الحقُّ، إنَّ تركيا الآن، لَتُبهِر الناظر إليها، حدَّ الإغماء على القلب والعقل. يخيَّلُ للبعضِ، أنَّها في أبهى حلَّتها الآن. يُخيَّلُ للبعضِ أيضاً، إنَّ هذه الدولةُ المأزومة، تسيرُ قُدُماً من حسنٍ لأحسن. فصارت مضربَ المثل عربيَّاً، والأسوةُ والقدوةُ الحسنةُ التي ينبغي الاقتداء بها. طبيعتها تُبهِر. سياستاها الداخليَّة والخارجيَّة تُبهر. ديموقراطيَّتها الناجزة، وعلمانيَّتها العاجزة، وإسلامها السياسيُّ المُعتدل ورموزه وعرَّابوه، ومعشرُ عسكرها الذين ما أنْ يفرغوا من إنجاز الانقلابات، وإعادة ترتيب البيت الأتاتوركي، يعودون أدراج ثكناتهم، وكتُّابُها وصحفيوها، ومسلسلاتها الدراميَّة وأبطالها وبطلاتها...، كلُّهم، باتوا مُبهِرين!. لا شكَّ أنَّ النظر إلى تركيا من داخلها، قد لا يلغي الكثير من النتائج المستخلصة، أثناء النظر إليها من خارجها. وحين يكون المرء تحت سطوةِ وسُلطةِ الانبهار بتركيا من الخارج، يغدو النظرُ إليها من الداخل، تحصيل حاصل.

حظيت تركيا وأزماتها على اهتمامٍ إعلاميٍّ عربيٍّ لافت، بخاصَّة في السنوات الأخيرة. واستقطعت أزمات هذا البلد الهام والغريب والجميل والملتبس، على مساحات واسعة من المراقبة والتحليل في الإعلام المرئي والمقروء. وتقاطعت خلاصات الرؤى العربيَّة حيال تلك الأزمات، في نقاط عدّة مشتركة، أقلَّها، الانبهار والإعجاب العربيُّ الشديد بالتجربة التركيَّة. ولعلَّ مقاربة الأوساط العربيَّة تجربة الأتراك بتجاربهم المنتكسة، جعلهم يخرجون بتصوِّرات جِد مثاليَّة عن التجربة التركيَّة، على أنَّها ناجزة وشديدة الاتساق وروح العصر!. حيث اشتطط الإعجاب والإطناب العربي بالتجربة التركيَّة إلى الإشادة بعسكرها الذين ينجزون انقلابات، ولا ينصِّبون أنفسهم بديلاً للطبقة السياسيَّة، إذ ما يلبثون أن يعودوا إلى ثكناتهم، حال الانتهاء من مهمَّة quot;ترتيبquot; أزمة الدولة، مُفسحين المجال للساسة بغية استعادة دفَّتها. خلافاً للعسكر العربي، الذين انجزوا انقلابات في مصر وسورية والعراق وليبيا...، ونصَّبوا أنفسهم قادة تاريخيين، أنتجتهم quot;الضرورات التاريخيَّةquot; إذ جاؤوا تلبية لـquot;النداءات والإرادات الشعبيَّةquot;، في مسعى حمل quot;الرسالة الخالدةquot; للأمَّة العربيَّة، وتحقيق وحدتها وحريتها واشتراكيتها. فلا الوحدة تحققت، ولا الحريَّة استكمِلت، بعد الخلاص من quot;دنسquot; الاستعمار والنظم الرجعيَّة، ولا الاشتراكيَّة أُنجِزت، ولا الأراضي المحتلَّة تحررت واستُعيدت!. فصارت الدولة أشبه بالحصانة الشرعيَّة والحاضنة الخصبة للاستبداد والفساد والإفساد في العالم العربي. ما أدَّى إلى عسكرة المجتمع، ودفعه نحو القطيعيَّة، في مسعى التأهُّب لحربِ تحريرٍ، افتراضيَّة _ نهائيَّة، يبدو أنَّها لم ولن تجيء أبداً!. وعليه، وبالنظر إلى جرعة المقت الشديد للعرب اتِّجاه عسكرهم، ليس غريباً أن يفتتنوا بالعسكر التركي، الذين جعلوا انقلاباتهم لخدمة الدولة، لا الدولة لخدمة انقلاباتهم، حسب رأي بعض الأخوة العرب.

على الطرف الآخر من الأزمة التركيَّة، وأعني الإسلام السياسي، بنسخته الأردوغانيَّة، فقد فاق الإعجاب العربي بها، إعجابهم بالعسكر التركي. وبدت تجربة حزب العدالة والتنمية، الأنموذج الأفضل والأمثل للاعتدال الإسلامي، أو ما يمكن تسميته بـquot;الليبراليَّة الإسلاميَّةquot;، المنسجمة مع اللعبة الديمقراطيَّة والنظام المدني _ العلماني. وهذا الإعجاب والإطناب العربي الشديد والغزير لنجاعة وشجاعة تجربة الإسلام السياسي في تركيا، وطُرق وصوله للسلطة، يتأتَّى من رداءة ودمويَّة الإسلام السياسي العربي، وفظاعة أساليبه في سياق مساعيه الوصول للسلطة. ولو كلَّف الأخوة العرب أنفسهم قليلاً محاولة السبر عميقاً في تفاصيل التجربة التركيَّة، وتحليل أداء عسكرها، والتمعُّن في نشأة نماذج إسلامها السياسي ومفاعيله وأسبابه، بعيداً من مقاربتها بالتجارب العربيَّة الرديئة، وربما الفاشلة، لا ريب أنَّهم سيخلُصون لنتائج، قد تكون بالضدّ من النتائج السالفة، التي تشكَّلت لديهم، أثناء قراءتهم للراهن التركي. حينئذ، ستكون قراءتهم أكثر عمقاً وغوصاً في بواطن المشهد التركي وفهمه، بدلاً من الأخذ بظاهره، الذي قد يخلب الألباب ويُبهر الأبصار. وعليه، مجمل القراءات العربيَّة للأزمة التركيَّة الأخيرة، التي لا زال من المبكِّر الجزم بانتهائها، كانت منحازة لأردوغان وحزبه. ولا تكاد تجد قراءة نافذة بعمق في تفاصيل التجربة الأردوغانيَّة وخفاياها، وقياس منسوب الجهد الأمريكي وحتَّى الإسرائيلي في إنجابها وبلورتها. زد على ذلك، أنَّك لا تكاد تجد قراءة عربيَّة نقديَّة حقيقيَّة لعيوب ومثالب وأعطال تجربة الإسلام السياسي التركي، وهي كثيرة، ولا ريب!. إذ وصل الحدُّ لدى البعض على اعتبار حظر حزب العدالة والتنميَّة في تركيا، ضربة قاصمة لقوى الاعتدال الإسلامي في العالم العربي، وحجَّة قويَّة تعزز وتغذِّي مواقف وأفكار التطرَّف الإسلامي بين العرب!. إذن، وبعد أن ردَّت المحكمة الدستوريَّة دعوى حظر حزب العدالة والتنمية، لا شكَّ أنَّ أصحاب تلك الآراء من بعض الأخوة العرب، ربما يعتبرون ذلك quot;نصراًquot; لقوى الاعتدال العربي، في مواجهة قوى التطرُّف العربي، على أرض الأتراك!.

طبعاً، قرار ردِّ المحكمة الدستوريَّة لدعوى حظر حزب العدالة والتنمية هو أعمق من قراءته quot;انتصاراًquot; للديمقراطيَّة، ونزاهة القضاء التركي، وشجاعة وعقلانيَّة الإسلام السياسي في تركيا. ولم يأتِ القرار ذاك، إلاَّ في إطار صفقة متكاملة بين الإسلام السياسي والعسكر، حيثُ تداخل في صوغها، ما هو محلِّيٌّ وإقليميٌّ ودوليّ. وبعد مفاوضات quot;كسر عظمquot;، بين العسكر والجنرالات، كما أشرت في مقال سابق لي، منشور في quot;الحياةquot;. إذ كيف للإسلام السياسي quot;المعتدلquot; أن ينشأ وينتعش في تركيا، بعيداً من تدخُّل وتأثير الدور الأمريكي والإسرائيلي فيه، إذما نظرنا إلى تاريخ هذا البلد، وحجم النفوذ التاريخي لليهود فيه، منذ أواسط الحقبة العثمانيَّة وحتَّى تأسيس الجمهوريَّة، الذي يُعتبر مؤسِّسها مصطفى كمال quot;أتاتوركquot; من يهود الدونما، ولغاية يومنا هذا؟!.

ولا شكَّ أن الولايات المتحدة، بعد أن فرغت من دعم وتغذية الحركات الإسلاميَّة الأصوليَّة الجهاديَّة في العالم الإسلامي، quot;القاعدةquot; وquot;طالبانquot; نموذجاًَ، في مواجهة المدّ اليساري والشيوعي، أثناء الحرب الباردة، وبعد استنفدت هذه الحركات مهامها، عقب انهيار المنظومة الشيوعيَّة، ارتدَّت هذه الحركات على أمريكا، فحلَّت هي محلَّ الخطر الشيوعي الذي يهدد بلاد العم سام ومصالحها. وفي مواجهة هذا التطرُّف والتشدُّد الإسلامي، الخارج عن السيطرة، كان من الأهميَّة بمكان، ظهور شخص مثل رجب طيب أردوغان، الذي يحمل الجنسيَّة الأمريكيَّة، وحزب مثل حزب العدالة والتنميَّة، مدعوم من جمعيَّات ومؤسَّسات فتح الله غولان، وهو ملياردير متديّن تركي، يعيش في الولايات المتحدة، ويحمل الجنسيَّة الأمريكيَّة أيضاً، ويتبنَّى الطريقة النورسيَّة، (نسبة إلى المفكِّر الإسلامي المعروف بديع الزمان النورسي، الكردي الأصل). بالإضافة إلى حضور الطريقة النقشبنديَّة في هذا الحزب، إلى جانب الطريقة النورسيَّة. وبعد تعاظم دور هذا الحزب في تركيا، ومحاولته الحقيقيَّة في تغيير نظامها السياسي، وظهور بوادر تشير أن هذا الحزب بدأ يخرج عن السيطرة الأمريكيَّة _ الإسرائيليَّة، وتشكيله خطراً مستقبليَّاً على المصالح الأمريكيَّة في الشرق الأوسط، كان لا بدَّ من إعادة أردوغان وحزبه إلى الحظيرة الأمريكيَّة _ الإسرائيليَّة، عبر تقليم أظافره، وإعطائه درس في عدم الشطط وتجاوز الخطوط الحمر، والمهام الموكلة له. وهذا ما فعلته أمريكا وإسرائيل، عبر الجيش التركي، وهذا ما فعله الأخير، عبر المحكمة الدستوريَّة. وبالتالي، لماذا لا يفكِّر العرب، مجرَّد تفكير، أنَّه مثلما كانت أفغانستان مختبر أمريكي لإنتاج وإنضاج نُسخ التطرف الإسلامي، مطلع التسعينات، فأنَّ تركيا أيضاً، كانت مختبر أمريكي لإنتاج وإنضاج إسلام سياسي quot;معتدلquot;، يتمُّ تسويقه في العالم العربي؟!.

لكن، يبقى السؤال الذي يجب ألاَّ نسهو عنه هو: هل فعلاً نال أردوغان صكوك العفو والمغفرة من واشنطن وتل أبيب وأنقرة، بعد إبدائه ندمه على تعنّته، وتخاصمه وتصادمه مع الأتاتوركيَّة، ثمَّ quot;اعتذارهquot; منها، وإعلانه عن رغبته في فتح صفحة جديدة معها، وأنَّه تخلَّى عن نيَّته في إخراج تركيا من تحت وطأة النفوذ الأمريكي _ الإسرائيلي؟. لا شكَّ أن الأيَّام القادمة ستضع اعتذارات أردوغان على المحكّ، لجهة الضربة الأمريكيَّة _ الإسرائيليَّة القادمة لإيران، وهل ستكون تركيا، إحدى منصَّات هذه الضربة أم لا. ولعلَّ الأزمة الجورجيَّة _ الروسيَّة التي افتعلتها واشنطن، عبر تحريك ساكاشفيلي، هو لتعزيز الوجود الأمريكي في المحيط الروسي، وتهديد موسكو؛ بأن ثمة أوراق كثيرة في يد أمريكا قادرة على تفكيك روسيا الاتحاديّة، مثلما تمَّ تفكيك الاتحاد السوفياتي السابقي. ناهيك عن تعزيز النفوذ العسكري في أوروبا الشرقيَّة، عبر نصب الدرع الصاروخيَّة في بولونيا، وقبلها في تشيكيا، واستجرار روسيا البيضاء وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق وجمهوريات القفقاس لعقد اتفاقات مع الأمريكيين. وهنا، بدى واضحاً الدور التركي بالسماح لتمرير القطع الحربيَّة الأمريكيَّة إلى البحر الأسود. كل ما سلف، يأتي في إطار التهيئة للمعالجة العسكريَّة للملفّ النووي الإيراني. إذن، ساكاشفيلي لم يخطئ في افتعال تلك الأزمة، بقدر ما أنه نفَّذ ما طلبت منه واشنطن.

وبالعودة للمشهد التركي، غالبُ الظنُّ أن أردوغان، لن يتراجع عن مساعيه في إعادة عثمنة تركيا، بعد أن وصلت خارطة طريقه نحو العثمنة الجديدة، لإنجاز الكثير من مراحلها، ولم يبقى إلاَّ القليل لإتمامها. فبعد أن فرغ أردوغان من وضع يديه على البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهوريَّة، توشك المحكمة الدستوريَّة أيضاً السقوط في يديه. لأن العديد من قضاة المحكمة الدستوريَّة سيحالون على التقاعد قريباً، وأمر تنصيب قضاة جدد لهذه المحكمة، مناط بالرئيس التركي عبدالله غُل، صديق أردوغان، وشريكه في العدالة والتنمية. زد على ذلك، أنَّ الإصلاحات الدستوريَّة التي سيجريها لاحقاً على قانون حظر الأحزاب، ستحصِّن مواقعه ومواقفه القادمة، وتحول دون أن تصبح المحكمة الدستوريَّة سيف ديموقليس المسلَّط على طموحاته.

حاصل القول: ليس بالضرورة اعتبار نجاح الإسلام السياسي quot;المعتدلquot; في تركيا، وquot;توهُّمquot; وخروج تركيا من تحت السيطرة الأمريكيَّة _ الإسرائيليَّة، ودخولها في مواجهة معها، ليس بالضرورة أن يعتبره العرب، أنَّه في خدمة مصالحهم. ولهم في التجربة الخمينيَّة أكبر مثال. ثمَّ لماذا يبقى العرب مفتتين بالخيارات الخارجيَّة، بخاصَّة، الخمينيَّة أو الأردوغانيَّة، وما لهذين الخيارين من شحنة تاريخيَّة مرعبة مع العرب. فالراهن العربي يشير إلى مدى حضور وثقل الثورة الخمينيَّة المصدَّرة إليهم، بشكلٍ أو بغيره!. كما أنَّ الذاكرة العربيَّة لا زالت طريَّة بأخبار التغلغل التركي في الجسم العربي العباسي، متدثِّراً بعباءة الإسلام. وما أن استتبَّت لهم القدرة والسيطرة على العرب، حتَّى نقلوا عاصمة الخلافة من الديار العربيَّة إلى الديار العثمانيَّة. وقضى العرب أكثر من 400 سنة في كنف التتريك والتجهيل والاستبداد التركي، إلى أن اضطروا إلى الاستعانة بـquot;الكفَّارquot; الانكليز لتخليصهم من الطغمة العثمانيَّة quot;الشقيقة والمؤمنةquot;. وربما ليس من المجازفة القول: إن الافتتان العربي بالتجربة التركيَّة، قد يكون فيه من الحنين الضمني إلى أيَّام الطغمة العثمانيَّة، ما فيه. إذ يستفيض العرب في حساب نسبة أرباحهم في نجاح التجربة التركيَّة، دون أن يكلِّفوا نفسهم في حساب نسبة مخاطر تركيا إسلاميَّة على العالم العربي، مضافاً إليها المخاطر الحاليَّة لإيران الخمينيَّة!.

هوشنك أوسي