وفق الحياة الحديثة ومفاهيمها وعقلانيتها، التي تختلف عن مفاهيم وعقلانية الحياة القديمة، فإن فهم الدين وممارسة التديّن بالصورة المتداولة الراهنة بين عامة الناس يتعلقان بالحياة القديمة، سواء ارتبط ذلك بالفهم المنتج من قبل المؤسسة الدينية التقليدية أو بالطقوس الإيمانية. فالفهم الديني والممارسات الروحية التعبدية لم يتأثرا بجوهر التغيّر الحاصل في جميع مناحي الحياة، بل ظلت تعيش تحت أسر صورة الحياة القديمة. وكما لا يمكن تجاهل العلاقة بين المفاهيم الحديثة وبين مختلف التطورات والتغيرات المادية والاجتماعية والتكنولوجية، حيث أن تلك التطورات والتغيرات ما كانت لتحدث لولا وجود أرضية مفاهيمية تهيئ لهذا التغير والتطور، كان يجب السعي لربط الفهم الديني والممارسات الطقوسية بالتغيرات المفاهيمية الحديثة والتحولات المادية والاجتماعية والتكنولوجية، حتى لا يبقى ذلك الفهم وتلك الممارسات في إطار لا يتوافق مع صورة الحياة الحديثة. غير أن أنصار المدرسة الدينية التقليدية، أو أنصار الإسلام التقليدي الفقهي القشري، لا يزالون يصرون على ضرورة عدم ربط مسألة التديّن بتغير الحياة وظهور المفاهيم الجديدة فيها، ويشددون على وصل التديّن بتاريخ ظهور الدين وكيفية نزوله وطريقة ممارسته، بل ويطلقون صيحتهم الرافضة لتطوير وسائل فهم الدين ويقفون في الضد من أي مسعى لإضفاء مبدأ الحرية على ممارسة طقوسه.
إن الحرية بوصفها مفهوم تستند إليه الحياة الحديثة، من شأنها أن تساهم في التأثير على تغيير الفهم الديني وكذلك في ممارسة صور جديدة من التديّن أيضا. فإحساس الإنسان الحديث بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي لا ينسجم مع حياته الجديدة ولا مع الحداثة وعناصرها، يحفّز فيه مسعى تغيير المفهوم التقليدي بآخر حداثي. لذلك لابد من إيجاد فهم ديني يتوافق مع الحياة الحديثة ومع العقلانية الجديدة وينسجم معهما. إضافة إلى ذلك، لا يمكن للقانون المناهض لحرية الفكر والتعبير أن يتعايش مع الإيمان، أو أن يتدخل في تحديد شكل المناجاة، إذ سيؤدي ذلك إلى فرش البساط أمام الإكراه لعرض نفوذه وممارسة دوره الإلغائي، ومحصلة ذلك هي إجبار المناجي على استخدام صور طقوسية محددة غير متنوعة، وهو ما يعتبر أقرب إلى التلقي منه إلى ممارسة الإيمان بحرية والتفكّر باشتياق. فالإيمان سيكون إيمانا إذا سبقته الحرية. ومن شأن أي مجتمع أن يوصف بالمتديّن إذا ما استند إلى هذا النوع من الإيمان. فمن الخطأ بمكان أن تقوم فتاوى الكراهية والاستبداد الصادرة عن المدرسة الدينية التقليدية بالتضييق على الإيمان وعلى الحرية الدينية بذريعة محاربة quot;البدعquot;. فشكل الإيمان يتنوع بتنوع الشخصيات المؤمنة، ويتغير بتغير الأزمنة. فهو ممارسة طقوسية ونوع من الفن الإنساني للوصول إلى حالة من التفكر والإرتباط القلبي. لذا هو عرضة للتنوّع والتغيّر والتطوّر أيضا. فحينما يغوص الفرد في تأمل الباري وفي فهم وجوده ثم يناجيه بشعور العاقل المحب، فإن تلك المناجاة لا يمكن لها أن تتشابه بين جميع البشر. وفقه معين مرتبط بمذهب ما قد يشرح سبل ممارسة الإيمان ويوضحها لأتباعه، لكنه في نفس الوقت قد يساهم في عرقلة ممارسة الإيمان لعدد آخر من الناس ممن لا ينتمون إلى مذهبه. والأمثلة على ذلك كثيرة في البلدان الإسلامية بطوائفها ومذاهبها وحتى في فئاتها الدينية الضيقة. فأنصار الصوفية من السنة أو الشيعة يتعرضون لمضايقات كثيرة من قبل المدارس الأصولية أثناء ممارستهم طقوسهم، لأن الفقه السني أوالشيعي الأصولي لا يعترف بتعددية وتنوع الممارسات الطقوسية الإيمانية، وفي معظم الأحيان يعتبر طقوس الصوفية بِدعا يجب وقفها عند حدها ومنعها ولو بالقوة والإرهاب.
يمكن وصف الحياة الحديثة بأنها ثورة في جميع أبعاد الحياة بما فيها الدينية. لكن الفقهاء القائمين على المدرسة الدينية التقليدية رفضوا تلك الثورة وواجهوها بكل ما يملكون من سلاح، مستندين في ذلك إلى النقل والعقلانية المستندة إلى التاريخ، واشترطوا لقبول أي منجز عقلي جديد - لم يمس الوسائل فحسب بل المفاهيم، كما مس أيضا منهج التفسير الديني - أن يكون متوافقا مع التاريخ ومع التراث وبالتالي مع تفسيرهم الديني. فرغم أن البعض منهم أظهر قبوله لبعض أطر الحداثة ليستغل وسائلها لتحقيق مآربه السياسية والاجتماعية والمادية، إلا أن البعض الآخر واجهها بكل صراحة ووقف في الضد منها، وبالذات مفاهيمها التي باتت تشكل تهديدا رئيسيا لتفسيره الديني القديم ولمفاهيمه القديمة التي يستند إليها في دعم سلطته الدينية. لقد ظهرت بفضل الحداثة مفاهيم جديدة في الحياة، كما تغيرت العديد منها ممن كانت تمثل أسس الحياة القديمة. لذلك عارض الفقهاء هذا التجدد وواجهوا هذا التغيّر، وكانت المواجهة في كثير من الأحيان عنيفة، واعتبروا الأمر بمثابة تحدّ للدين من شأنه أن يعرض للخطر الصورة التاريخية الكامنة في ذهنهم تجاه فهم الدين وممارسة التديّن. ففي الحياة الجديدة تغيرت النظرة إلى الإنسان وظهر مفهوم جديد حوله وبات وجود الإنسان يستند إلى quot;حقهquot; في الحياة انطلاقا من استقلال عقله لا إلى ما يملى عليه من quot;تكاليفquot;. فمن خلال تلك الحقوق ظهرت التكاليف الواجب أن ينفذها، وانطلاقا من ذلك تغيرت النظرة إلى الإنسان، وبات احترام حقه في الحياة بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وجنسيته هو الأصل. في حين لا تزال النظرة الدينية التقليدية الراهنة نظرة قديمة تجاه الإنسان، نظرة تعتمد على النص التراثي الذي يكبل الفرد بأغلال تاريخية دينية واجتماعية. فلا يزال الدين (أو المسلم وغير المسلم) والجنس (أي الذكر والأنثى) والعبد والحر والنسب وغيرها هي معايير يعتمد عليها الفقيه في تحديد احترام الإنسان. ولا يزال مفهوم المساواة بنظرته الحديثة يواجه صدا وتحديا من قبل الخطاب الديني التتقليدي. فالمسلم لا يزال يعيش تحت كنف مفهوم التكليف. فما يكلفه به رجل الدين التقليدي من أحكام دينية ودنيوية يجب عليه سمعها وطاعتها وتطبيقها، حتى لو تصادمت تلك الأحكام مع المبادئ الحديثة لحقوق الإنسان المتفق عليها دوليا، أو تصادمت مع الدساتير المحلية الحديثة. فالذي له أولوية في الطاعة ومن ثم في التطبيق، وفق الفهم الديني التقليدي، هو أحكام الدين المنطلقة من أفواه الفقهاء التقليديين الناطقين باسم الله. فهو صراع بين العقل الحر والنقل التاريخي الديني الاجتماعي، الذي أفرز هذه المواقف وجعل لكل جهة فريقا يدافع عنها. فالعقل حينما تحرّر من أسر الدين والتراث والنقل استطاع أن يحقق قفزات نوعية في الحياة، ظهرت نتائجها في التطور الذي نشاهد منجزاته راهنا في جميع المجالات، المادية منها والمعنوية وغيرها. وما معارضة رجال الدين التقليديين لذلك التحرير إلا دليل على خوفهم من فقدان سلطتهم الدينية وضياع مصالحهم الشخصية.
لكن، سؤالا يطرح نفسه هنا: لماذا اتجهت النظرة نحو الدين الإسلامي في هذا الاتجاه غير الإنساني؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في أسباب عدة، لعل أهمها يتعلق بعدم وجود تصور لدى القائمين على التفسير الديني التقليدي يستطيعون من خلاله رفع التفسير من حالته التاريخية غير الإنسانية. بمعنى أنه لا توجد رؤية واضحة لدى أنصار الإسلام الفقهي التقليدي القشري تجاه العالم الحديث والإنسان الجديد، ما اعتبر تفسيرهم للدين تفسيرا غير حداثي ومناهضا لقيم الحياة الجديدة، وبالذات تجاه الإنسان، وبالتالي أصبح التفسير مناهضا للرؤية الحقوقية الحديثة ومعبرا عن رؤية تاريخية لا تهتم سوى بتركيب الماضي الديني على الحاضر، وهو ما أدى إلى أن يصبح تفسير الدين بل والدين أيضا غير إنسانيين.
إن معرفة الله تؤدي إلى فهم وجوده وكلامه، لكن في المقابل لا يمكن إنكار أن أحد عناصر الفهم هو تعدد طرق تحقيق هذا الفهم. وفي هذا الإطار فإن المدرسة الدينية التقليدية لا يمكن أن تقبل بتعدد طرق الفهم، لأنها في الأساس لا تؤمن سوى بالفهم الواحد المطلق للدين، وبالتالي هي لا تعترف إلا بمعرفتها بشأن الله، ولا تقبل سوى بفهمها لوجوده وكلامه. أي إنها تنحى منحى يبتعد عن الاعتراف بحق الإنسان المطلق في المعرفة الدينية وفي تنوع معرفة الله ووجوده. فاختلاف طرق المعرفة يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف فهم وجود الله وكلامه. وهذا الاختلاف في الفهم تحدده طرق الإثبات. وعليه تختلف معرفة الله وإثبات وجوده وفهم كلامه بين المسلم وغير المسلم، أو بين المسلمين في المذهبين السني والشيعي، وفي كل مذهب أيضا. لكن، للأسف، أنصار المدرسة الدينية التقليدية لا يقرون بتعددية معرفة الله ووجوده وكلامه، ويجهدون باستمرار إلى إلغاء الآخر المغاير في فهمه، ثم يدّعون بعد ذلك بأنهم يؤمنون بالرأي الآخر.
فاخر السلطان
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات