في الوقت الذي فاز فيه ابن مهاجر إفريقي ملون بحكم أكبر قوة عسكرية واقتصادية في التاريخ الحديث، ما زالت أنظمة العالم العربي والإسلامي تضطهد مواطنيها الأصليين، وتضيق بالخناق على أقلياتها العرقية والدينية، وتمارس ضدهم أبشع أنواع التمييز والعنصرية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً على الإطلاق، وكل ذلك مستوحى من الفكر والتاريخ البدوي التليد. ( صرح مؤخراً أحد كبار ما يسمى بـquot;علماء المسلمينquot;، والذي يعتبر عند كثيرين بمنزلة ابن تيمية هذا العصر، وهو يمثل نمط التفكير العام والسلوك السائد هنا، بأنه لوحده من الفرقة الناجية وكل ما عداه من طوائف وأعراق وإثنيات مصيرها الجحيم والنار، هكذا وبكل بساطة ومن دون أي احترام لقيم المواطنة والاعتبارات الإنسانية والأخلاقية الأخرى).

فلا ينظر، عادة، وهنا، إلى الآخر المختلف دينياً وعرقياً وطائفياً وفكرياً إلا باعتباره ذمياً وضالاً ومبتدعاً ومارقاً ومشركاً وكافراً تجب محاربته وإخضاعه والتنكيل به وازدراؤه والتحذير منه، وبالتالي التخلص منه والقضاء عليه، وهنا الرعب ومكمن الآفة والداء المستعصي المقيم، ومنه انطلقت وتنطلق كل شرور ومصائب وآثام الاستبداد في هذه المنظومة الشيطانية الاستبدادية الشرق أوسطية المرعبة). ومفهوم أهل الذمة السائد بدل مفهوم المواطنة الأكثر تحضراً وإنسانية، هو، في الحقيقة، أكثر من مجرد مفهوم يستوطن في عمق الوجدان والوعي المجتمعي، فهويتحكم بتفكير الناس، وتنبني عليه منظومات سلوكية متكاملة تتجلى فيما نراه من عنصرية وتمييز ضد الأقباط وغيرهم من الأقليات الدينية والعرقية، إنه عقيدة متأصلة وإيمان عميق وتجسيد لما يكنه الفكر السلفي المتطرف لبقية quot;الرعاياquot; المقيمين( ومنه انطلقت تصريحات الشيخ العابد الجليل). والسؤال، بما أن هذا هو العقل، والفكر والإيديولوجية المرعبة التي تستوطن عقول quot;كبار القومquot; ونخبهم المميزة، فماذا سيكون عندها حال الرعاع والدهماء والسوقيين والعوام والغوغاء؟ إن الوضع أكبر من كارثي وأكثر من قضية اعتقاد وإيمان شخصي.

وفي الحقيقة فإن فكر ذاك quot;العالمquot; الإخواني الجليل، هو، وبكل أسف، ما يسيطر، فعلاً، على مساحات الوعي المجتمعي في عموم المنطقة بشكل عام، وفي quot;المحروسةquot; هذه الأيام، بشكل خاص، بعد سقوطها المأساوي المدوي والمجلجل في قبضة الفكر السلفي وتحولها إلى مجرد إمارة إسلامية يحكمها المعممون وأصحاب اللحى والدشاديش القصيرة ودعاة التنجيم وخرافات الإعجاز والأساطير، ما أفضى إلى صعود نبرة العنصرية، والتمييز الديني فيها ضد الجميع بما فيهم أقباط مصر الذين يعتبرون، شرعياً، وقانونياً، وتاريخياً، سكان مصر الأصليين وأصحاب حضارتها العظيمة الخالدة، قبل أن يعتدي عليها، ويهاجمها الأعراب بقيادة عمر ابن العاص، ويحرقوا مكتبتها، ويدمروا تراثها الإنساني البديع، ويفرضوا بالسيف العقيدة واللغة والدين الجديد، والجزية على سكانها وبالسيف الرباني المسلول. ويتعرض الأقباط في ظل هذا العقل السلفي المتشدد، وفي ظل حكم آل مبارك، اليوم إلى أبشع أنواع الاضطهاد والتمييز والتهميش العلني والاعتداءات المتكررة والمسلحة التي تطال بيوتهم وممتلكاتهم، في ظل حماية رسمية من قبل نظام حكم آل مبارك الذي سلم مصر المحروسة لقمة سائغة لقوى التطرف والسلف والتشدد والغلو الديني.

فالأقباط اليوم في ظل حكم آل مبارك الإخواني محرومون، ومستثنون، مثلاً، من تولي المناصب العالية في الجيش والدولة والأمن والوظائف المميزة، أو الوصول إلى المراكز الحساسة، أو تبوأ الوزارات السيادية كالخارجية والدفاع والداخلية، أو رئاسة الوزارة، رغم أنهم يشكلون أكثر من عشرين بالمائة من عدد السكان. وتمارس عليهم حرباً علنية وكيدية وعلى الهوية في واحدة من أسوأ الحقب التاريخية التي تعيشها مصر. ويحصل كل ذلك بالتوازي مع خطاب رسمي وعلني تحريضي وتكفيري وتشكيكي ضدهم من قبل الدعاة والشيوخ ولوبيات الغلو والتطرف التي تسيطر على جميع وسائل الإعلام العائدة للدولة والتي يدفع جزء من ضرائبها المواطن القبطي المصري وتطاله بالتشهير والتخوين. وقد أدت تلك السياسات العنصرية الظالمة إلى هجرة كثيرين من هؤلاء الأقباط خارج مصر، والتخلي مرغمين عن أملاكهم وأرض أجدادهم، ونتيجة لذلك فقد شكلوا أرقاماً مهولة وكبيرة في المهجر وظهر لذلك مصطلح ما يعرف بـquot;quot;أقباط المهجرquot;، وهم تحديداً أولئك المواطنين المصريين المهجرّين من سكان البلد الأصليين الذين لم يحتملوا جور وظلم الفكر السلفي والوهابي المتشدد. وقد شكل هؤلاء الأقباط المهاجرون منظمات تمثلهم وقوى ضغط مختلفة هنا وهناك، تدعم الأقباط الرازحين تحت نير السلفية الدينية وتفضح ممارسات حكم آل مبارك ضد هؤلاء المصريين، وتشرح قضيتهم العادلة في المحافل الدولية، وتحاول انتزاع اعتراف بسيط بهم وبحقوقهم المغتصبة كأقلية دينية مضطهدة في بحر مائج من الأصولية والسلفية المتزمتة المغلقة.

لقد أصبحت الحاجة ملحة اليوم وبفعل تنامي تلك التناقضات والمشاكل والهموم وتنوعها وتشعبها وتعددها وتعقدها أن تخضع لعملية تنظيم وإعادة قولبة وصياغة كبرى، وتأطيرها في إطار تنظيمي وإداري وهيكلي مركزي واحد تنطلق من خلاله كافة الفعاليات والمعالجات وإليه تعود. لذا يحاول الأقباط اليوم توحيد جميع الجهود القبطية في بوتقة واحدة تكون مرجعية معترفاً بها من كافة الأقباط، لمعالجة قضاياهم في الداخل والخارج وطرح معاناتهم القاسية والمرّة، وبصوت واحد، أمام المجتمع الدولي. وفي هذا اليوم السبت الثامن من نوفمبر/ تشرين ثاني ستعقد أكثر من عشر منظمات قبطية مؤتمراً في قلب العاصمة الفرنسية باريس وبحضور ممثلين عن تسع دول أوروبية، ستشكل نواة لقيام تلك المرجعية أو الاتحاد الذي سيعنى بشؤون الأقباط، ويتبنى قضاياهم ومعاناتهم المختلفة.

فعجز حكومات وأنظمة المنظومة الاستبدادية الشرق أوسطية من تبني سياسات وإيجاد حلول لكافة التناقضات والمشاكل العويصة التي سببها الإصرار على التمسك بالنهج السلفي البدوي المتزمت في معالجة مختلف القضايا الوطنية، هو السبب الرئيس في تورم وتضخم تلك القضايا، وتجاوزها حدودها المحلية. ومن هنا نتمنى لمؤتمر باريس لأقباط المهجر النجاح، لطرح وتقديم بدائل ومعالجات إنسانية فورية وناجعة للوضع المؤلم والرهيب الذي وصل إليه أقباط مصر في ظل حكم آل مبارك، وحمايتهم من غول التطرف الديني، وحوت الإرهاب البدوي العنصري البغيض الذي لا يملك أية رؤية عصرية وإنسانية تسامحية وتصالحية حيال الآخرين، وبعدما ظهر تواطؤ فاضح وعلني بين بعض من أنظمة المنطقة ولوبيات التطرف السلفي البدوي فيما يتعلق بالأقليات الدينية والعرقية. ونعلن لذلك التضامن والتأييد الكامل لقضية الأقباط العادلة كأقلية دينية مضطهدة في محيط سلفي طاغ، وبنفس القدر والقوة لكل القضايا الإنسانية الأخرى، التي تتعلق بالعنصرية والاضطهاد والتمييز.

نضال نعيسة