أثبتت التجارب السياسية في العراق، في أكثر من مرحلة أو عهد مضى، أن منطق الرفض لمبدأ المواطنة و ممارسة سياسة التمييز العنصري أو الطائفي بدل منه، لم تجلب للعراق سوى المشاكل والنزاعات السياسية، التي عالجتها الأنظمة المتعاقبة في العراق، كعادتها دائماً، بعقلية الإستبداد و التشدد أو التسلط و التوتر بعد أن أعتبرتها جزافاً و من خلال نظام مخادع للتسمية، مشاكل مستوردة و مصطنعة، تقف وراءها أعداء العراق أو القوى الأجنبية والأقليمية المعادية!.


هذه العقلية، التي لم تؤمن أبداً بالأفكار العصرية والحداثية الكفيلة بإنفتاح البلد، بل لم ترغم نفسها أصلاً على الأيمان بما تضمن للعراق وحدته و أمنه أو أستقراره و إزدهاره، أفسدت و أهدرت عهوداُ سياسية ثمينة للعراق كان بالإمكان أستغلالها، بشكل عقلاني ومخطط، لتطوير البلاد سياسياً و أقتصادياً و إجتماعياً و ثقافياً، أو إستثمارها لأهداف نهضوية و تطلعات تنموية، تُحَوّل العراق الى أقوى بلد في الشرق الأوسط و أكثرها رفاهيةً و إستقراراُ. كما أن هذه العقلية، وأعني هنا عقلية النظر الى المواطن المختلف آيديولوجياً أو عرقياً أو طائفياً مع عقيدة قيادات الدولة أو منطق حكامها بنظرة العدو الداخلي الذي على الدولة و أجهزتها فوراً أحتواءه أو مراقبته و معاقبته أو إستبعاده من ممارسة حقوقه السياسية و المدنية، لم تفسح المجال أيضاً أمام العراقيين أن يلعبوا دورهم، كفاعلين إجتماعيين، في توجيه العراق و المشاركة الفعلية في صياغة سياسات الدولة عبر تكوين أحزاب سياسية، مختلفة الرؤية و المنظور، تُغني لنا آفاق البلاد و خياراته في وضع سياساته و أستراتيجياته و خططه الهادفة الى ترقية سمعة العراق خارجياً و توحيد صفوف العراقيين داخلياً. كما نلاحظ أن هذه العقلية أثرت بشكل فضيع على خطوط و طبيعة الأنتماءآت السياسية أو الإجتماعية في العراق وأنتجت نزعات مختلفة و متعارضة في الوقت نفسه مع الميول أو الأفكار الوطنية و القيم الحديثة التي تمنح الإنسان هويةً متحضرة و متجاوزة للهويات الإجتماعية التي تبدو دائماً بمثابة هويات ثانوية قياساً بالهوية الوطنية.


طبعاً ثمة قوى سياسية عراقية تتفهم هذه الآثار المخيفة و الكارثية لعقلية إستبعاد المواطن بل حتى إستعدائه لاشعورياً، و تعي مدى خطورتها على مستقبل العراق و وحدته سياسياً و إجتماعياً، ولكن الفهم و الوعي إزاء تلك المسائل الحساسة و المصيرية و إيجاد طرق المعالجة لها هو في رأيي شيئين مختلفين تماماً لا سيما أن مفهوم القوى العراقية السياسية لمسائل من هذا القبيل، والتي تمس مصير البلاد و مستقبله، يختلف نسبياً و كيفياً عن بعضها البعض نظراً لإختلافاتها الآيديولوجية و العقائدية أو السياسية والمصالحية و نظرتها للأمور التي تطرح نفسها عليها.


بمعنى آخر: ليس هناك إجماع فكري أو آيديولوجي ونظري لطريقة معالجة المشاكل التي خلفتها سياسات التمييز العنصري و الطائفي في العراق و لا هناك خطوات و برامج فاعلة و مؤثرة لمؤسسات الدولة العراقية و لا عند الأحزاب السياسية لأحياء و أرساء مفهوم المواطنة و روح الوطنية لدى المواطن العراقي بعد أن دمرتها تلك السياسات الشوفينية و الطائفية للنظام البائد. و المؤسف هو أن الوطنية والمواطنية كمفهومين مركزيين اللذين لاغنى عنهما لأية تنمية بشرية سياسية حداثية، قد خربتهما من جديد الأُسس البريمرية لبناء الإجتماع السياسي في البلد على الهندسة المُحاصصية الطائفية والتي ساهمت بدورها في ولادة روح الطائفية التي طغت تدريجياً على ممارسات الأحزاب و التيارات السياسية لتنتقل، فيما بعد، كمرض خبيث، الى جسد أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة كلها بيما فيها الأجهزة الأمنية و الجيش الذي شُكِّل هو الآخر بمنطق المحاصصة ذاتها على ما نلاحظ ذلك تماماً في طريقة توزيع فرق الجيش على جغرافيا الدولة و هيكلية الأفراد و العناصر المسؤولة فيه.


كما أن الإختلاف في الرؤية و النظر لدى القوى السياسية العراقية، لن يتجلى لنا بوضوح إلا من خلال رصدنا و مراقبتنا لخطابات تلك القوى الآيديولوجيةو الطائفية حول ما على الدستور أن يتضمنها من قيم و عقائد حداثية و ليبرالية أو إسلامية و تراثية أو ماركسية و قومية، نعي سلفاُ أن أغلبها تتعارض مع بعضها البعض بشكل أو بآخر، و خاصة عندما يُلاحَظ أن جميع القوى السياسية العراقية لا تريد أن تظهر و كأنها قوىً متماثلة أو فاقدة لمبررات وجودها سياسياً و آيديولوجياً، الأمر الذي يوحي ويؤكد دوماً أن أمام العراق مسيرة طويلة و شاقة من الصراع الآيديولوجي و الطائفي، و أن هذا الصراع يمكن أن يُجَمّد تماماً روح المواطنة و يُقَولب نظرة العراقيين لطبيعة علاقاتهم و إنتماءآتهم أو سبل إجماعهم و إجتماعهم، أو معالجة نزاعاتهم و إختلافاتهم و بالتالي يعمق آلامهم إذا ما تحول ndash; و هذا إحتمال مفتوح نوعاً ما - الى صراع مسلح على غرار الحروب الأهلية و المناطقية، وكذلك يمكن أن يؤدي الصراع أيضاً ndash; و هذا أيضاً إحتمال وارد - الى نتائج إيجابية سليمة تعود على العراقيين خيراً و رخاءاً إذا ما أُدير بطريقة دستورية و ديمقراطية و من خلال منطق اللجوء الى التفاوض و التحاور أو التواصل و التوافق وإذا ما أتفق الأطراف السياسية على مُسَلَمة ما هي أن الإنتقال من الحكم السلطوي الى الحكم الديمقراطي ليس بنزهة و أن الديمقراطية ndash; كما يقول السوسيولوجي الفرنسي الكبير آلان تورين ndash; ليست ساحة هادئة.

عدالت عبـدالله*

* كاتب و باحث كُردي عراقي