تعد نعمة تفضيل الإنسان على المخلوقات الأخرى واحدة من أهم النعم التي من بها الله تعالى على الإنسان، ولهذا التفضيل مقومات متفرعة على التكريم وترتبط جميعها تحت عنوان واحد وهو الإختيار، وبهذا العنوان يميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وعدولنا عن العقل إلى الإختيار لعدم وجود الأخير لدى الكثير من المخلوقات خلافاً للجن الذين يشاركون الإنس بهذه الميزة، وهذا ما جعل إبليس يمتنع من السجود لآدم كما أشار تعالى لذلك بقوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف 50. والآية لا تذم الجن بل تثبت لهم الإختيار الذي جعل إبليس يمتنع من السجود لآدم.

وعند الحديث عن الإختيار لا نقصد العبثية الناتجة عن الإختيار السلبي الذي يؤدي بالإنسان إلى الإنحراف عن الصراط المستقيم الذي أراده الله، لأن الله تعالى منزه عن خلق العبث كما قال: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون 115.

ومن هنا يظهر أن للإختيار ضوابط وقوانين على الإنسان أن يحسنها وإلا أصبح إختياره عبثياً وعندها يتحول هذا الكائن المكرم والمفضل على كثير من المخلوقات يتحول إلى أسفل سافلين كما قال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان 44. وكما هو ظاهر فإن الله تعالى جعلهم أشبه بالأنعام لعدم سمعهم وتعقلهم لما فرض عليهم، وبعد أن سجل عليهم الضلال الذي كان من إختيارهم [كما سيمر عليك لاحقاً في هذا المقال] جعل مصيرهم إلى النار كما قال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أؤلائك كالأنعام بل هم أضل أؤلائك هم الغافلون) الأعراف 179.

وعند تأملنا للآيتين نجد أن آية الفرقان وصفتهم بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً أما آية الأعراف فقد بينت النهاية التي آلوا إليها لعدم عودتهم إلى سبيل الله تعالى، وهذه هي مرحلة الختم التي تكون آخر المراحل كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) البقرة 7. وهذه هي النتيجة التي حصلوا عليها بسبب إختيارهم للعبثية.

وظهور هذه النتائج يجعلنا على علم أن الباعث الذي أوجده الله تعالى في الإنسان قابل للوصول به إما إلى الهدى وإما إلى الضلال كما قال: (ونفس وما سواها***فألهمها فجورها وتقواها) الشمس 7-8. وهذا الإلهام مفاده التبيين والتفريق بين العناوين المشتركة للأفعال التي بمقدور الإنسان الأخذ بها كالشرب الذي يستعمل في الحلال والحرام وكذلك الأكل........إلخ. وهذا يدل على أن تلك الأفعال جبلت عليها النفس إلا أن التشريع جعل لها ضوابط يترتب على الأخذ بها فلاح الإنسان أما في حالة عدم الأخذ بها فإن الخيبة تكون حليفة له كما قال تعالى: (قد أفلح من زكاها***وقد خاب من دساها) الشمس 9-10.

من بعد هذا التمهيد الذي يتعلق بالعنوان الذي وضعته للمقال يمكننا القول أن عنوان المقال هو الجزء المكمل لقوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً........ثم ختم تعالى الآية بقوله: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة 26. وفي الضلال والهدى مباحث:

المبحث الأول: معنى الضلال لغة: البعد والضياع. كما في قوله تعالى: (أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون) السجدة 10.
أما إصطلاحاً: فالضلال يعني: الإنحراف والبعد عن دين الله تعالى. وتكاد تكون موارده في القرآن تشير إلى معان مختلفة إلا أنها تلتقي في نفس الرابط الذي يشير إلى الضياع والبعد فمثلاً قوله: (ووجدك ضالاً فهدى) الضحى 7. فإنه تعالى أطلق الضلال هنا وأراد به الحيرة، أي أن النبي (ص) كان حائراً في هداية قومه حتى يسر الله تعالى له السبل الكفيلة لهدايتهم ولا يمكن حمل الآية على الضلال المتعارف عليه لأنه (ص) كان يأمل في هداية قومه لذلك فإن الحالة التي كان عليها القوم تدعو للحيرة ومن هنا نسب القرآن الضلال للنبي وجعل هدايتهم هداية له وهذا كقوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52.

ويطلق الضلال ويراد به البعد عن العلم كما في قوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة 282.
وكذلك قوله: (فعلتها إذاً وأنا من الضالين) الشعراء 20.

المبحث الثاني: معنى الهدى: لغة هو الدلالة الموصلة إلى البغية.
أما إصطلاحاً: فهو الإرشاد إلى طاعة الله تعالى وقد توسع البعض في معناه إلا أن مرده إلى ما قدمنا.
ويأتي بمعان مختلفة تشترك جميعها بالرابط الأصلي للمعنى. كقوله: (وأما ثمود فهديناهم) فصلت 17. أي بينا لهم. ويأتي بمعنى الإلهام كقوله: (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) طه 50. وقد قسم العلماء الهداية إلى قسمين:

الأول: الهداية التوفيقية: ومصدرها من الله تعالى وتوفيق منه ويشهد لها قوله: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص 56.
الثاني: الهداية الإرشادية: ومصدرها الأنبياء والعلماء ومن سار على نهجهم ويشهد لها قوله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52. وقوله: (ولكل قوم هاد) الرعد 7.

المبحث الثالث: إختلف المفسرون في عودة الضمير الذي في قوله: [وما يضل به إلا الفاسقين] فمنهم من قال إن الضمير يعود على المثل ومنهم من قال إنه يعود على القرآن وهذا ممكن حتى وإن لم يذكر في السياق فهو يعمل عمل لفظ الجلالة، وعندي أن الضمير يعود إلى القرآن متمثلاً بالمثل لأن الجزء من القرآن قرآن بعينه، كما قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) الإسراء 78. وأراد بقرآن الفجر صلاة الفجر علماً أن القرآن جزء منها.

وكذلك أشار تعالى إلى أن نزول السورة الواحدة من القرآن يعادل عمل القرآن مجتمعاً في زيادة الهدى أو الضلال على حد سواء كما في قوله: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون***وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) التوبة 124-125.

المبحث الرابع: الضلال والهدى الذي أشارت له الآية هو أحد الفتن التي يفتتن بها الناس حسب الملكات التي جبلوا عليها والتي تميز النفوس من خلالها حسب إختلاف الطرق المعتمدة، فنزول البلاء يزيد المؤمن إيماناً أما الفاسق فليس له نصيب من ذلك البلاء إلا الجزع وعدم مواجهة المحن وهذا كالإختبار الذي يرفع أقواماً ويضع آخرين، كما في قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت 2.

وهذه الفتن قد تجلب الخير أو الشر فمن الناس من يفتتن بنعم الله تعالى وينسبها إلى قوته وعلمه كما قال تعالى حكاية عن قارون: (إنما أوتيته على علم عندي) القصص 78. ومنهم من ينسب تلك النعم إلى الله تعالى آخذاً بالأسباب كما في قوله: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) هود 88. وهؤلاء هم الذين يجاهدون أنفسهم لأجل الوصول إلى سبيل الله تعالى كما قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69. وكذلك قوله: (والذين اهتدوا زادهم هدى) القتال 17.

وهذا هو الأساس الذي بني عليه الدين ولذلك فإن الهدى المضاعف بسبب القرآن لا يعني التمتع الذي يحصل عليه الإنسان بسبب الصوت الحسن للتلاوة وإنما العمل المستخلص من إتباع النهج الذي قرره القرآن الكريم، أما الصنف الثاني الذين إزدادوا ضلالاً بسبب القرآن فهم ربما حسنوا الإستماع والإنصات إلا أن تطبيقهم لما سمعوا لم يكن في مكانه المناسب لذلك أضلهم الله تعالى لا عن إبتداء بل بسبب إتباعهم للطرق التي باعدت بينهم وبين ما يفرضه القرآن عليهم، وبهذا يكون الضلال المسجل عليهم ناتج بسبب فسقهم وخروجهم عن تعاليم القرآن الكريم لذلك قال تعالى: [وما يضل به إلا الفاسقين] وهذا هو الفرق بين الفريقين.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]