نعم، لقد أتى الوقت الذي بتنا نتغزل فيه بالرأسمالية وفضائلها الجمة وقيمها الاحتكارية النهبوية الأثيرة التي أفضت، آجلاً، إلى القضاء على الرأسمالية بصيغتها التقليدية المعروفة، بعدما كانت لعنة نفتتح بها صلواتنا السياسية ونستعيذ بها في كل مرة من الشيطان الإمبريالي. وبعدما كنا، وكمغفلين كبار، نتغنى ونحلم كالأطفال باشتراكية طوباوية مأساوية رثة لم تكن سوى واحدة من أكذوبات العصر الكبار ومن بنات أفكار بعض المرضى والرومانسيين الحالمين تكاسلاً بجمهوريات على النمط الإفلاطوني يأكل فيها الناس اللبن والعسل واللوز، وهم متكؤون على آرائكهم من دون تعب أو عناء. لقد تساوت الاشتراكية والرأسمالية في المعيار، فمهمتاهما أضحت التعتير والتشحير والإفقار والسطو المبرمج على الأموال والثروات، وتكريس مبدأ وقوانين الإفلاس. وصار بالكاد أن تفصل بين الرأسمالية والاشتراكية من هذا المنظور والاعتبار. فكما أفقرت الاشتراكية المغفلين والشعوب وأفلست بلداناً باتت تتسول الشعير والقمح والشاي، ها هي الرأسمالية تلعب نفس الدور في الإفقار. ولكن هذه المرة، لتفقر، أيضاً، نفس أولئك اللصوص وأساطين وأرباب المال الكبار الـ Tycoons الذين أفقروا الشعوب والأمصار. وباتت ديناميكية الرأسمالية تعمل وفق مبدأ النار التي تلتهم نفسها، إن لم تجد شيئاً تلتهمه، وتطبق على أصحابها بالذات. ومن هنا يتوجب رفع القبعة للرأسمالية نفسها، الآن، حتى ولو غضب البلاشفة، فها هي تأكل نفسها بعد أن أكلت وأخذت في دربها الملايين من الفقراء والتعساء والبؤساء وحولتهم إلى هياكل آدمية شوهاء. ( لن نتطرق هنا إلى المقال الهام لهنري كيسينجر، ومارتن فلدشتاين أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، في صحيفة quot;واشنطن بوستquot; تحت عنوان quot;قوة مستهلكي النفطquot; وتحدثا فيه عن أكبر هجرة في التاريخ وانتقال لرؤوس الأموال إلى الخليج، وضرورة وقف ذلك، والعمل ضمناً، لإفقار تلك الدول وإعادتها إلى سيرتها الأولى).

تريليونات الدولارات تحولها اللعبة الرأسمالية والخداع القائم على التجارة وتحريك الرساميل الافتراضي إلى سراب بلمح البصر. وتحضرني هنا تلك الحتوتة المعروفة لأحد أثرياء المنطقة من عرب quot;المنافطةquot;، الذي سئل كم هي قيمة ما تملك، فأجاب: ما أملك؟ قبل هذا السؤال أم بعده؟ إن هذه القصة برمزيتها الموجزة تلخص آلية الرأسمالية في طورها ونزعها الإمبريالي الأخير. فقد كانت الثروات تتضاعف افتراضياً في البنوك وفي السندات، والبورصات، وحين تتغير أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار النفط، وبيع الديون، من هذا لذاك، أما على أرض الواقع، فلا شيء بالمطلق، وكله كلام بكلام. وذهبت لذلك تلك التريليونات هباء منثوراً كالزبد ورذاذ الماء. لقد تبخرت وتلاشت في الهواء كفقاعة صابون بين طرفة عين وانتباهتها، رساميل ضخمة لا تأكلها النيران، وباتت قبض ريح تلفح وجوه مالكيها خيبة وألماً وإحباطاً بعدما حسب أصحابها بأنهم في مأمن من غدر وويلات الزمان. وباتت مثلاً، شركات السيارات الكبرى، والتروستات العملاقة، والكارتلات الضخمة تبحث عمن يستر فقرها، ويرمم أوضاعها، ويقيها غدرات وشرور الزمان التي كانت تسمع وتقرأ عنها في قصص الفقراء والبؤساء.

واحدة بواحدة. دين ووفاء. هذه هي الحياة يا عزيزي على الدوام C'est la vie mon cherie toujours !!!

ولم تستطع كافة الدعوات الإنسانية، أوالحركات الحقوقية، ولا الثورات الاجتماعية والبلشفية الحمراء والانقلابات العسكرية الهوجاء في التصدي للرأسمالية ووضع حد لها، أو الانتصار عليها ووقف نهمها المالي ونزعتها النهبوية الإخطبوطية أو ثنيها عن المضي قدماً في إفقار وتجويع شعوب الأرض واستعمارها وتسخيرها لصالح مؤسساتها الاسترقاقية المتمثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين، الذراعين الماليين للرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية. وكل بلد كان يسلـّم ويذعن لشروطهما، كان يعني بأنه يكتب ورقة نعوته بيديه، ويسلم رقبته للقصاب الرأسمالي ليعمل فيها quot;العمايلquot;، وحين يرهن أمره ويخضع لابتزاز إحدى هاتين المؤسستين، ليلتحق فوراً بركب المدينين الجائعين اللاهثين والعاجزين عن الوفاء بمتطلباتهما، وتدخل في معمعة ودوامة ابتزازية تقضي على ما تبقى من سيادة وكرامة وطنية لها.

خطة الإصلاح الجديدة التي تداعى لها الرأسماليون الكبار، تعني فيما تعنيه، إيجاد سبل جديدة لنهب الشعوب واستيلاد رأسمالية جديدة أكثر مناعة من سابقتها وعصية على الانهيار مستقبلاً. ومحاولة لإفقار من لم يفقر بعد، وتفليسه مجدداً، ولضمان عدم تعرض الرأسمالية لانهيارات متجددة، والتفكير في السبل الأنجع لشفط وquot;هبرquot; ما تبقى من أموال وثروات لدى هذا أو ذاك.

أما الفقراء، فحالهم هو نفس الحال. فلا الرأسمالية تنفعهم، ولا الاشتراكية تنشلهم من حضيضات البؤس والإملاق. وكما لم تعد الاشتراكية سوى بالنفع على البعض، في وقت ما، فهذا هو الحال مع الرأسمالية. وصارت اشتراكية الرفاق، تعني من حيث المحصلة والممارسة، معادلاً موضوعياً، لرأسمالية أرباب المال. ووضع الفقراء كان هو نفسه، عند هذا وذاك، وفي السراء والضراء، وهم دائما لا في عير، ولا في نفير أحد على الإطلاق. إنها سياسة الخداع المنظم والإقناع المؤدلج، على الجانبين، وصنعة بيع الأحلام والأوهام والمتاجرة الرخيصة بالشعارات.

ومع ذلك كله، فاللهم شماتة على هذه الانهيارات التي أفقرت الأغنياء وجعلتهم quot;زملاءquot;، وعلى سوية واحدة مع الفقراء. فكل حركية وآلية حتى لو رأسمالية ومن عند الشيطان نفسه، تقرب الناس بعضهم إلى بعض، تنعدم بها الفوارق الطبقية، وتتساوى فيها مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، وتنتفي منها كافة الامتيازات والتمايزات، فأهلاً ومرحباً بها على الدوام.

نضال نعيسة
[email protected]