يعد تيار الوسط في أي بلد وأي مرحلة، ظاهرة صحية، خاصة في المجتمعات التي تتسم بالمشاركة السياسية الفاعلة لجميع القوى السياسية فيها على أسس ديموقراطية. كما ويعد إلى جانب الحركات الوسطية بمثابة عامل توازن بين التيارات اليمينية واليسارية، الراديكالية المحافظة والليبرالية والمنفتحة. وقبل كل هذا يعد عامل كبح لجماح ونزق الجماعات المتطرفة من كل الأطراف. وبهذا فمن المتوقع أن تكون التيارات الوسطية عوامل استقطاب في المجتمعات التي تعاني أزمات سياسية مبنية على أسس استقطابات فئوية (طائفية، قومية، مذهبية، ايديولوجية، جهوية...الخ).


وغالبا ما تكون التيارات المعتدلة التي تحاكي رغبات المواطن في التعايش الآمن وترفع شعارات تهدف إلى تحقيق الرفاهية والعدالة الاجتماعية وتحقيق تكافؤ الفرص والنهوض الاقتصادي والعلمي وما إلى ذلك، غالبا ما تعد مشاريع منقذة للبلدان التي تعاني من أزمات استقطابات النخب السياسية المتطرفة.


ويضم تيار الوسط على الأرجح، الفئات المتعلمة والنخب المثقفة التي تترفع وتربأ بأنفسها عن أي ولاءات فئوية ضيقة لا تنسجم والقيم الإنسانية، والوطنية الحقة والتي تدفع إلى صراعات مسلحة تفسد السلم الاجتماعي.
ولا شك أن تيار الوسط حقيقة ثابتة وموجودة في أي مجتمع، لكنه يحتاج إلى قيادة أو قيادات ناطقة باسمه، تبرز هويته، وتلم شمله وتأخذ بيده نحو تحقيق أهدافه عبر الوسائل السياسية السلمية. وبالتأكيد فإن العملية السياسية المبنية على أساس التداول السلمي للسلطة عبر الوسائل الديموقراطية المتاحة هي السبيل الأفضل، سيما وأن هناك من وسائل الإعلام المتاحة وحرية التعبير عن الرأي وإن كانت على درجات.


وإن هذه القيادة تبرز من بين صفوفه وليست قافزة من خارجها إليه مصطنعة مدعية شعاراته، تفشل في أول إمتحان لاختبار إعتدالها. وأن تجيد أصول اللعبة السياسية الديموقراطية وأسسها.

وفي الشأن العراقي، فإن الصورة تبدو قاتمة إلى حد ما للأسف الشديد، فوفقا لهذه المواصفات فإننا لا نشهد وجود قيادات بارزة خاصة بعد مرور خمس سنوات على التحول السياسي في البلد الذي يعيش مرحلة إنتقالية بكل شيء، ويعاني أزمة وجود قوات أجنبية (احتلال) على أراضيه، ومر بمرحلة قاربت صفة الحرب الأهلية الطائفية، نتيجة لتصدي قيادات متطرفة لفئات نافذة في المجتمع، وقدوم أفواج من الذين جندتهم الحركات الإرهابية التكفيرية. ونفوذ هذه الجماعات هي قوة السلاح بمقابل ضعف سلطة القانون الناجمة عن انهيار مؤسسات وأجهزة الدولة كاملة، وجهل أو هدف مغرض من قبل قوات الإحتلال بالسماح لها بالبروز إلى الساحة.
لقد كانت سمة بعض القيادات السياسية العراقية المحسوبة على تيار الوسط، الإنتهازية والتصيد في الماء العكر. وهو خلاف النهج السياسي المعروف للمنافسة السياسية الشريفة التي تقتضي تسقط أخطاء الخصوم وقلبها لمصلحة الشعب وليس الذات، ولكن ذلك بدا إنه مجرد تسقيط ونيل من الآخر وحسد من بعض نجاحاته التي حققها. ودون طرح بدائل للمشاريع الفاشلة لدى الخصوم.
وهكذا رأينا أن بعض هؤلاء يظل صامتا في أحلك الظروف، ولكن يطل برأسه غيضا وحسدا حينما يرى بعض الأمل في الخروج من مأزق البلد يحسب لهذا الشخص أو تلك الحكومة. والشواهد كثيرة ولا تحتاج إلى سرد. ورأينا مزايدة البعض واستعداده حتى إلى الإنقلاب على العملية السياسية، إذا ما خسر quot;المعركةquot;.


فأين هذا من تجارب المنافسة السياسية في بعض بلدان العالم المتقدمة في هذا المجال، حيث نرى أن الخصم السياسي سرعان ما يسارع إلى دعم خصمه ومشروعه في حالة تأكد نجاحه، وتجاوز أزمة البلد أو أمل في ذلك.


إن من سمات بعض ما يمكن أن يحسبوا على قيادة تيار الوسط العراقي، الإنزواء أو الإستسلام إلى مشاريع إقليمية دولية، أو ارتداده إلى طبقة طائفية أو جهوية بحته، ناسفا تاريخه بدقائق معدودة. في حين يقتضي النهج السياسي السليم، التروي في إطلاق الأحكام والردود المستفزة وأن تكون طروحاته مستهدفه الناخب قبل الخصم، لأنه الحكم النهائي والسلم الذي سوف يرتقي عليه هذا السياسي.
خلاصة القول، إن تيار الوسط العراقي يفتقد الآن القيادة الراجحة التي تستثمر فشل المشاريع البعيده عنه وعن ذاته وطموحاته. وإن فرصة بعض القيادات التي لم تنزلق بعد، بعيدا عنه لازالت قائمة. ولكن عليها أن تجيد اللعبة السياسية التي تقتضي المنافسة الشريفة وجعل الناخب العراقي هو الهدف وليس الخصم السياسي. وأن توظف هفوات وأخطاء وحتى نجاحات الحكومة لصالحها وذلك من خلال دعم الحكومة في مشاريعها الناجحة وتقويمها في أخطائها. وأن تبني مشاريعها، وترفع شعاراتها وأهدافها المبنية على أساس حاجات المواطن الأساسية وما يطمح إليه.

* د. حميد الهاشمي

كاتب عراقي متخصص بعلم الاجتماع والانثروبولوجيا. www.al-hashimi.blog.com