في غناء (يا ليل.. يا عين.. )
ما معناها..؟ولماذا يرددها المغنون في نهاراتهم ولياليهم؟

في مساءات الضجر وما اكثرها، اجدني في غفلة مني اطلق صوتي غناء، واذ لا اعرف كيف ابدأ وقد تداركني وجع ما، اسمعني اردد كلمات (يا ليل.. يا عين.. ياليلي يا عيني) وتمتد طويلا هذه الكلمات معي ولا اشعر بما يأتي بعدها، وطالما عادت الى لساني حينما اجدني ضجرا لا أقوى على قول ولا افكر في شيء!!، حتى ذات مرة وفي غفلة مني ايضا ركض الى لساني سؤال : لماذا يا ليل يا عين وليس غيرهما؟!!، وقد سمعت العديد من المطربين العراقيين والعرب على حد سواء يبثونها متألقة في اغنياتهم وهائمة في فضاءات حنينهم، لم احرص على ان اجد الجواب بقدر ما يعنيني انهما تستخرجان من داخلي بعضا من الالم المكبوت، ثم بدأت اكتب شيئا عنهما، كتبت :(في الغناء.. طالما ترنم المغنون بهاتين الكلمتين ويحاولون البوح فيها بذلك الالم الذي بين الضلوع، فيسرجون مهرتهما وينطلقون في اودية الليل هائمين بروعتهما، فيرسمونها بأصواتهم ممدودة، محلقة، ثائرة، حاسمة، يا ليل.. يا عين، ثم يردفونها بأخرى واخرى انتهاء بـ (_ياعيني يا ليلي) طويلة تستنفر كل جراحهم وشجونهم وبقايا اصواتهم ايضا!!)، لكنني فيما بعد ذهبت ابحث في الاصل، دفعني فضول غنائي لها في مساءات الضجر.. وما اكثرها، حيث الليل مفرغ من نشوته ونائم على طرقات الانتظار، وبعد جهد وجدت ان (ياليل ياعين) هي مما اتعب العديد من الباحثين ورسمت على البابهم علامات استفهام كبيرة متبوعة بعلامات تعجب اكبر منها، فراحوا يبحثون في ليل العرب الطويل وسحره عن تلك الرابطة التي بين غنائهم والليل، وقد احب العرب الليل فأرخوا بلياليه وابتردوا من هجير الصحراء، وقد وجدوا الشعراء يتنادون بالليل ويناجون مميزاته، وما اكثر الشعر الذي قيل عن الليل، بينما راح البعض يخرجها من الالحان السريانية ومن كلمة (هاليل) التي معناها (انشدوا) وعلى انها كلمة قبطية معناها (افرحي) أي ياعين افرحي، او على انها فارسية من كلمة (لال) التي معناها (الحبيبة)، بينما ردها البعض الى الفراعنة بمعنى (ايها الطريق الطويل) وهو ما يتغنى به العمال، مثلما ردها البعض الى كلمة (ليلي) الاشورية التي تعني (رسول) فيقصدون (رسول الحبيبة) مثلما عزاها البعض انها مأخوذة من الترك وهم يغنون (ياللي.. امان)، بينما راح اخرون يتسعون في البحث ويردونها الى (انليل) اله الهواء عند السومريين وكما يقول غوستاف لوبون: (ان الاشوريين كثيرا ما ينظمون الشعر الغنائي لتكريم الالهة وتمجيدها)، حتى انتهى الامر عند البعض الى انها عربية المراد منها نداء الليل.

اتعبني البحث مثل اولئك الباحثين وقبل ان افكر في الخطوة اللاحقة وجدتني اطلق صوتي الجهوري واقلد (ابا خالد) الفنان العراقي الشهير سعدي الحلي الذي اعتقد انه اكثر من غنى يا ليل ياعين واطرب فيهما، وكانت اشرطته الغنائية مزدحمة بـ (اليا ليل واليا عين) وان كان (ابو وحيد) المطرب فريد الاطرش قد زخرف العديد من اغانيه بهما وجعل الليل يرد على نداءاته، المهم ان الدهشة مما حصلت عليه اثارتني ورحت ابتسم لتلك الكلمتين الجميلتين اللتين تحملان من المعاني الكثير، قلت : لأستزيد فضولا واصر على ان اعرف اكثر عنهما، وفجأة تذكرت حديثا بيني وبين الاستاذ الراحل جرجيس الياس استاذ الفنون الموسيقية والتراث الاندلسي حول هذا الموضوع، واذكر انه قال لي : (ياليل ياعين وغيرهما الفاظ يسمونها بالمطيبات والزخارف لتجميل الغناء العربي الاصيل وعلى رأسه الموشحات الاندلسية، فالمغني يقول (ياليل) من شدة التعجب)، واضاف الياس : (انا اقول ان كلمة ياليل، ياعين،آه امان، يالا..لا، امرم افندم، كلمات تملأ بها بعض الثغرات في الغناء، واشار الياس : في كتاب (من كنوزنا) الذي انتجه اربعة مختصين وعلى رأسهم الباحث فخري البارودي والشيخ علي الدرويشي ابو الموشحات لم يرد ذكر الليل (ذكر) ولا عين (انثى) كما سمعت البعض يقول ذلك عنهما!!.

وضعت ما استذكرته على طرف ذاكرتي، ورحت اغني واخذت افكر كيف استزيد معرفة، وكلما تأتي على لساني هاتان الكلمتان اجدني اتحرق شوقا الى ان اعرف الكثير، يدخل الفضول كل خلاياي الحسية ويجعلني ادور في المكان بلا وعي، وبين فكرة واخرى قررت ان اتصل بالناقد الموسيقي العراقي المعروف عادل الهاشمي واسأله عن ياليل ياعين وان كان الوقت منتصف الليل فأتصلت، وكعادته بعد تأمل قال متحدثا عن حكاية هاتين الكلمتين الحلوتين : (في الاسطورة الشعبية المصرية القديمة.. ان رجلا اسمه (ليل) كان يحب فتاة اسمها (عين)، وحدث كما في الاسطورة ان فقدت (عين) حبيبها (ليل) اذ غرق في النهر او ابتلعه التمساح كما تقول المصادر، فأخذت عين تنادي (ياليل.. ياليل.. ياليل) وهي تبكي حزنا على فقده، ولما يأست من ملاقاته رمت بنفسها في لجة مياه النهر وماتت ايضا!!، فأخذ اهلها ينادون (ياعين.. ياعين.. ياعين) بحثا عنها وتحولت هذه الترديدة الى التعبير عن الالم الدفين بسياقات صوتية فيها شيء من التلحين الادائي الامر الذي تطورت فيه هذه الترنيمة الادائية الى ما يشبه الموال الغنائي، واكتملت بهذا الموال الغنائي اسباب الشخصية الادائية في الغناء واصبح قالبا غنائيا من قوالب الغناء العربي الذي يبدأ ب(ياليل) وينتهي ب(ياعين)!!).

في لحظة وجدتني ابتأس، كيف لي ان انوح وسط هذا الليل الذي اعشقه عن (واحد وواحدة) تحدثت عنهما اسطورة، قلت : لالالا، يا استاذ عادل!!، اغمضت عيوني متخيلا صورة (ليل وعين) وهما يتباكيان على بعضهما في النهار ربما!!، وسرعان ما فتحت عيوني على الليل البغدادي الجميل (على الرغم من ظروفه الدرامية واضوائه الخافتة) وتجولت في ارجاء السماء محدقا بالاشياء من حولي وبالهدوء، ثم رددت مغنيا : (ياليل : الصب متى غده ) وقلت لو انني عاشق ما قلت الا لهذا الليل ياليلي.. ياليلي، وما قلت : ياعيني.. يا عيني الا للمحبوبة، ففي الليل تتفتح كل ورود الحنين!!.

وكي تكتمل عندي الصورة في الغناء وجدتني اتصل بالملحن العراقي الكبير محمد جواد اموري لأسأله عن السياقات النغمية لقالب (ياليل ياعين) فأجاب :( في كل دولة عربية يؤدى هذا القالب بسياقات نغمية تختلف او تلتقي مع مثيلاتها في الدول الاخرى لكنها تؤشر الى حقيقة اكيدة ان هذا الضرب من الغناء هو ضرب عسير ومعقد وصعب ولا يمكن لأية حنجرة تأتي بفنون هذا الضرب ادائيا، الا من اكتملت له اسباب التفوق في مجال المساحة الصوتية وقدرة الاداء والاحساس بالكلمة والمعرفة بفنون الانتقال النغمي والمقامي ولذلك فأن من يجيدون هذا اللون من الغناء هم قلة قياسا الى عدد الاصوات التي تغني).

اذن.. انا والليل والعين ننصت لخفقات قلب المساء، وتظل كلماتنا ترقص على ضفاف الحنين، كنت ارى احوال الليل من حولي تدعوني الى ان استخرج مكنونات قلبي، وان اطلق صوتي في هدوئه محملا بكلمات كثيرة ابتدئها بيا ليلي وانهيها بيا عيني، ولكنني تريثت وأجلت الغناء الى ليل اخر!!!.

عبد الجبار العتابي

بغداد