بغض النظر عن كافة التفاعلات الفقهية والتأويلات السياسية التي انطلقت تباعاً مع تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي حول وجود غزو واختراق شيعي تقوده إيران ضد مصر وبعض الدول الإسلامية الأخرى، وما يشكله ذلك من خطر على بقاء الفكر الديني التقليدي السائد، فإن القضية كشفت جانباً آخراً، أكثر خطراً يطال فيما يطال، جوهر وحقيقة الفكر الديني المتطرف ومدى قوته وصلابته وقدرته على الصمود، وهشاشته أمام تيارات فكرية وسياسية ودينية أخرى، تمور على الساحة اليوم، بفعل تلاقح الأفكار وانتقالها بسلاسة وانسياب عقب ثورة الاتصالات الرقمية الهائلة التي فتحت كل الأبواب على مصراعيها، ولم يعد بالإمكان الوقوف أو التحكم بها، وأن هناك تحولاً نوعياً سيصيب عصب وبنية الفكر الديني المتطرفنفسه الذي ظل قروناً غير قابل للنقاش والجدال. وتنبئ تلك التصريحات، وبوجهها الآخر المتصل، بسقوط وانهيار نظرية الاعتدال والوسطية التي يطنطن بها بعض الشيوخ، وأن الرفض والتطرف والغلو واللا تسامح هي السمة الأساسية والملازمة لأي فكر ديني، ولا تستقيم حاله بدونها، ودون أي تحديد لأي فكر هنا، ولا فرق بين قس، وشيخ، وحاخام. واللافت أن غرابة وتطرف تصريحات الشيخ المثيرة كانت قد استلزمت، لاحقاً، لوماً وعتباً نادراً من كاتب إخواني بارز هو فهمي هويدي في مقاله المعنون بـquot;أخطأتَ يا مولاناquot;، نظراً لذهاب شيخنا الجليل في تصريحاته أبعد مما هو متوقع في هذا المجال.
وكلمة الغزو التي استخدمها الشيخ هي من صلب المخزون الثقافي الذي يقوم عليه بنيان هذه quot;الأمةquot; العقائدي. وتنم في ميكانيزميتها عن ضعف من يتعرض للغزو، الذي يغري ضعفه الغازي للقيام بالغزو، فهل هذا ما أراد قوله الشيخ بشكل غير مباشر، أو في الحقيقة هو ما يفهم من فحوى صرخته؟ وأن الأمور قد وصلت حقاً، لمرحلة تهدد ذاك البنيان العقائدي؟ والقاعدة تقول أن من يك قوياً لن يتجرأ أحد على غزوه، أبداً. هل يجرأ أحد اليوم، مثلاً على إعلان الحرب على أمريكا، أو روسيا والاتحاد الأوروبي أو التنين الصيني العملاق؟ بينما المجتمعات التي تتآكل وتتفسخ سياسياً واجتماعياً، وعلى نحو مرعب، وبنيوياً كالعراق، وأفغانستان، وفلسطين ولبنان، والخليج تغري كثيرين ويسيل لها لعاب الساسة كما العسكريين، وهي تتعرض اليوم للتهديد وتتكالب عليها كل البكتريات الاستعمارية المعروفة. والصومال وهي في أوج حقبة المحاكم الإسلامية، مثلاً، تعرضت للغزو من إثيوبيا، وإريتريا اللتان ليستا البتة في وارد موازين القوة العالمية. وفي التاريخ البدوي القديم، كانت القبائل البدوية القوية تغزو القبائل الضعيفة وتبيدها عن بكرة أمها وأبيها. ومن المفارقات المرة والساخرة، أن الإمام علي، وهو من يتشيع له هؤلاء quot;الغزاةquot; اليوم، هو القائل ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا وذلوا. فالغزو أيضاً يولد ذلاً لمن تغزى أراضيه. والأعضاء الضعيفة في الجسم البشري، والذي لا يصلها الدم النقي والصحي السليم، هي التي تتعرض لغزو الجراثيم والبكتريات وتفتك بها الأمراض. وإذا كان الكلام عن غزو عسكري يكفي هنا، فعلينا أن نحمد الله ونشكره، لأن الغزو الثقافي لا العسكري هو الذي سيزيل هوية كثير من الأمم وهو الأخطر والأدهى وquot;الأدق رقبةquot; كما يقال، والذي نرى تداعياته الكاسحة، على الأرض، وفي غير مجال.
والحقيقة، فإن القضية- الغزو والاختراق- كانت تتفاعل سابقاً بشكل ظاهر وخفي، وبطريقة أو بأخرى، وكان هناك حالات تذمر وشكوى وامتعاض من عدة تيارات ومنظمات وأحزاب سياسودينية في المنطقة تندب وتولول جراء عمليات quot;تشيعquot; واسعة النطاق تجري على قدم وساق هنا وهناك، إلى أن ظهرت بذاك الشكل العلني الحاد، غير المسبوق ولا المعتاد أو المتوقع من شيخنا الجليل يوسف القرضاوي الذي يشغل منصب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكان قد ترأس، سابقاً، أكثر من مؤتمر للتقريب بين المذاهب الإسلامية. ( لا أحد يشكو ويندب ويولول بالمقابل من عملية بدونة وتوهيب وترثيث المنطقة والتي تجري بشكل أكثر سفوراًَ ونفوراً وأعادت هذه المجتمعات حقباً ضوئية إلى الوراء).
وإذا كانت المذاهب الإسلامية متناغمة وقريبة من بعضها، فعلام تستعصي بهذا الشكل المتشنج والفج، على أي نوع من التقارب واللقاء، ولِمَ تجر هناك محاولات quot;مباركةquot; للتقريب بينها وترصد لأجلها الأموال والمؤتمرات، والشيخ الجليل عضو أساسي في كل فعاليتها؟ ولِمَ الخوف من مذاهب إسلامية بعينها إذا كانت لا تختلف في جوهرها ومبادئها العامة، وكما يقول القائلون، عن الفكر الإسلامي العام؟ وهل هذه التصريحات هي إيذان بفشل محاولات التقريب وإعلان غير مباشر بإغلاق ذاك الملف المزمن الشائك؟ وإذا كانت بعض المذاهب الإسلامية quot;حقةquot; ونقية وخالصة وناجية، فهل هناك من مبرر وداع لخوفها من مذاهب إسلامية أخرى ومبتدعة وغير حقة وهل عليها، أصلاً، أن تعترف بها وتتنازل وتتصالح وتتحاور معها؟ وهذا في الحقيقة ما يضع عشرات الأسئلة وعلامات الشك والاستفهام على محاولات التقريب تلك قبل وضعها على طبيعة نشوء المذاهب نفسها وتداخل السياسي والدنيوي والشخصاني والزعاماتي فيها؟ ولماذا، أصلاً، هذا الانشطار والتذرر الأفقي والعامودي في بنيية فكرية متكاملة من المفترض بأنها تشكل منظومة معرفية وعقيدية أزلية قدسية ومتماسكة واحدة لا ينبغي مبدئياً أن تتعرض لهذا التفسخ والتحلل البنيوي في وحدتها الكيانية والهيكلية؟ أليست تلك المذاهب نوعاً من الاجتهاد والتطوير، بقدر ما هي اختلاف، في تلك البنية التي بدا أنها لم تكن كافية، وربما غير مقنعة، بصورتها المطروحة مع مرور الزمن وبروز الإشكاليات الكبرى فيها، ولذا لم يكن هناك من بد لهذا التباين في وجهات النظر والآراء حولها والذي جسدته المذهبية والتمذهب، والتناسل الطائفي الفطري؟ ولماذا لا يتوقف الانشطار عند حدود المذاهب الكبرى ليطال المذاهب نفسها التي سرعان ما تنشطر هي الأخرى بنفس قوة الدورة الانشطارية الأولى؟
لقد كان شيوخ الإسلام، والقرضاوي ليس استثناء منهم، يطنبون بالحديث عن متانة العقيدة، وقوة الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يتأثر به المؤمن الذي يتسلح بنوع محدد، وبعينه، من الفكر الديني النقي وquot;الخالصquot;، واستعداد المؤمنين به للموت والشهادة دون عقيدتهم تلك. لكن تصريحات الشيخ وخوفه يدحضان كل تلك الحقائق الإيمانية المطلقة التي دأب على تكرارها وعودنا عليها، رغم أن الشيخ كرر وأكد في مقابلته على أنه يمثل الفرقة الناجية هكذا ودون أي تحفظ كما يقول هنا: اقتباس quot;هناك فرقة واحدة من الفرق الثلاث والسبعين التي جاء بها الحديث هي وحدها (الناجية)، وكلُّ الفرق هالكة أو ضالة، وكلُّ فرقة تعتقد في نفسها أنها هي الناجية، والباقي على ضلال. ونحن أهل السنة نوقن بأننا وحدنا الفرقة الناجية، وكلُّ الفرق الأخرى وقعت في البدع والضلالات، وعلى هذا الأساس قلتُ عن الشيعة: إنهم مبتدعون لا كفار، وهذا مُجمَع عليه بين أهل السنة، ولو لم أقل هذا لكنتُ متناقضا، لأن الحقَّ لا يتعدَّد، والحمد لله، فحوالي تسعة أعشار الأمة الإسلامية من أهل السنة، ومن حقهم أن يقولوا عنا ما يعتقدون فينا.quot; ( انتهى الاقتباس ولتذهب حسب قول الشيخ كل الفرق البقية الأخرى غير ناجية). ولا أدري هنا لماذا الخوف إذن من أن يبدل دينه من كان لديه اعتقاداً راسخاً بأنه من الفرقة الناجية؟ ولو أخذنا كلام الشيخ كله بدون نقاش لكان حرياً أن نرى حركة عكسية باتجاه التسنن لا التشيع؟ ألا تضع هذه العملية التحويلية قضية النجاة برمتها على المحك والميزان؟ وأن المال والتبشير والخطاب الديني المغاير قد يكون، أحياناً، أقوى من أية عوامل يقينية أخرى في نفس المؤمن وقد تؤثر فيه وتخرجه من ملة الحق الناجية، وهذا ما يحصل في quot;مصر الأيوبيةquot; وباعتراف الشيخ نفسه، وبالتالي فإن الحديث عن قوة العقيدة والإيمان المطلقة، لا قيمة له طالما أنها عرضة للاستبدال والتحويل، وأنها هشة بالقدر الذي يمكن أن يخترقها مجرد مبتدعة وquot;شويةquot; شيعة من إيران وquot;روافضquot;، لا راحوا ولا جاؤوا. هل يقول لنا الشيخ بشكل غير مباشر بأن البدع قد تكون أقوى من، وتنتصر على، الإيمان؟ وأنه حتى المؤمن quot;الناجيquot; من النار، حسب القرضاوي، ليس معصوماً ومن الممكن أن يتبدل ويتغير ويتحول عن إيمانه بين مذهب وآخر، ويستبدل نجاته بمال أو بفكر مبتدع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويستخلص، أيضاً، من مضامين تصريحات الشيخ غير المباشرة بأنه حين يفسح بالمجال لبعض الناس، وتحت ظرف ما، فقد يغيرون من آرائهم ويتحولون دينياً، ولا ضرر ولا ضرار، بالنسبة لهم على أية حال، وأن تغيير العقائد وارد في كل زمان ومكان. ألم تكن مصر شيعية فاطمية قبل فتحها من قبل صلاح الدين الذي يعتبر بطلاً أسطورياً في نظر الكثير من الناس لتقويضه الخلافة الشيعية الفاطمية؟ ألم يكن الأزهر نفسه شيعياً ويستمد اسمه من فاطمة الزهراء الرمز الشيعي المقدس؟ أولم تكن بلاد فارس سنية قبل أن يحولها إسماعيل الصفوي شاه إيران الذي حكم بين (1501- 1524 )، وهو القائد الديني الذي أسس الحكم للصفويين وقام بتحويل إيران من أهل السنة والجماعة إلى الطائفة الشيعية الإثنا عشرية؟ ألم تتحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية على يد القيصر قسطنطين في العام 312 م؟ أليس الناس على دين ملوكهم كما يقال؟ وهل للأمر هنا أية علاقة هنا بالسماء، أم هو منوط، أحياناً، ونقول أحياناً، بمشيئة السلاطين والملوك والأباطرة، والفاتحين، والغزاة، وكما حدث، تماماً، مع أجدادنا الثقاة من البدو الأعراب الغزاة؟
ألم يتكلم العقيد الليبي معمر القذافي مؤخراً عن رغبة بإعادة إحياء فاطمية شمال إفريقية، وطنبت له ولها وسائل الإعلام وسط ذهول وصمت quot;جمهرة الفقهاءquot;؟ من كان سيجرؤ على معارضة سيادة العقيد لو فرض فاطمية جديدة ذات مرجعية شيعية، وخاصة في أوساط وعاظ ليبيا ومعمميها من زملاء شيخنا الجليل في الوعظ والإرشاد، الذين كانوا سيصورون الأمر، ولو تم ولا سمح الله، على أنه فتح جديد آخر لا يقل أهمية، ربما، عن غرة الفاتح من سبتمبر؟
ويقول الشيخ الجليل بأن هناك دولاً quot;سنيةquot; خالصة كمصر المحروسة لا ينبغي تشييعها. وهذا ما يخالف حتى الإحصاءات الرسمية والواقع الديمغرافي في مصر المحروسة ويحزن الشيخ أشد الحزن إذ ذاك لاختراقها.( هل السعودية نفسها خالصة دينياً ومذهبيا وفيها أكثر من 120 جنسية تعتنق عشرات العقائد والمذاهب والأديان؟) وأن حلقات برنامج الشريعة والحياة التي دأب الشيخ على تقديمها أسبوعياً من على منبر قناة الجزيرة لم تفلح في تعضيد quot;أهل السنة والجماعةquot; وتحصينهم ضد غزو شيعي quot;بربريquot; خبيث بدأ يؤتي أكله حتى في مصر الأيوبية المحصنة ضد الغزو الديني، ورغم وجود جامع الأزهر فيها، ورغم أن الإخوان المسلمين يتحكمون فيها بخطاب وحتى لباس وحجاب المذيعين والمذيعات في التلفزيون الرسمي المصري، ويوجهون سياساته وخطابه بما يتناغم مع فكرهم السلفي الذي بدا، الآن، وحسب الشيخ، أنه غير عصي وهش، وسهل الاختراق. وأن دولة إسلامية كبرى مثل السودان quot;الشقيقquot;، والتي تحكمها حكومة الإنقاذ الإخوانية، قد أصابها الهلع والخوف من مجرد محاولات لتوزيع كتاب صغير بعنوان quot;ثم اهتديتquot; للتيجاني السماوي التونسي المتشيع وquot;المرتدquot; عن أهل السنة والجماعة، وأدى إلى إغلاق المكتب الثقافي الإيراني في السودان حسب كلام الشيخ؟ هل كتاب quot;رافضيquot; واحد كهذا يثير هلع ويهدد إمبراطورية عقائدية دينية كبرى بحجم السودان تقيم الحدود وتطبق الشريعة من أيام طيب الذكر جعفر النميري؟ وإذا كان الفكر الديني quot;الخالصquot; على حد تعبير الشيخ على تلك الدرجة من المتانة والثقة بالنفس، لماذا يتخوف إذن، من كتاب لا يسمن ولا يغني من جوع لأحد المبتدعة؟ ولماذا خاف الشيخ وحكومة الإنقاذ الإخوانية، التي تعتبر نفسها ظل الله على الأرض وحافظة لدينه، وأغلقت المكتب فوراً لأن إبقاءه مفتوحاً سيعني ضمناً زوال المذهب quot;الناجي والخالصquot;، مأسوفاً عليه، من السودان وانتصار الفكر الشيعي الغازي؟ هل هذا ما يريد أن يقوله لنا الشيخ في ما يشبه البيان رقم واحد عن الاختراق الشيعي للمحروسة، وأهلها، يتعرضون، ويا حرام، للغزو وللاختراق، وممن؟ من الشيعة المبتدعة الروافض؟ هذه هي بالضبط خلاصة القضية والموضوع الذي شغل وانشغل به العالم الإسلامي، بين مؤيد ومعارض، ومتحمس ورافض، وكل هذا لا يهمنا بقدر ما يهمنا أن الفكر الديني الذي يشتغل عليه شيخنا الجليل وتوظف له إمكانيات مادية وإعلامية هائلة، وحسب ما يفهم من كلام الشيخ الجليل، هو غير عصي أومحصن، وهش وقابل للاختراق، وللهزيمة والتبديل والتغيير. وبرغم كل الهالات المختلفة المنسوجة حوله، فقد يكون موضع انسحاب ومساومة ومقارنة مع غيره من المذاهب والأديان والتيارات الفكرية والدينية الأخرى، وعرضة للتنصل منه والتنكر له، وهو بالضبط ما أثار حفيظة الشيخ، الذي لم نكن نتمنى أن تثار حفيظة سماحته على الإطلاق، ومن قبل كائن ما كان.
إذن، وخلاصة القول، فالفكر الديني المتطرف، ومهما بدا عصياً وقوياً، ومهما رسم من حوله من أساطير وقيل حوله من الأقاويل، ووقفت خلفه دول ومنظمات وحكومات، فهو هش وضعيف بما فيه الكفاية وعرضة للغزو والاختراق والتأثير. وكما حدث في مصر المحروسة حيث أصبح التشيع واقعاً وأرقاماً وخطباً وكتباً وأتباع وموالين، وبشهادة ممن؟ بشهادة لا تقبل التأويل من شيخ وعالم جليل وكبير كشيخنا يوسف القرضاوي نفسه، رئيس اتحاد العلماء المسلمين، الذي أعلن، وبملء الفم، عن قيام غزو شيعي حقيقي يتهدد مصر. وهو الذي عودنا أنه لا ينطق عن هوى، وكل ما يأتي به له طابع المصداقية وفي حكم اليقين.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات