أسهبت أقلام كثيرة في تناول الفوز التاريخي الذي حققته الديمقراطية في الولايات المتحدة هذا الأسبوع بفوز المرشح الديمقراطي الأفرو-أميريكي باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية. وللحق فقد كان فوز أفرو-أميريكي انتصاراً للمضطهدين والمهمشين والمنبوذين المستبعدين والمكسورين ليس على المستوى الأمريكي فحسب وإنما على المستوى العالمي أيضاً. حتى عقود قليلة خلت كان البشر ينقسمون إلى قسمن: ضم القسم الأول الأوروبيين بيينما ضم القسم الثاني غير الأوروبيين. كانت الأقليات الملونة من ذوي الأصول الأفريقية والأسيوية يعاملون في البلاد ذات الأغلبية الأوروبية كمواطنين من الدرجة الثانية وكخلائق عجيبة منفرة ومستعبدة. ولذا يبعث فوز أفرو-أميريكي الأمل في مستقبل أفضل تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر بغض النظر عن ألوانهم واجناسهم وأعراقهم.
لعبت عوامل كثيرة أدوار البطولة في النصر الذي حققه باراك أوباما. من أهم هذه العوامل رغبة ملايين الأمريكيين في التغيير عبر انتخاب رئيس ديمقراطي بعد أن حل بهم الإعياء من السياسات اليمينية للرئيس الجمهوري الحالي جورج بوش. كان التغيير أمراً حتمياً سواء كان أوباما هناك أو لم يكن. فالأمريكيون ما كانوا سينتخبون جمهورياً بعد انتهاء فترتي حكم جورج بوش.. وقد أدرك الجمهورين الأمر تماماً حيث كادت قائمة المرشحين للفوز بتزكية الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية أن تخلو من الأسماء البارزة في عالم السياسة. لم تتقدم للترشيح شخصيات جمهورية ذات ثقل باستثناء جون ماكين الذي يحفل تاريخه الوطني والسياسي بما لا يتمتع به إلا أقل القليل من السياسيين الأمريكيين. ولقد ظلم ماكين تاريخه الطويل حين وضعه أمام اختبار صعب بترشحه للرئاسة في وقت كان يعلم فيه تماماً استحالة وصول جمهوري للرئاسة في انتخابات 2008.
ولكن كان من المؤكد أن تقدم المرشح الجمهوري جون ماكين في السن شكل عائقاً إضافياً كبيراً أمامه للفوز بأصوات الأمريكيين وبخاصة الأجيال الجديدة. وحين اقتصر الصراع على الفوز بتزكية الحزب الديمقراطي على هيلاري كلينتون وباراك أوباما ازدادت متاعب جون ماكين، حيث تأكد الجميع من أن أياً من المرشحين الديمقراطيين كان سيحسم سباق الرئاسة بسهولة. هيلاري كانت ستكسب بسبب تمتعها بشعبية طاغية بين النساء الأمريكيات وقدرتها على كسر احتكار الرجال للمقعد الرئاسي. أما باراك أوباما فكان سيكسب بسبب قدرته الهائلة على حشد الجماهير والوصول إلى قلوب العامة والشباب والأقليات العرقية والطبقة المتوسطة والعازفين عن التصويت.
عامل أخر مهم ساهم بقوة في دعم حملة باراك أوباما الانتخابية تمثل في الحشد الإعلامي الضخم المؤيد له والذي لم يتوان للحظة واحدة عن تقديم الدعم غير المحدود له. وقد نجح الإعلام في فترة قصيرة في تحويل أوباما إلى نجم إعلامي يحظي بمكانة شبيهة بالمكانة التي يتمتع بها نجوم هوليوود. وقد ظهر ذلك جلياً حين احتلت أخبار أوباما وعائلته صدارة الصحف العالمية، وحين تغنى كثير من المطربين بخطبه وبشعاراته، وحين تفننت دور الدعاية في الترويج لمطبوعات تحمل صوره واسمه، وحين قام الالاف من الأباء والأمهات بإطلاق إسم باراك على أبنائهم.
من الإنصاف القول أن الإعلام لم يكن أبداً محايداً في طوال فترة الحملة الانتخابية، حيث ظهر تأييد كبير لأوباما في عدد كبير من الصحف والقنوات الإخبارية والمواقع الإلكترونية. لعب الإعلام دوراً كبيراً في رفع اسم أوباما إلى عنان السماء وإظهاره كرجل يملك أدوات سحرية لإصلاح ما أفسده الدهر باقتصاد وسمعة الولايات المتحدة عالمياً وتقديمه للشعب الأمريكي على أنه قادر على صنع المعجزات وتطهير الولايات المتحدة من خطايا جورج بوش.
في المقابل لعب الإعلام دوراً خبيثاً في إضعاف موقف المرشح المنافس لأوباما عبر مهاجمة خطط وسلوك المرشح الجمهوري جون ماكين ونائبته سارة بالين. لم تتوقف وسائل الإعلام الأمريكية عن الحديث عن عمر جون ماكين وعن علاجه عدة مرات من مرض السرطان. كما لم يبتلع كثير من الإعلاميين اختيار ماكين لسارة بالين كنائب له فأخذت وسائل الإعلام في استخدام بالين كمادة فكاهية ساخرة في محاولة للإساءة إليها، وقام عدد من الممثلات بتقليدها للنيل من وضعها. واستخدمت وسائل الإعلام تكلفة ملابس بالين كقضية ضدها رغم علم وسائل الإعلام بأن المظهر والملبس يعدان من الأمور الأساسية التي يبني عليها الامريكيون انطباعاتهم عن المرشح أو المرشحة.
بدا اهتمام الإعلام بقضايا هامشية تتعلق بالمرشح الجمهوري جون ماكين ونائبته بغرض إبعاد الأنظار عن تاريخ أوباما السياسي القصير والمجهول بالنسبة للكثيرين من الأمريكيين. فقد أغفل الإعلام تسليط الاضواء على علاقة أوباما ببيل أيير الذي كان عضواً بارزاً بالمنظمات الراديكالية التي خططت وشاركت في العديد من الهجمات على مبان حكومية في إطار معارضته للحرب في فييتنام. كما تغاضى الإعلام الأمريكي عن الكشف عن مساندة أوباما القوية لأحد أطراف النزاع الدموي الذي دارت رحاه في كينيا بعيد الانتخابات الرئاسية عام 2007 والذي راح ضحيته الألاف من الكينيين.
لست أعتقد بأن كثيرين يختلفون حول أهمية ومغزى انتخاب أفرو-أمريكي لشغل مقعد الرئاسة في الولايات المتحدة، فقد كان وصول غير أوروبي إلى قمة الهرم السياسي في الولايات المتحدة حلماً بعيد المنال. ولكن من المؤكد أن كثيرين يختلفون حول قدرات باراك أوباما السياسية واستحقاقه لأن يكون الشخص الذي يذكره التاريخ كأول رئيس أفرو-أميريكي في تاريخ الولايات المتحدة. هنا تكمن نقطة الخلاف الكبرى بين الملايين ممن رأوا في شخصية أوباما المخلص الذي سينقذ العالم من متاعبه وآلامه وبين أولئك الذين رأوا في أوباما مرشحاً تتركز قوته في إجادته، ببراعة نادرة، حشد الصفوف خلفه عبر الخطب النارية وتكمن نقطة ضعفه الأساسية في خبرته السياسية الضئيلة التي تجعل منها قزماً أمام وحش التحديات التي تواجه الولايات المتحدة والعالم في الوقت الراهن.
إذا أخذنا في الاعتبار الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وحضارياً على الصعيد العالمي فلست أعتقد أن أوباما هو الرجل المناسب لقيادة العالم في المرحلة الراهنة من التاريخ الإنساني، وذلك رغم احترامي الكامل لموهبة أوباما في الوصول إلى قلوب مئات الملايين في فترة قصيرة. على صعيد سياسات أوباما الداخلية يتوقع خبراء أن تعاني الولايات المتحدة مزيداً من العجز المالي الذي تشهده بسبب اعتزام أوباما اعتماد سياسة تقوم على دور كبير للدولة في مجالات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية. كما يتوقع خبراء هروب كبير لرجال أعمال ومستثمرين من الولايات المتحدة بسبب الضرائب المرتفعة التي ينوي أوباما فرضها على الشركات وعلى الأفراد الذين يزيد دخلهم السنوي عن 250 الف دولار.
أما على صعيد سياسات أوباما الخارجية، فتعد هذه السياسات إحدى نقاط الضعف الخطيرة التي يحويها برنامج الرئيس المنتخب. ويرجع ذلك إلى عدم تمتع أوباما بالخبرة اللازمة في مجال السياسة الخارجية. يبدو أوباما غير مطلع على طبيعة الأحداث في البقاع الساخنة من العالم. ولعل موقفه من العراق وأفغانستان يعكس مدى التشوش الذي تتسم به رؤيتة للقضايا الملِّحة التي تنتظره.
يؤمن أوباما بأن لا أهمية للوجود الأمريكي في العراق وبضرورة الانسحاب الأمريكي الفوري من العراق من دون الانتظار لتحقيق الاستقرار الأمني اللازم لمساعدة الحكومة العراقية في مهمتها. يعزو أوباما رؤيته هذه إلى عدم وجود دافع قوي للوجود في العراق بعد ثبوت عدم حيازة نظام الدكتاتور السابق صدام حسين لأسلحة دمار شامل، وإلى عدم تهديد العراق لمصالح الولايات المتحدة. في الوقت نفسه يؤمن أوباما بضرورة تعزيز الوجود الأمريكي في أفغانستان، وبل بإمكانية توجيه ضربات عسكرية لباكستان بغرض السيطرة على زمام الأمور الأمنية في أفغانستان وتحقيق الهدف الأسمى للولايات المتحدة وهو اغتيال أسامة بن لادن. يبرر أوباما موقفه من أفغانستان برغبته في الانتقام من تنظيم القاعدة، الذي يتخذ زعيمه أسامة بن لادن من أفغانسان مقراً، والذي هاجم الولايات المتحدة في عقر دارها في 11 سبتمبر 2001.
لا شك في أن رؤية باراك أوباما المشوشة للأحداث في العراق وأفغانستان والتي هي جزء من رؤيته العامة للأمور حول العالم تحتاج إلى إصلاح جذري وإلا فإن إدارة أوباما سترتكب أخطاءً لن تقل خطورة عن الأخطاء التي ارتكبتها إدارة جورج بوش. فالأوضاع في العراق لا تختلف مطلقاً عن الأوضاع في أفغانستان، ففي كلتا الدولتين تنتشر جماعات إرهابية فاشستية تتحدى الحكومتين الديمقراطيتين اللتين انتخبتا برغبة الشعبين العراقي والأفغاني، وفي كلتا الدولتين جماعات متطرفة ترغب في تحويل البلدين إلى مستنقين للإرهاب والإجرام. ولاشك في أن الانسحاب الفوري من أي من البلدين قبل أن تستقر الأمور فيهما سيقود إلى حروب وصراعات محلية وإقليمية لا يدرك أحد مداها.
ولكن ربما كانت الأوضاع في العراق أكثر خطورة من الأوضاع في أفغانستان بحكم التقسيم الطائفي الذي يشهده العراق والذي قد يدفع قوى أقليمية، سنية وشيعية، للدخول في صراعات مع بعضها البعض. ومن المؤكد أن يقود الاحتقان الشيعي/السني الذي تشهده المنطقة الإسلامية في الوقت الراهن إلى صراعات إقليمية غير محدودة يكون العراق محورها في حال انسحبت القوات الأمريكية قبل أن تتمكن الحكومة العراقية من فرض سيطرتها الكاملة على زمام الأمور في العراق.
لقد كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية نقطة تحول في تاريخ البشرية. ولقد ضرب الأمريكيون النموذج الأروع في الديمقراطية والتسامح والشجاعة حين نزعوا الثوب العنصري عنهم وانتخبوا أفرو-أميريكياً رئيساً لبلادهم. وعلى الرغم من أن الرئيس المنتخب باراك أوباما يبدو غير مؤهل، ما لم يثبت عكس ذلك، لقيادة القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، إلا أنني أتمنى للرجل النجاح حتى لا يخذل الشعب الأمريكي الذين انتخبه. التحديات التي تواجه أوباما جمة. خبرة الرجل السياسية الصغيرة تجعله يبدو كما لو كان قزماً أمام ضخامة التحديات. ولكن دعونا نتفاءل من حتى لا نفسد الانتصار الذي حققته البشرية بانتخاب أفرو-أميريكي رئيساً للولايات المتحدة.
جوزيف بشارة
التعليقات