شدتني المُعَلِقة الكردستانية للبحث في الصراع الدموي الذي حصل بين الاخوين الامين والمآمون أبناء الخليفة الرشيد العباسي وبداية الصراع بينهما قد بدأت بعد وفاة الرشيد سنة 193 للهجرة(اليعقوبي،تاريخ ج2ص436).والذي انتهى بقتل الاول وغضب الثاني ندماً على قتل أخيه وبقي في دمه ثأرا لم يخمد حتى قتل قاتليه والمحرضين على قتله. قال لي احد المؤرخين يوما يعاتبني لاننا كتبنا الكثير عن الخليفة المآمون وتجاهلنا الخليفة الامين.قال لي ياسيدي لقد أساء المؤرخون للأمين لانه عربي،ونحن أساءنا اليه لأننا لم نحقق في نكبته، فقلت له حكاية قرأتها من قبل لكنها بحاجة الى مراجعة نقدية حيادية لمعرفة الحقيقة،قال ابحث عنها فهي بحاجة الى تثبيت.

البارحة كتبنا عن العباسة وظُلمِها وما آلت اليها الامور.واليوم نشيرُ الى أختٍ ثانية للرشيد أسمها الفاختة التي هي الاخرى أحبت جعفر البرمكي معشوق النساء في زمانه لجماله المفرط وشخصيته الرجولية التي لا تقاوم على حد قول بعض المؤرخين (ابن قتيبة الامامة والسياسة ص172 وما بعدها)، وسلمتهُ نفسها طواعية كجواري القصرالجميلات البارعات في الجمال والخفة والحركة والاناقة اللواتي نأى بهن الزواج فرمين أنفسهن بأحضان الرجال لجنس لا يقاوم. لكن الرشيد لم يغضب لها بعد ان عرف ان جعفرا ًكان بريئاً من الذنب.لانه حين عاشرها ما كان يعرف بأنها أخت الرشيد بعد أن احتالت عليه ودست نفسها بين الجواري فوقع المحذور، نعم انها أكذوبة تاريخية ثانية لفقها المؤرخون المعادون للخلافة العباسية،لانهم يعلمون ان مثل هذه الطعون اشد وأمضى من السيف على رقبة الرشيد العباسي.لكن الذي يجب ان يقال هل كان بأمكان جعفر ان يتجاسر على حُرم الخلافة وهو في حاضرتها،وبهذه المكانة المرموقة فيها،وتلك الجواري الرائعات المتوفرات له في كل ساعة يريدها.كانت حكايات من نسيج الاعداء لا يقبلها العقلاء بقدر ما ينشرونها لغاية تشويه سمعة الخلافة لا غير..

لكن الذي يلفت النظر اليه يجب ان ينظر اليه بعين المعقولية والادراك الصحيحين،وان يُكتب عليه بالخبر الثبت والبرهان الصحيح،لا بالحدس والتخمين كعادة الاكثرية من المؤرخين حين يرمون المحصنات بالفحش والفجور والتي وقف منهم القرآن في سورة النور اية (3 )الموقف الصارم وعدهم من المعتدين،والله لا يحب المعتدين.فما الذي يجعل الرشيد يُزوج العباسة بجعفر ويشترط عليهما عدم الخلوة؟وما دامت أمراته شرعا فكيف يستطيع منع خلوتيهما معا؟ثم ما الذي جعل الفاختة اخت الرشيد الثانية وهي بارعة الجمال لم تتزوج برجل زواجا شرعيا لتذهب وتنام في احضان جعفر مثل العباسة، كما نقلتها لنا كتب الطبري وأبن قتيبة وغيرهما،وما الذي دعى جعفر ان يخطأ هذه الخطيئة الكبرى متجاوزا كل الحدود الشرعية والاخلاقية. يعلل بعض الؤرخين في مثل هذه الحالات الشاذة، ان التسيب والترف والدعة والدلال المفرط عند بعض ابناء وبنات الخلفاء والامراء والملوك يمنحهم فرصة عدم الالتزام بمعايير القيم الاجتماعية فينحرفون عن الطريق المستقيم، فيقعون في شباك الاخرين في قصورهم ومنتجعاتهم.وهذه حقائق تتكرر عبر الزمن.

للحقيقة والتاريخ نقول: ان التاريخ بحاجة الى مراجعة والمنهج المدرسي بحاجة الى اعادة نظر،لان النصوص المغرضة افسدت عقول الناشئة، فتربت على الخطأ التاريخي الذي حُفر في العقول وأصبح نزعه صعباً،لان دس النصوص المغرضة ضد من لا نرغب به او نكرهه عملية كريهة لا تتفق والمعايير الاخلاقية والانسانية، لانها كلها حكايات مكذوبة تسيء الينا والى خلفائنا والاخرين دون سبب مبرر مقبول. وكان على المؤرخين اصحاب الاوراق العتيقة الصفراء على حد قول السيدة المُعَلِقة الكردستانية ان يتحاشوا الاساءة ويلتزموا بالصدق والاحساس بالعروبة والاسلام أوقل حتى بأنسانية الانسان.لكن القلوب الحاقدة المريضة يبقى حقدها دفينا فيها كرأس الثعبان الذي لا ينام حتى يغرس اسنان السم بالضحية.

قصة الامين والمأمون هي قصة هابيل وقابيل حين قتل الاخ أخاه الاخر وجاء ذكرها (بالقرآن الكريم،المائدة 27-31 )، والقصة نوردها باختصار فنقول:
أصر الرشيد قبل ان يموت ان يكتبَ عهدا بين الاخوة في وراثة الخلافة للأمين والمآمون والمعتصم. والامين أمه السيدة زبيدة العربية الهاشمية،والمآمون امه فارسية هي جارية اسمها((مراجل) تزوجها الرشيد لجمالها بعد ان أعتقها من العبودية،والفرس يعتبرونها أميرة فارسية، والمعتصم من أمَةٍ تركية. هنا تشابكت الاقلام كل منها يدافع عن قوميته واصله في الرجحان.وكل منهما له من الوزراء والكتاب والمؤيدين اشبه بالعقارب والثعابين من اهل السياسة والخديعة لنيل المبتغى دون رحمة بدولة او شفقة بأمُةٍ او حتى بأخلاقِ انسان.

فأذا كان الرشيد محباً لابنائه الثلاثة بهذه الصورة الخيالية التي أوردها المؤرخون، كان عليه ان يفعل ليتفادى الصِدام، وما سيقع بينهم مستقبلا؟ وهو الاعلم من غيرة بدسائس السلطة وحبائك السياسة.كان عليه ان يفعل بدل هذا الميثاق المكتوب هو ان يكون للدولة مجلس أعلى من أهل الحل والعقد والاستشارة والرأي والعلم من القواد والوزراء والعلماء ليكونوا شهودا ورقابةً على كل خطأ قد يحدث مستقبلا ليضفي على عهده وميثاقة الشرعية الدينية التي لا تخرق.

هنا كان بأمكانه ان يضمن الرشيد ولا ية العهد وخلافة المسلمين لمن له الحق الشرعي فيها، ان كانت هناك له شرعية في خلافة العباسيين،هنا يسكت التاريخ؟،كسكوت الكتلة الساكتة التي أوجدتها الخلافة لتأييدها على السلب والايجاب لكنه لم يفعل،لماذا؟ لان الرشيد كان يريد الخلافة لمن اصله عربي هاشمي أبا وأماً،فكان في عقله الامين، لكن هناك قصورا منه في فهمه للاسلام الذي لا يفرق.أو قل عصبية تغلبت عليه، ففضل المفضول على الافضل،كما نحن عليه اليوم في ديار العروبة والاسلام. لقد كان المآمون أكثر كفاءة ومقدرة في أدارة الدولة بعد ان تدرب على ايدي القواد الكبار من الفرس امثال طاهر بن الحسين وغيره كثير، حين ولاه الرشيد ولاية خراسان التي خلقت منه رجلا شجاعا وقويا لا يهاب المنايا في حراسة الدين والدنيا،بينما عاش الامين في أحضان الترف والدعة عند أمه زبيدة المترفة مالا وجاها وسلطة،فنشأ نشأة أقلُ ما يقال فيها مدللة ومترفة لا تستطيع مجابهة الصعاب.

ففي كتب المصادر التاريخية حكايات عجيبة عن الامين تصفه مرة بالمنحرف جنسيأ،فهو الذي لا يهوى الا الغلمان،ومرة بالهوس في الشراب والمجون والثالثة في السحر والعربدة والجنون(أنظر حياة الامين في الطبري،الرسل والملوك ج8 ص278-281)،وكذلك عند أبن قتيبة في كتابه الامامة والسياسة)..فأذا كانت كل هذه الصفات فيه من قلة العقل وانعدام الكفاية،هل كان ذلك خافيا على ابيه الرشيد؟ فبايعة بالخلافة وهو يعلم امره والرشيد من اكثر خلفاء بني العباس حرصاً على ملكهم وخلافتهم؟ التاريخ لا يقرأ من سطوره ولكن يقرأ مما لم يكتب بين السطور، فلننتبه حتى لا نضيع حقائق الامور عند الاخرين المعادين لنا ديناً ووطناً.

الامين والمأمون كانا بعمر واحد،كلاهما ولدَ سنة( 170 للهجرة) لكن المآمون يكبراخيه الامين بستة اشهر فقط. فلا خطأ في التولية اذا علمنا ان الامين من ام وأب عربي هاشمي ومن زبيدة المفضلة عند الرشيد، لذا هو أولى بالتقديم ففعل. ان الخطأ الحقيقي ليس في التولية ولكن في الميثاق الذي كتبه الرشيد وعلقه بالكعبة واعتبر تقسيما للدولة لا ميثاقا للتولية،ومتى قسمت الدولة وضاع المركز وشرأبت النفوس الطامعة المريضة في حكم الناس ضاعت الدولة والناس معاً،وهذا ما نلاحظه اليوم في العراق بعد التغيير الاخيرالذي حدث سنة 2003 والذي أطمع كل الاطراف في حكم الدولة وتقسيمها الى ولايات،لكن الهدف هو تمزيق الدولة لا تقسيمها،والاستحواذ على ولاياتها الغنية لاحكمها بالقانون،وحين تصطدم المصالح تتقاتل الاطراف فيضيع الملك وكل الاخرين،وهذا ما يعيه المالكي اليوم خوفا من ضياعهم وضياع الملك الذي هم فيه يحكمون،لكن الذين يدركون القصد قلة من الحاكمين.ومن يقرأ العهد الذي أورده الطبري-ولا مجال لذكره هنا- يجد نفسه امام أسوا عهد كتب في التاريخ بين أخوين طامعين في حكم الدولة.،أذن كان العهد المكتوب هو سبب البلاء الاكبر بينهما. وما دام الاثنان بعمرٍ واحد، أذن من سيرث الاخر؟ هنا كانت نقطة الافتراق والتفكير بسياسة الاسوأ خاصة حين أضيف الى الميثاق المعتصم فيما بعد؟

ولابد لنا من ان نتسائل هنا:كيف كان الرشيد يبيح لنفسه الحرية قي ان يعطيه الحق في كتابة مثل هذه التولية السياسية الخطيرة دون استشارة جماعة اهل الحلِ والعِقد ويعطي لوزرائه من البرامكة هذا السلطان كله لو كان هناك قانون اساسي او دستور يحدد حقوقه وحريته وحقوق الاخرين؟ والغريب ان الرشيد ادعى ان البرامكة قد خربوا ونهبوا ملكه والدولة العباسية،وما درى ان استهتاره بالدولة وأصولها هو الذي اوصله الى حد الافلاس،علماً ان الحالة السياسية والاقتصادية لم تتحسن بعد نكبة البرامكة،لا بل زادت انقساما وسوءً. والسبب ان البرامكة كانوا من امهر الناس ادارة في التظيم المالي للدولة،وهم الذين انقذوا الرشيد من الازمات المالية والسياسية وحتى الاجتماعية،فلما ذهب البرامكة ظهر الافلاس المطلق على الدولة. فخسر الرشيد البرامكة والدولة معاً.حقائق يجب ان تكشف للقارىء وتكتب للتاريخ.

وكرت السبحة واثيرت العداوات الفارسية على العرب والتركية على الاثنين معا، فكان الذي حدث ان قُتل الامين بيد طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون الخراساني على ضفاف نهر دجلة الخالد وبتحريض من الحاشية والذي قال فيه المأمون عندما ادرك الخطأ:( والله لن يأخذني غمض حتى أقتلك يا طاهر)، ونفذ القصد فقتل طاهر ونام الامين ليلته هادئاً منتقماً لاخية الامين،لأن الاخوة في ميزان الاحساس للشعور الباطني لدى الانسان اقوى من الخلافة والمال،فالوطن والاخوة لا تُخان.وفي القصة شجون ومأسي لسنا بذكرها هنا ولا يسعنا المجال لذكرها، من يريد ان يطلع عليها فكتب التاريخ تحدثه عنها ما يريد.من تفاصيل تدمي القلوب وتبكي العيون.لقد ضاع ملك العرب بسبب خزعبلات السياسة وكيد النساء والجواري،(ان كيدكن غظيم )الذي لا يُرد ولا يُقاوم.

ان الشيء الاساسي الذي دمر نظام الدولة العباسية اوقل الدولة الاسلامية هوعدم وجود دستور للخلافة وحق الامة في أنتخاب الخليفة،وهذا ما وقعت فيه الامة وبشراكه وحباله بعد الراشدين (رض)وبقيت الخلافةعقدة المشاكل في التاريخ الاسلامي، لم تجد لها من احد يصحح ذلك الخطأ تصحيحا شرعياً بوضع دستور للامة بعد الدستور الذي كتبه محمد(ص) بيده الكريمة في السنة الخامسة للهجرة وأودعه عند المسلمين،لكي يسيروا على هداهُ ويبنوا دولتهم بمقتضاهُ، لكنهم لم يحفظوا لعهده ذكرا،ولاسلوبه في الحكم تطبيقاًً،فظلوا يرددون ان القرآن دستورنا،وما هو بدستورهم،وانما هو كتاب عقيدة وهداية وليس كتابا في النظريات العلمية أو القانونية، وما جاء فيه من ذكر للعلوم والقانون أنما جاء على سبيل العضة والاعتبار لاغير،لان النظريات العلمية والقانونية تتغير بأستمرار،لان الزمن يلعب دور في عملية التغيير، والقرآن ثابت لا يتغير.فماتت دولتهم يوم مات محمد(ص) وما دروا انهم هم الخاسرون. فنشأت الدولة دون دستور مكتوب،ولا قانون مدون،سوى عادات وتقاليد واعراف ماهي بنافعة بأدارة دولة كبيرة مثل دولة المسلمين او العباسيين ابداً.

وفي الوقت الذي كانت فيه الخلافة بحاجة الى دراسة وتنظيم. تركت هذه الوظيفة ذات المسئولية الكبرى دون تحديد مدة او مدى سلطان،لانها في النهاية ستتحول الى مَلكُ مستبد،وهذا لا يتفق كله مع طبيعة دولة الاسلام،وهي دولة الشورى،فظلت شرعية الدولة في مهب الريح كل يطلبها لنفسه حتى تحولت الى ملك عضوض لازلنا الى الان نكتوي بنيرانه. وهذا ما ينبغي ان نذكره دائماً حتى لانصيب الاسلام بأذى ونلحق به شرور الناس.فوالله لا عباسة ولا فاختة ولا خلاف الا على الملك والرياسة، لكنها كلها جاءت من نسيج الاخرين،ومن اجلهما قطعت رؤوس وسلبت نفوس ودمرت طقوس وأنهيت مجالس وأمانات وبيعت دول وحكومات فضاع معها الشعب والاسلام معاً،وهكذا في كل العصور والشاطر من يدرك الامر قبل حدوثه.وصدق من قال (ما سُلَ سيفُ في الاسلام مثلما سُلَ على الخلافة).فهل يدرك العراقيون اليوم ما حل بالاجداد.

د.عبد الجبار العبيدي
[email protected]