نحو مصالحة صادقة بين الفرد والمثقف الشرقي مع الحياة والثقافة

المشهد الأول: رجل في يده سيجارة، يجلس على الكرسي، واضعاً رجله الواحدة على الأخرى. يقرأ الجريدة وفي يده فنجان القهوة، في مقهى غربي الهوى والشكل!

المشهد الثاني: شاشة قناة فضائية، فيها رجل يلبس الطاقم الرسمي، أو يلبس الزي الغربي (كاجوال)، يُسفسط في السياسة والثقافة، ينمق الكلام بألفاظ فضفاضة، ويزين بحركات اليدين التمثيلية، حضوره المنطوي على عثرات نفسية عميقة وتعبة!

المشهد الثالث: إسمٌ يتكرر على صفحات الجرائد، والمواقع، ينشر المقالات تلو المقالات. لا يسمي نفسه رسولا، لكنه يلعب الدور نفسه كوصي على الجماعات البشرية، فيوزع ويطرح شهادات وأحكام وآراء يراها مطلقة الصواب، لأنها سالت من شرايينه المشدودة في الدماغ!

هذه هي صورة المثقف في الذهن العام، وكذلك هيئته، وتعريفه في واقع الحال!

ومن سوء الحظ، فإن تدافع الأحداث، وتراكم المآسي في النواحي الحياتية، والفوضى والإضطرابات التي نعيشها منذ عقود، جعلت الناس (ومنها المثقفون) تتصور أن الثقافة هي هكذا، نظريات ومقالات وجدالات، وإستغراق في الأفكار وسجالات في اليوميّ من السياسة!


على أن الثقافة هي أوسع وأشمل بكثير، من أن تُحصر في مجال ضيق. وتعريف المثقف بالضرورة ليس حصراً بفئة معينة داخل المجتمع. هذا الخطأ المشاع تكوّن بفعل عوامل كثيرة مرتبطة بحركة المجتمعات البشرية في غمار صراعات كثيرة أخّرت نمو عبقرياتها الكامنة التي خمدت وأهدرت في الحروب، والنزاعات على السلطة، والصراع على الوجود في ظل طبقية مهيمنة على البشر!


هذا الخطأ أمسى كالمسلمات العقدية التي لا تفكر الناس فيها، مسلِّّمَةً أمر ذلك إلى ما هو مشاع، لتتماهى فيه كقطيع الأغنام، متجهة الرؤوس نحو إتجاه واحدٍ سيراً في الطريق!
الطبقة المثقفة (إلا ما رحم ربك)، يستهويها هذا النوع من التفريق، لأنه يعطيها مكانة مميزة (من الإمتياز) معنوياً ومادياً!
أي أن ما يتململ تحت جوانح هذا (المثقف) أو ذاك، هو هذا النزوع المجوّف/ الباطني نحو الإمتياز عن الآخر (وهو هنا المجتمع)، للشعور بالتعالي عليه والأفضلية منه!
أي أن المثقف quot;فوقانيquot; في لا وعيه المزيّف، وله إذن أن يملي على الفضاء الخارجي (خارج الذات: الآخر/المجتمع) في مشهدٍ يبدو فيه هو فوقانياً ومحورياً، فيما يغدو المجتمع مختبره للتسليّة، وخشبته لطرح الذات!
ومن هنا يأتي دوره التمثيلي كوصي ومرشد للمجتمع، فيملي ـ ولا بأس إن كان لغواً أو زبداً أو غثاءا ـ من الآراء والفرمانات إن جمعناها، صارت جبالاً من الكلمات والأفكار التي ماتت قبل ولادتها (لاحظ هذا الكم الهائل من المواقع المقروئة والمرئية)!
المهم عنده أن يشبع رغباته الدفينة، وتلك التي تطل برأسها!

لكن هناك مساحة واسعة، تشكل معظم المفهوم الثقافي، إلّا أنها مهملة متروكة لدى (الطبقات المثقفة) أو الهاوية لهكذا نمط/ (إمتياز)، وكذلك لدى الناس في فهم المحتوى الثقافي وممارسة مصاديقه في جوف الحياة.

هذه المساحة، وهي الأكبر، هي في الأساس حياتنا العادية البسيطة!

إن الوسيلة العظمى التي مهدت لهيمنة هذا المفهوم الناقص والمريض، هي التكنلوجيا الحديثة وبالأخص التلفزيون والإنترنيت!
مع التنويه إلى أن نشوء هذا المفهوم يعود إلى زمن بعيد، يسبق عهد الثورات الإجتماعية والتنويرية في أوروبا. لكن النمط تكرّس في خلال تراكم رافق تطور المجتمعات، التي لم تُمَحِّصْ في جملةٍ كثيرة من المفاهيم والمصطلحات السائدة، حتى ترسخت بإطِّراد.

والحال، وكما نرى اليوم بأعيننا، نجد فراغات كثيرة على مستوى النفس في مجتمعاتنا. كثرة البهت والخواء، تنافر وإضطراب في العلاقة بين الفئات والمكونات وأمراض كثيرة لا تُحصى!
لكن هناك فوضى ولغو ساهب، زبدٌ طافح يملأ تلك الفراغات لتفتح بدورها أجوافاً أخرى أكثر فراغاً، بإنتظار إملاءٍ خالي الجوهر والوفاض!
وفي هذه الحال تصبح/ وأصبحت علاقة الفرد والفرد، علاقة غير متجانسة. علاقة الفرد والمجتمع محكومة بالتنافر والغش. علاقة الفرد والسلطة منضوية تحت جناح الظلم والنفاق. علاقة المجتمع والسلطة، كَلَوْي الأعناق وثني الرقاب، بوسائل الإستبداد والحيلة والكذب.
وفوق هذا كله، تمسي/ وأمست علاقة الإنسان بالحيوان علاقة ظلم وصراع: هذا يريد إلغائه وإفنائه، وذاك يريد البقاء في الوجود!
وأبعد من ذلك تغدو/ وغدت علاقة الكائن الإنساني بالطبيعة، علاقة قهر وإهمال وإبادة!
المسألة الأولى في علاقة البشر بالبشر في الشرق معروفة، لذلك لا حاجة لذكر الأمثلة. فالجميع يعرف في أي أنفاق مظلمة تجري السياسة وعلاقة الأفراد والمجتمع والسلطة.
لكن لنضرب الأمثال في المسألتين الأخيرتين، أي في علاقة إنساننا الشرقي بالبيئة/ الطبيعة وعالم الحيوان.
إن الملاحظ عندنا، أن الإنسان في منطقتنا لديه رغبات جد شاذة وغريبة في قهر الحيوان، حتى للتسلية، وإفنائه بطريقة وحشية!!
لذلك فليس غريباً أن نفتقد إلى وجود حيوانات كانت تعيش معنا منذ زمن بعيد حتى انقرضت عندنا، ولم نعد نشاهدها إلا في القارات البعيدة عنا، وعبر شاشات التلفزيون!
في كُردستان هناك جبال لا متناهية، كما يقول أحد الكتاب. لكن وجود الغزلان والأرانب والسنجاب والحيوانات الأخرى، أصبح بمثابة معجزة تستحق الإحتفال بها!
في لبنان هناك الجبال والوديان، لكنك لا تجد أرنباً أو غزالاً أو ثعلباً على سبيل المثال. في سوريا وفي عموم بلداننا نعاني فقراً شديداً من وجود حيوانات كانت تعج بها المنطقة قبل عقود. زيارة ما يُسمى بحديقة الحيوانات في بلداننا، تثبت (وحشية الشرق!) في عدم التردد في القضاء على هذه الأجناس من المخلوقات، التي وصفت في القرآن الكريم بالأمم (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) الأنعام 38.
شاهدت بنفسي في هذه البلدان والممالك، تعمّد الناس في قتل القطط و الطيور للمتعة فقط: متعة القتل!

بالرغم من أن الشرق يقع في قلب العالم، ويتمتع بالفصول الأربعة في السنة بشكل منتظم، وبالرغم من الجغرافية المتنوعة فيه من جبال ووديان وسهول وصحراء، لكننا نعاني من الخضرة والجنان والغابات بشكل كبير.
بلادنا قفراء في جلّها، يكسوها الغبار واللون الرمادي المُحبِط للنفس، المثير للكآبة!
تمر في الشوارع تصدمك النفايات والبقع والعثرات. بيوت غير متجانسة، تطل على طرقات متعرجة، غير منتظمة، تخلو من خضرة وحياة إلا الفوضى التي تمتلئ بها!

إننا في هذا الواقع نمارس الثقافة!
وأي ثقافة وبأي معنى؟!
ثقافة الكلام، كتابة المقال، نشر الكتاب (بالرغم من محتواه)، نقاشات تلفزيونية، ندوات، جرائد ومجلات، سياسات، جدال ولغو...
وكأن الثقافة هي هذا كلّه!
وتركنا أفراداً وجماعات، مساحات كبيرة نقدر أن نمارس الثقافة فيها، بوسعة هادئة ورحبة وجميلة.
ألا يقدر الواحد منا أن يزرع في باحة بيته بضعة أشجار، ويملأ الأرض خضرة وعشبا؟!
ألا يمكن أن نزرع العشب الأخضر أمام فناء بيتنا الخارجي، لنعطي مكاننا الذي نتجول فيه الحياة والبهاء والزينة؟!
أذلك مُكلفٌ جداً لا يمكن فعله، أم أن الكسل هو السبب الأكبر؟!

ألا ترى أنه من الضروري أن نقيم الرحلات والأسفار، حتى داخل البلد الواحد ونكتشف نحن بأنفسنا جبالنا وودياننا وسهولنا الفسيحة، قبل الإنسان الغربي الشجاع حقاً؟!
مالذي يمنع ثلاثة أو أربعة شباب أن ينضموا إلى فريق واحد، ويسيروا في بلادهم الواسعة لأيام، يصفوا فيها مع الطبيعة بعيداً عن ضوضاء المدينة؟!

اليس من الثقافة أن نمارس الرياضة (كمثقفين!) باستمرار، كالسباحة والجري أو أي نوع آخر؟!
أليس العقل السليم في الجسم السليم؟!
كم هو لطيف وجميل أن يجتمع بعض المثقفين، في أي بلدة أو مدينة، ليطرحوا مشروعاً عملياً ويباشروا فيه، كتحويل بقعة أو زاوية إلى نقطة خضراء حية؟!

وكيف إذن تكون (ثقافتنا الأحادية التي أشرت إليها آنفاً)، نابعة من عقل سليم، إذا كانت هذه الأنماط الأساسية غائبة في بلداننا؟!
هل يُعقل أن يصدر كل هذا الكم الكبير من الكلام المسموع والمقروء، من واقع صحيح البنية والقوام، في الوقت الذي نفتقر إلى أبسط وئام وإستئناس بالحياة، من قواعدها الضرورية؟!
وهل لدينا كلامٌ إلا وأغلبه في سياسة بائسة، وحروب ومعارك جنونية، ويوميات مليئة بالتعاسة والشقاء والتخلف؟!

إننا كمجتمع وكأفراد نعيش على بعد شاسع مع الثقافة في كلَيتها، لذلك فما يملأ الفراغات على صعيد نفوسنا هو الكثير من المسائل التي لا ينبغي وجودها في كينونة صحية، وبنية سليمة مثل: مضيعة الوقت، الكآبة، اليأس، العنف، الغيبة، اللغو، السطحية والتعصب، الكره والأحقاد، الفضول والملل والعجز عن إنجاز ما يعطي المعنى الحقيقي لحياتنا!

يجب أن نتصالح جميعاً مع الحياة!

لكي نعطي ثقافة مفيدة وذات جوهر، علينا أن نتصالح مع أنفسنا ثم مع البيئة، ثم مع مخلوقات لها حق الحياة معنا في هذا العالم.
يجب أن نتصالح مع أبداننا ونعيد الحياة إليها!
لكي نكون مثقفين حقيقيين، علينا أن نحرر ونشفي أرواحنا وأبداننا من الآفات والأمراض، كالغيبة والنميمة والكره والأحقاد والكسل واليأس!

إنها لثقافة عظيمة أن نعيد الخضرة والجمال، إلى بلداننا ومدننا وشوارعنا، دون إنتظار الحكومة ووزاراتها التعيسة!
إن المتعة في الحياة لهي ثقافة بحد ذاتها!
الثقافة ليست فقط ما نفعله نحن في الشرق، كثرة الكلام، وكثرة الأكل، وكثرة التجمد أمام التلفزيون، وكثرة الصحف والمواقع والمجلات!

إن الحياة أوسع بكثير، وكذلك الثقافة!
وليكن هذا المقال إملاءا حسناً، ليس بصفة ممارسة المحورية وتوجيه رسالة فوقانية، إنما في الإستفاقة من إهمال ما هو أهم في حياتنا، نعرفه جميعاً ولا يحتاج إلى عبقرية فذة لإدراكه.

علي سيريني

[email protected]