإطعامه!!..

الطالب الأمريكي يركب دراجته ليذهب لجامعته.. يفعل حتى ذلك رئيس قسم التعليم في جامعة كلورادوا كل يوم وهو على درجة بروفيسور!!.. ويشاركه في ذلك أيضا أستاذ قدير في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة.. وهناك المئات قطعاً في أكثر الجامعات الأمريكية يفعلون ذلك!!.. بل حتى على مستوى الطلبة السعوديين في بداية قدومي لولاية كلورادوا في العام ألفين.. كانت ثقافة الدراجة (السيكل) شائعة بين جموع الطلبة السعوديين.. وكانت هي النصيحة الأولى التي سمعتها ممن التقيت بهم في المدينة التي أدرس فيها الآن!!.. وكثيراً ما أشاهد حين خروجي في الصباح أو قدومي للمنزل أخر النهار، كنت أشاهد هؤلاء الطلبة في دراجتهم عائدون لبيوتهم، ومنهم طالب الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس، ومنهم أئمة في المركز الإسلامي ومن فضلاء الناس، علماً أن الأحوال وقتها كانت أكثر راحة ويُسراً من أيامنا هذه!!..

وحين يأتي وقت الغداء تجد الطالب الأمريكي يُخرج تفاحته من كيس صغير قد يكون فيه أيضا خيار وربما شيء من الجزر لتناول وجبته وهو يقرأ دروسه أو يتابع المحاضر في فصله!.. وعندما يكون هناك وجبة يتشارك فيها الفصل كاملاً لا تجد الوجبات تتجاوز بعضاً من الفواكه والخضروات الخفيفة مع نوعين أو ثلاثة من العصائر الطازجة.. وحين تشاهد وجبة دسمة كالرز أو المكرونة أو الحلويات المليئة بالسكريات ضمن الوجبات فتوقع أن تشاهد طالباً سعودياً ضمن هذه الجموع!!.. فعلت أنا هذا من قبل حتى قالها لي quot;ماكسquot; وهو طالب أمريكي لطيف ومهذب.. همس في أذني واعتذر وقال لا أستطيع أن أتناول شيئاً مما أحضرته حتى لا أفقد حيويتي ويتملكني الخمول والنعاس وأخسر يومي!!.. هذه هي العقلية الأمريكية التي اعتادت أن تستيقظ في الصباح وتعمل بنفسية طيبة ومبتسمة لتعود في المساء لترتاح بعد مشوار من العمل والإنتاجية، في الوقت الذي لا يبدأ برنامج أحدنا كطلبة سعوديين إلاّ حين ينتهي دوام الآخرين، ونظل بعدها في حالة من الارتباك والعصبية بسبب الفوضى الحياتية التي يعيشها البعض منا!!.. أليست هذه النماذج جديرة بأن تكون في أجندة الإبتعاث وأحد أهدافه؟..

أتفهم شخصياً الحاجة الكبيرة لزيادة مكافآت المبتعثين.. وأشعر بهمومكم كمغترب يلمس معاناة زملاءه في كفاحهم ومُكابدتهم لتفاصيل حياتهم في غربتهم.. هي هموم أسرة لم تجد حلولاً تقارب بين تحصيلها الأكاديمي والتزاماتها الأسرية تجاه أطفالها.. وهي هموم أعزب تتراكم فواتير ضرورياته لتقضي على ما تحمله مكافآته من دراهم معدودة.. وهي هموم جيل من المبتعثين شكروا لحكومتهم فرص ابتعاثهم ولكنهم صُدموا بقسوة الواقع وقلة ذات أيديهم حتى فكّر البعض منهم بالرجوع من حيث جاءوا حفاظاً على أعصابهم وأرواحهم وأوقاتهم. نعم لست أبالغ، فكما أنّ هناك نفر ٌ من المبتعثين يعيشون في رغد ٍ من العيش، فإنّ السواد الأعظم يعيشون في بحبوحة من الألم والحاجة، ولكن نحتاج مع هذا إلى القراءة الهادئة للمقالات وحملها على أحسن ما يكون الظن، والاستفادة مما فيها من نصائح أو تجارب، وترك ما يسوؤنا فيها والتعليق عليه بشكل لائق دون الوقوف عند الكلمات وتكرارها بشكل يجعلها كأنها قضية أساسية مما قد يخلق انطباعاً عنّا كمبتعثين بالسطحية والسخرية بالآخرين.. وقد صارحني عدد ٌ من الأحبة من خارج محيط الإبتعاث بأراءهم السلبية حول جيل المبتعثين الذين نفترض أنهم سيقودون عجلة التقدم والتطور لمجتمعنا، وإذ بأعداد كبيرة منهم لا تملك أدوات هذا التطور ولا أبجديات الحوار، ويغلب على ألفاظها العشوائية والغوغائية.. بل من مشاهداتي أشعر إنّ هناك لوبي طلابي يمنع كلمة الحق ويُحاربها ويتعمد القراءة الخاطئة للأحداث لتحقيق أهدافه الخاصة والفردية بعيداً عن الصورة الأكبر والأهم.. وهو أمر ٌ لا يليق بمبتعثين ينتظر منهم المجتمع الكثير!!..

وأختم مقالي بهمسة لزملائي المغتربين بضرورة التحلي بالصبر وضبط النفس وعدم الأخذ بسوء الظن أو التجاوز في الألفاظ والوقوف عند بعض المصطلحات.. فلا أراكم إلاّ جيلاً من طلبة العلم وأصحاب رسالة، ولا يليق بنا أن تستفزنا الأحداث على قسوتها أو الحاجة على شدتها.. ولنعلم جميعاً أننا قد حصلنا على فرص تعليمية لازال يحلم بها مئات الآلاف من زملاءنا في أرض الوطن ويغبطوننا عليها.. ويجب أن نُقابل هذا بالشكر والتقدير وإنزال من سعى لهذا منازلهم دون أن يمنعنا هذا الأمر من عرض مشاكلنا واحتياجاتنا وظروفنا.. وليكن عرضنا عرضاً خالياً من الاستجداء والاستهزاء.. أو أن يكون في صورة عِداء.. فما أجمل العبارة حينما تخرج من لسان شاكر..

الدكتور خليل اليحيا
المشرف العام على الملتقى السعودي في أمريكا