في سنوات الدراسة أو بعدها كلما كنا نذهب إلى بغداد أو إلى أي من مدن الجنوب العراقي ونجالس أصدقاء لنا أو زملاء يفاجؤننا بنكاتهم عن البخل الموصلي أو الحيلة والمكر وأحيانا كثيرة عن تغيير المواقف تحت شعار موصلي قديم ( ألف قلبي ولا غلبي ) ليصلوا في نهاية هذه التوصيفات إلى إن المصلاوي أكثر حيلة ومكرا من الواوي أي الثعلب وبذلك تكون عشرة الواوي أهون من عشرة المصلاوي!؟
وكم كنا نتضايق أحيانا من هذه النكات أو التوصيفات وأحيانا أخرى نرد عليهم بنكات وتوصيفات مقابلة، إلا إنه في نهاية اللقاء أو الجلسة نغادر ونحن كما يقول المثل المصري ( صافي يا لبن وعسل يا قشطه ) دونما أن تترك تلك التوصيفات آثارا جانبية في النفس.
لكننا وفي كل مرة نعود بها إلى موصلنا الجميلة نندس في جلسات ( الشياب والختيارية ) لنسألهم عن حقيقة هذه التوصيفات وأصل هذه الأمثال والحكايات:
وذات يوم جمعتنا جلسة جميلة لمجموعة خيرة من ختيارية موصلنا الأصيلة كان فيها الفنان المرحوم إسماعيل الفحام وصديقه أحمد كجك وبعض أخر لا تسعفني الذاكرة في أسمائهم حينما قلنا لهم حكاية الواوي والمصلاوي فأجابنا الفحام ضاحكا بحكاية جميلة عن شراكة إبليس والمصلاوي في مشروع للزراعة عند أطراف النهر، حينما قال المصلاوي لإبليس دعنا نزرع البصل فهو نبات مبروك ويحبه أهل الموصل وبالذات أوراقه الخضراء الجميلة واللذيذة، وطالما قبلت شراكتي فأنني في هذه المرة سأعطيك ما ينتجه هذا المحصول فوق الأرض وليكن ما تحت الأرض لي فشراكتك لوحدها تعتبر ربحا كبيرا!
رضي ابليس بهذه القسمة ضنا منه إن المصلاوي على نياته، ويوما بعد يوم تنمو مزرعتهم البصلية وتزداد أوراق البصل طولا ونضارة، ويبدأ إبليس بجني محصوله يوميا من الأوراق الخضراء حاملا إياها إلى سوق المخضر، يبيع نصفها ويرمي النصف الآخر في آخر النهار، حتى جاء الصيف فبدأت الأوراق بالجفاف ولم يبيع إبليس ربع ما دفعه في بداية الشروع بالزراعة، فقال للمصلاوي وماذا ستفعل أنت وقد خسرنا أكثر من نصف رأس مالنا، فرد عليه قائلا: القناعة كنز لا يفنى، ومثل ما اتفقنا لك ما فوق الأرض من محصول وقد رضيت انا بما تحت الأرض!
وأخذ المصلاوي يجنى محصوله من البصل وينقله إلى سرداب بيته دون أن يفكر بالبيع، مما جعل إبليس يشتاط غضبا قائلا له ماذا تفعل أيها المصلاوي فرد عليه بمسكنة لا مثيل لها إنه ينقل محصوله إلى البيت لعدم إمكانية بيعه الآن!؟
حتى جاء الشتاء فباع أخينا بالله محصوله بثلاثة أضعاف سعره وقت جنيه! مما جعل إبليس يجن جنونه ويكاد يفقد عقله فذهب إلى المصلاوي غاضبا متوعدا حتى أن دخل بيته أي بيت المصلاوي فأخذه بالأحضان ونادى أهل بيته أن آتوه بماء بارد وفاكهة لذيذة وقال له العن الشيطان يا إبليس(!) وتوكل على الله فان الأرزاق ليست بيدنا وكن قنوعا مثلي وارتضي القليل لتأخذ الكثير؟
فقال له إبليس وكيف أعوض خسارتي فرد عليه صاحبنا أن نزرع هذه السنة الطماطة ولك أن تختار أي المحصولين لتعويض ما فاتك فقال له دونما تفكير أريد ما تحت الأرض!؟
ولك أن تعرف عزيزي القارئ ما جرى لاحقا بين الشريكين حينما بدأ كل واحد منهما بجني محصوله.
بالتأكيد هي قصة من نسج الخيال الذي يتباهى بشطارة المصلاوي وإمكانيته بغلب حتى إبليس إذا ما تعامل معه في بيع أو شراء أو شراكة، وهي نفس المخيلة التي تبيح ( ألف غلبي ولا قلبي ) حينما تكون الثقة مفقودة تماما في مدينة عاشت معظم دهورها حصارا وحروبا واغتيالات من أيام نادر شاه الفارسي وحتى إرهابيو البعث والقاعدة هذه الأيام وما خلاها من أيام الحرس القومي وسحل الناس خلف سيارات الحمل وتعليق الجثث على أعمدة الكهرباء وحملات الاغتيالات المعروفة في الموصل منذ قدوم البعث وحتى يومنا هذا في موصل الحضارة والتاريخ، وكأنما تلك الأيام تعيد نفسها ثانية حيث الاغتيالات والذبح من الوريد إلى الوريد في مدينة لا تكاد تودع غازٍ حتى تستقبل آخر أكثر قساوة ووحشية لتبقى هي تبحث عن حيلة للبقاء أو محاولة للتنصل من حصار قد تُغلبُ فيه فتقلب قبل فوات الأوان!؟
وها هي اليوم الموصل الجريحة تدفع ثمن شطارتها أو على الأقل ثمن ادعائها الشطارة والفهلوة دماءً زكية لخيرة شبابها وعلمائها وأساتذتها وأعلامها من كل الأعراق والأجناس والملل التي كونت عبر مئات السنين هذا النسيج الراقي من تكوينات العراق والذي اسمه المصلاوي الذي يتعالى على العرق والدين والمذهب واللون والجنس وكأنما يقول للآخرين إنما نحن المصالوة قوما أو عرقا أو ثقافة لا يعلوها انتماء آخر؟
اليوم تدفع الموصل ثمن شطارتها وحيويتها والإصرار على بقائها حمامات من الدماء والخوف والإرهاب على أيدي من حاول تشويه هويتها ومسخ حضارتها بأفواج من القرويين والأميين الذين عبثوا بحضارتها المدنية عبر آلاف السنين ومسخوا عنوانها وشكلها وحتى لهجتها ونقلوا كل تقاليد وعادات القرية والبداوة البائسة إلى مفاصل الحياة فيها حتى يكاد ابنها يكون غريبا فيها، بل أصبح غريبا تماما الآن؟
فهل يا ترى ما زال المصلاوي حيالا أو ماكرا وهو ( يقلب إلف قلبة لكي لا يغلب ) أم انه يسحق يوميا منذ أكثر من ثلاثين عاما تحت عجلات البعث ويقاوم للحفاظ على ذاته ولكي لا يتم إلغائه أو مسخه، سواء من دويلة العراق الإسلامية المسخ أو من بقايا البعث والعودة وأصابع دول الجوار المندسة إلى أعمق أعماق جراحنا العراقية!؟
اليوم تذبح الموصل برمتها ويغتال العراق بأجمعه في موصل الحضارة والمدنية والإنسان على أيدي من يعتبر سكانها الأصليين أغرابا ودياناتها القديمة كافرة ومرتدة، اليوم لا يقتل الكوردي والمسيحي أو الايزيدي لوحده في الموصل بل تقتل حضارة الموصل ومدنيتها واصالتها وديمومتها وخصوصيتها برمتها.
كفاح محمود كريم
التعليقات