راجت في الآونة الأخيرة أخبار كثيرة ومتواترة، صيغت بأسلوب فيه الكثير من التودد والطلب لسوريا للقيام بتدخل عسكري ما في أكثر من بؤرة مستعرة ومشتعلة في لبنان quot;الحضاريquot; الشقيق، لوضع حد للاقتتال الأهلي في غير مكان داخل لبنان وإعادة الأمور إلى نصابها، وإطفاء الحريق. ( لقد بينت مواجهات نهر البارد والمعالجات الأمنية للجيش اللبناني لبعض الحوادث عن ضحالة معرفية وعدم خبرة مهنية جلبت كوارث وهزت صورة لبنان quot;الحضاريquot; أمام العالم). فسورية هي الدولة الوحيدة التي أثبتت بأنها القادرة على ذلك، من بين كل اللاعبين الإقليميين والدوليين، وتعرف دواء لبنان الناجع الحقيقي وحتى من دون إراقة قطرة دم واحدة، وذلك بعد أن فشلت إسرائيل وأمريكا وفرنسا في ذلك. هذا اللبنان لم يعرف أبناؤه طعم الأمن والأمان، ونعيم الاستقرار إلا في ظل الوجود العسكري السوري. ولكن هل بات هؤلاء لا يعرفوا كيف يتعايشون من دون السوري؟ وهل قدر السوري أن يحل مشاكل لبنان دائماً، وهل ستقع على سورية في كل مرة، مستقبلاً، مهمة حفظ الأمن اللبناني، رغم وجود تيار طويل عريض في لبنان، وما شاء الله عليه، واسمه تيار المستقبل اللبناني؟ لا شك، إنه عبء ثقيل. ولكن quot;معليشquot; يا لبنانيين ويا سوريين، وquot;حط بالخرجquot; السوري الذي يبدو أنه،
والحمد لله، يتسع للكثير.

لقد شهد لبنان منذ وجود هذا الكيان المسخ الصغير، على حد تعبير البروفيسور اللبناني أسعد أبو خليل، عدة حروب أهلية مدمرة وفتاكة، ومعيبة جداً، في نفس الوقت، أتت على أزعومة فرادة الأنموذج اللبناني وقضت عليها وجردتها من أية صوابية ومصداقية على أرض الواقع، ونسفت معها كل الإشاعات والأقاويل عن رسالة لبنان الحضارية. هذا اللبنان يجب عليه أن يعلن توبته وهزيمته الحضارية الكبرى ويستقيل ويترجل عن الكثير من العروش المزيفة والأوهام والألقاب التي حملها وأسبغت عليه.

فإذا كانت رسالة quot;لبنان الحضاريةquot;، كما يزعم البعض، تنطوي على هذا الكم الهائل من التناحر والقبلية والحروب والصدام التنافري الدموي القبيح، فماذا ستكون عليه عندئذ، رسالة لبنان اللاحضارية، ( فطاحلة إعلان دمشق ndash; بيروت، ما غيرهم، أصدروا بياناً دعوا فيه إلى ضرورة تصحيح العلاقة السورية اللبنانية، هكذا!!! ولا أدري، أولاً، ما هو شأنهم، وما هو محلهم من الإعراب، وما مدى ثقلهم السياسي، ومن هم أولاً وأخيراً، ومن فوضهم أصلاً، لفرض رؤاهم وحشر أنوفهم في قضايا وطنية وإستراتيجية هامة تستلزم إجماعاً وقبولاً شعبياً حيالها. ورغم ذلك، فنحن نشد على أياديهم، ونشكرهم جزيل الشكر على هذا الفتح السياسي والفكري المبين، وسنعلن انضمامنا لمشروعهم quot;الحضاريquot; الكبير، فوراً، لكن بشرط أن يقول لنا هل يستطيع اللبنانيون، أولاً، أن يصححوا العلاقة فيما بين أنفسهم، وفيما بين بعضهم البعض قبل أن يطلبوها من أي أحد آخر؟ وهل أتقنوا وتعلموا فن التعايش والتسامح فيما بينهم قبل التعايش مع الآخرين؟ فإذا كان اللبنانيون لا يعرفوا، حتى اليوم، كيف يتعايشوا مع بعضهم البعض، كأبناء بلد واحد ولغتهم هي التخوين والحروب والتهديد والوعيد فكيف سنطلب منهم أن يتعايشوا مع آخرين، هذا إذا اعتبرنا السوريين quot;آخرينquot; من أصله، أليس ذلك مطلباً تعجيزياً ومبالغاً فيه؟ ولله في معارضيه شؤون. من قادر أن يجمع اللبناني مع اللبناني، قبل أن نجمع اللبناني مع السوري يا فطاحلة الإعلان العجيب؟؟ أفيدونا أفادكم المولى العلي القدير.

ولا حاجة بنا، هنا، لتأكيد حقيقة ماثلة وهي أن فترة الوجود السوري في لبنان كانت واحدة من أزهى الفترات والمراحل الأمنية التاريخية التي عاشها اللبنانيون في عمرهم الزمني القصير، انخفضت فيها الحوادث والخروقات الأمنية إلى حدودها الدنيا التي تكاد لا تذكر، إلا ما رحم ربي، وما قام به بعض من ملوك الطوائف من اغتيالات ضد زعماء لبنانيين بارزين، غير أنهم، وياللعجب العجيب، يتصدرون اليوم زعامة quot;الرسالة الحضاريةquot; اللبنانية. هكذا!!!

المهم وما علينا، لبنان الحضاري، والحمد لله، اعتاد أن يخرج من حرب أهلية، لا لشيء، كلا وحاشا لله، إلا ليدخل في حرب مدمرة أخرى، تأتي على أخضره ويابسه، وتحصد أرواح أبنائه، من أجل أن تنشغل به سوريا لا غيرها، ومن أجل أن يبقى نفس ملوك الطوائف ولوردات حربه، على صدره ورقبته، يتاجرون برسالته الحضارية ويطنطنون بها أمام العالم المذهول من بؤس الحالة اللبنانية. فسوريا، وهذه الحال، وكلما دق quot;الكوز بالجرةquot;، وquot;علقت بلبنانquot;، ليست quot;فاضيةquot;، أبداً، ولا وقت لديها لتصرفه على قضايا عبثية وإشكاليات خلافية جذرية، ولا طائل منها، وستبقى ما بقى هذا الكيان،. فمصلحة سوريا وشعبها واستقرارها وأمنها يتقدم، اليوم، على أية قضية إقليمية أخرى. والجهد والاهتمام، والمال، والتضحيات بالنفس والروح لخيرة أبناء سوريا وضباطها وجنودها الأبطال لم يفد في شيء، ولم يفلح في لبنان، وكله كان بلا شكر ولا جزاء، ويجب أن توجه كلها للصالح والداخل السوري. ولم يستطع لبنان quot;الحضاريquot; رغم كل ذلك أن يتعايش ويتعلم كيف يعيش مثل بقية خلق الله وشعوب الأرض التي تتعايش فيما بينها حتى في الأدغال، وظلت لغة الحرب والتهديد والوعيد والترصد هي اللغة السائدة في هذا المناخ السياسي.

إن استقرار لبنان هو في المجهول، ويدخل في باب الغيب السياسي، ولا يمكن التنبؤ، البتة، بما سيؤول إليه وضعه النهائي طالما بقي على هذه الدرجة من quot;الحضارةquot; والضلال السياسي. ومن هنا لا جدوى إلا من البقاء في موقف المتفرج على هذا السيرك الحضاري العجيب، ولتذهب إلى الجحيم كل دعاوي واعتبارات الأخوة، ونصرة الشقيق، التي لم تنفع يوماً، ولم يقدرها بعض اللبنانيين. وليعلموا، بعد ذلك كله، أن الله حق، ومعنى وأهمية دولة إقليمية كبرى كسوريا بالنسبة لجار صغير. ولا ننسى أن هناك فرصة مؤاتية الآن، ومع احتمال أن quot;يخلـّصواquot; على بعضهم البعض هذه المرة.

ومن هذا الباب فقط، لا بعد الآن، لأي تدخل سوري في لبنان.

ملاحظة هامة: لن تروا أيا من هذه المراثي السياسية في أي من مواقع المعارضة، ولا المخابرات السورية.

نضال نعيسة
[email protected]