ما هو السبب الذي يجعل دور المثقف الاجتماعي والسياسي والثقافي دون المستوى المطلوب؟ هل للأمر علاقة بضعف الاستقبال الجماهيري وتأثير الوسط المناهض للمثقف أم أن السبب في المثقف نفسه الذي أصبح اعجز من أن يمارس مثل هذا الدور الطليعي الذي يحتاجه المجتمع بشدة إن الإجابة على هذا التساؤل ربما تضعنا أمام أهم ركن من أركان المشكلة الثقافية لان دور المثقف المعطل لا يقل أهمية وتأثير عن دور العوامل السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها وبالطبع لا يمكننا أن نحمل المثقف وحده مسؤولية هذا القصور لان منطقة بهذا التشابك والتعقيد أصعب من أن يتم تأهيلها وتوعيتها بوسائل ثقافية محضة وبعدة بسيطة كعدة المثقف لان تربتنا الثقافية التي تشتغل عليها مجرفة المثقف بوار بفعل التخريب و الإهمال الطويل وهي بالإضافة إلى ذلك ممتلئة عن أخرها بحفر التعصب ومستنقعات الكراهية التي تعشش فيها أفاعي اللسع العنصرية وجرذان القرض الشوفينية التي تشوه وجهنا الثقافي حتى أصبحت منطقتنا أرضا قفرا تكاد لا تصلح إلا للمقابر ومناظر الخراب ولذلك لا يمكننا أن نحمل الواقع مسؤولية البوار وعقم المنتج الذي يتحمله بشكل أساس المثقف زارع الثقافة ومنتجها الأساس مع إننا لا ننكر أيضا مسؤولية الجهات والعوامل الأخرى السياسية والدينية والاقتصادية والتربوية والإعلامية إلا أننا لا يمكن أن نعول على جانب من هذه الجوانب بمثل ما يمكن أن نعول على المثقف لان مهمة هؤلاء محددة بإطار معين ولا يمكن أن تزيد أكثر فإذا كان السياسي مسئول عن إدارة الدولة وتقرير سياساتها في الداخل والخارج فلن يكون مسئولا عن وضع فلسفتها العامة وإستراتيجيتها على المدى البعيد وإذا كان رجل الدين مسئولا عن الوعظ والإرشاد الديني واستمرار هيمنة الظاهرة الدينية وتأثيرها في النفوس لن يكون مسئولا عن الغلو والتطرف الذي ينتج من هذه الظواهر وإذا كان التربوي مهتما باستمرار تصاعد نسب النجاح وتراجع نسب الفشل لن يكون مسئولا عن استقرار العملية التربوية وتوفير سبل ارتقائها أما الاقتصادي فقد يكون مسئولا عن إدامة العملية الاقتصادية وتطوير العمل الإنتاجي لكنه لن يكون مسئولا عن خلق جو ثقافي ونفسي مرن يسمح بازدهار العملية الاقتصادية ويفعل عوامل ديمومتها فالمثقف هو الوحيد القادر على ذلك وهو الوحيد الذي يمكنه أن يمارس دوره في أكثر من نطاق لان الثقافة هي الحاضنة العليا لكل تفرعات الواقع وهي الساحة التي يجري عليها هدير الفعل الاجتماعي وبدونها لن يكون هناك لا حياة اجتماعية ولا ادوار ومن خلال فهمنا لأهمية الثقافة ودورها الكبير نستطيع أن نفسر سبب النكبة الحضارية التي يواجهها مجتمعنا والفوضى العارمة التي يشهدها واقعنا في أكثر من مجال فكل برامج التنمية الاقتصادية والتطور العلمي والتكنولوجي وتطور الوسائل التربوية والأجهزة الإعلامية ووسائل البث والعمل الإعلامي وتفعيل دور الدين ورفع مستواه وتحسين الأداء السياسي والسلوك الحكومي أو الارتقاء بفعالية مرافق الدولة لن يعوض الحاجة إلى دور حقيقي وملموس للمثقف فالقضية الأهم تبقى عصية على كل هؤلاء لان المطلوب هو خلق جو ثقافي امن ومستقر للتطور والرقي وهذا الأمر لن يكون ممكنا بدون تفعيل دور المثقف وتنشيط أداءه ليغدو بالمستوى المطلوب ولعلنا نمتلك الآن الفرصة التي تسمح لنا بإخراج المثقف من قالبه التقليدي ووضعه أمام مهام جديدة سيما بعد أن تهيأت الظروف لذلك وأهمها الظرف السياسي ومثلما هيأت مدافع نابليون السبيل لنهضة عربية جديدة يمكن أن توفر الظروف التي يشهدها العراق الآن مثل هذه الفرصة من اجل إنتاج نهضة عراقية حقيقية لان النهضة السابقة لم تكن حقيقية ولا عراقية فهي مجرد استيراد لتجارب مصرية أو سورية لا أكثر وعلى المثقف العراقي إذا أراد أن يكون أمينا على مسؤوليته أن يمارس النقد بأعلى صوره وان يعرض السلبيات كما هي ويمتنع عن أي شكل من إشكال المخاتلة والمحاباة ويقلل من المجاملة والعبارات الفضفاضة في تناول الأمور المهمة والحساسة وعليه أن يكون صريحا في عرض المشاكل دقيقا جريئا في وضع الحلول والعلاجات فلن يكون مناسبا بعد الآن السكوت عن خطا أو مجاملة مسيء وليس مناسبا اختيار الصمت وتفضيل الهدوء لان ففي ذلك خيانة لدور المثقف الحقيقي. أن على المثقف أن يدرك أن مهمته تفرض عليه الخروج من القالب القديم الذي عرفه وهو دور البوق الذي يجمل للسلطان هفواته وللمسيء خطيئته ويبرر المواقف بما يخدم الغرض السياسي فهذا الدور العبودي لم يعد خليقا بعنوان المثقف الجديد مثقف النهوض والتطور الذي اختاره المجتمع ومن اجل أن تغدوا الصفحة جديدة وناصعة لابد من نزع الأردية القديمة ونسيان كل ما له شان بالماضي حتى نكون قادرين على مصافحة الحاضر بأيدي طليقة لكن هل يمكن للمثقف العراقي أن ينجح وهو محاصر بالرعب والخوف والتحريم ؟ حيث يعد العراق احد أكثر البلدان خطرا في العالم و بسبب ذلك ربما لن يتمكن المثقف من مغادرة رداءه القديم وأداء دوره الجديد على أكمل وجه وبالطبع يراهن كثيرون على تأثير الظروف في إعاقة دور المثقف مثلما يحصل في فترات التاريخ السابقة وهؤلاء الذين يعولون على ذلك هم الذين اعتاشوا طويلا على معانات المجتمع وتاجروا بإحزانه وآلامه وهم يدركون أن بقائهم رهن بفشل المثقف أو المشروع النهضوي الجديد لكي يعيدوا سيرتهم الأولى ويداوموا على مص دماء هذا الشعب المنهك كما كانوا يفعلون فيما مضى. فهل يقبل المثقف بذلك ويسمح باستعباد الناس من جديد ؟ أم يمارس دوره بصرف النظر عن المخاطر مستلهما تجربة أسلافه من مثقفي العراق الأوائل من أمثال عبد الله بن المقفع والجعد بن درهم وسعيد بن جبير وحسين بن منصور الحلاج وسواهم مما قدموا حياتهم قربانا لأمانتهم وصدقهم.لاشك أن مثقفنا الجديد قادر على أن يعيد سيرة هؤلاء ويمارس نفس الدور الذي مارسوه بالنظر لامتلاكه الدافع والإصرار النابع من الحرص على المكتسبات ولوجود مستلزمات أكيدة للنجاح وافق واضح للتطور أسسه الواقع السياسي الجديد ولأول مرة منذ عقود عدة يغدوا المجتمع العراقي أمام بداية جديدة يفترض أن يستغلها بالشكل الصحيح والأمثل وإذا كان الاحتلال البريطاني للعراق بداية القرن العشرين قد أرسى البداية لواقع أكثر جدة ووضوحا فان الحال الجديد وضعنا أمام أفق كبير بإمكاننا استثماره إلى ابعد مدى خصوصا باستلهامنا للتجربة السابقة التي انحرفت بتبنيها لمشروع نهضوي غريب لا يمت لواقعنا بصلة هو المشروع العربي القومي الذي وضع على مقاس غير مقاسنا حيث نضج في القدر السوري والمصري قبل أن يغدوا طعاما جاهزا لشعوب عربية أخرى لم تعتد عليه وإذا كان مثقفنا السابق مجرد ناقل أو مقلد لتجارب الآخرين عليه اليوم أن يكون أكثر تطابقا مع حاجات واقعه ويمارس دوره بشكل حر ومستقل عليه أن يطبخ نهضته بنفسه حتى تكون ملائمة لواقعنا ومتطابقة مع حاجاتنا فهو معني أكثر من سواه بمعاينة مختلف زوايا المشهد الجديد ليكون قادرا على وضع النقاط على الحروف وتوجيه الدفة نحو النهاية المأمونة فان لم يفعل ذلك يكون قد استهان بالدور الذي أنيط به وقنع بحياة الخنوع والرتابة مضحيا بمصلحة الناس والبلد من اجل مصلحته وسلامته ليعود إلى الشخير والكسل من جديد أو الرضوخ للانحرافات والأخطاء. فإلى أي جانب سيميل المثقف العراقي هذا ما نراه في قادم الأيام.

باسم محمد حبيب