هل إنتهت الحرب العراقية / الإيرانية..؟

رغم مرور عشرين عاما بالتمام و الكمال على نهاية الحرب العراقية / الإيرانية و توقف عجلة الموت المجانية الشاملة التي أحاقت بشعبي البلدين طيلة ثمانية أعوام دموية قاسية عجاف، فإن إفرازات و نتائج و إنعكاسات تلك الحرب لم تزل ترسم ظلالها الثقيلة على النفوس و الخرائط و السياسة و الستراتيجية في الشرق الأوسط التعيس بأيامه و أحداثه و إنتكاساته و هزائمه الثقيلة، ففي العراق و حيث ساحة الحرب الرئيسية تغيرت معطيات و عوامل كثيرة و بصورة دراماتيكية تثير الدهشة و التأمل، فليس سرا التأكيد على أن إندلاع نيران الحرب الشرسة بين الجارين اللدودين المتخاصمين العراق و إيران كان بمثابة فصل الختام لعقود تاريخية طويلة من التوتر و النزاعات الحدودية و السياسية و الصراعات التاريخية المخبوءة تحت رماد السنين و القرون، تلك الحرب الضروس التي إندلعت رسميا بقرار حكومي عراقي يوم 22/9/ 1980 بهجوم عسكري عراقي شامل على إيران كان يهدف من الناحية الرسمية المحضة التخلي عن إتفاق الجزائر الحدودي بين البلدين و الذي أبرم عام 1975 و كان صفقة تنازل مهينة قدمها نظام البعث العراقي لنظام الشاه الإيراني الراحل في التخلي عن نصف نهر شط العرب العراقي العربي لإيران مقابل سحب نظام الشاه الدعم و التأييد العسكري للحركة الكردية المسلحة في شمال العراق و التي إنهارت بمجرد تخلي نظام الشاه عنها!

و رغم النصر التكتيكي للنظام البعثي العراقي السابق في إنهاء الحركة المسلحة في الشمال إلا أنه من الناحية الستراتيجية الصرفة كان هنالك تنازل مهين عن حقوق تاريخية في أراض و مياه عراقية لم يجرؤ أي نظام عراقي سابق على الإقدام عليها بما فيها النظام الملكي الراحل الذي ثبت السيادة العراقية المطلقة على شط العرب رغم ضعف العراق آنذاك من الناحية العسكرية، و لقد كان للتغيير الثوري الكبير الذي حدث في إيران نهاية عام 1978 و سقوط نظام الشاه و تولي الحركة الشعبية و الدينية الإيرانية السيطرة على مقاليد البلاد في فبراير 1979 صداه الكبير في الشرق الأوسط عموما و في العراق بشكل خاص لأسباب و عوامل ذاتية عراقية محضة تتمثل في وجود تيارات سياسية طائفية تتشارك و الوضع الإيراني الرؤية الفكرية و السياسية أولا و لصعود قيادة بعثية جديدة حاكمة في العراق كانت مفرطة في دمويتها و مرتبطة أساسا بمشاريع إقليمية كبرى و ملفات سرية عرفت جوانبا منها و لم تعرف حتى اليوم ملفاتها و أسرارها الحقيقية الكاملة و التي على أساسها تمت صياغة شكل الشرق الأوسط الجديد بعد مخاضات دموية عنيفة و مؤلمة عانت منها شعوب المنطقة و لا تزال، لقد كانت خطوات العد التنازلي لفتح صفحة صراع دموي شرس بين العراق و إيران تتوالى و تقترب مع تهيئة كل مستلزمات التصعيد من خلال إنشغال النظام الإيراني الجديد بتطبيق فلسفة تصدير الثورة و تشكيل مكاتب حركات التحرر لقلب أنظمة دول المنطقة من خلال الشعارات الثورية المغلفة بالروح الطائفية في إيران و من خلال تبني القيادة البعثية الصدامية الجديدة في العراق خطاب إستعارة قومي متشدد فاشي التصرف مارس أسلوب التصفية الدموية ضد مخالفيه في الحزب الحاكم ذاته و من دون أدلة سوى ملاحظة ( نقاط سوداء في عيون الرفاق ) كما كان يقول صدام حسين!

ثم بدأت خطوات تمهيد الساحة الإقليمية للفعل المتوقع الكبير و تشابكت كل الخطوط فزادت إستفزازات النظام الإيراني الجديد لدول المنطقة كما إزداد التقارب السري بين النظام العراقي و الولايات المتحدة و الذي توج بمحادثات ( مدريد ) السرية في تموز/ يوليو 1980 و التي تقرر بموجبها أن تقوم الولايات المتحدة بدعم الحرب المقبلة للنظام العراقي ضد إيران و نظامها الجديد و عبر تعهد قدمه السيد ( دونالد رامسفيلد ) الذي إنتهى النظام العراقي بعد عقدين و نيف من السنين على يديه عبر الإحتلال العسكري للعراق!!

الإيرانيون بدورهم وفروا كل مستلزمات الحرب بسخاء منقطع النظير فقد دعموا دون حدود حلفاءهم و مؤيديهم في العراق من أحزاب الدعوة و العمل و المجاهدين و مارسوا تدخلا واسعا و عمليا و خطيرا و باشروا بتهريب السلاح للجماعات الكردية المسلحة في الشمال كما دعوا علنا لقلب النظام في العراق و حتى جميع دول المنطقة و فرض النظام الإسلامي البديل في ظل حالة التعاطف و الهيجان الشعبية الإقليمية، لقد كان واضحا منذ صيف عام 1980 بأن الحرب قد أضحت هي الخيار الوحيد لحل التشابك الإقليمي و حتى الفكري و فعلا فما أن دخل شهر أيلول / سبتمبر 1980 حتى أعلن العراق إن إيران تمارس تحرشات حدودية ترقى لدرجة الحرب و في السابع عشر منه أعلن صدام في حركة سينمائية لها دلالاتها تمزيق إتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975 و إلغائه من طرف واحد في ظل تصفيق و تهليل ما كان يسمى بالمجلس الوطني و هو برلمان شكلي لا قيمة حقيقية له، ثم في الثاني و العشرين دخلت القوات العراقية إقليم الأهواز العربي في إيران معلنة بداية ( قادسية صدام ) لتحرير الأرض و المياه!!،

و بدأت المأساة و التي كانت أكبر خطأ ستراتيجي إرتكبه النظام العراقي السابق كلف العراق و المنطقة الشيء الكثير! و هو قرار مفتقد للحصافة وللحكمة و بعد النظر، فقد كان الإيرانيون في أشد الحاجة لمن يوحد صفوفهم بعد الصراعات الداخلية بين القوى الثورية و التيارات الفكرية المتصادمة و المختلفة و فعلا فتحت رايات تلك الحرب حسم التيار الديني الموقف و تمكن من طرد خصومه و فرض نظامه و منهجه و حيث شهدت إيران تصفيات و إغتيالات عديدة في ظل الحرب سقط فيها قادة الحزب الجمهوري الحاكم و منهم بهشتي و سقط رئيسا الجمهورية و الوزراء ( رجائي و باهنر ) و هرب و أنشثق الرئيس الأول للجمهورية ( بني صدر ) و قتلت قيادة عسكرية كاملة بعد معارك عبادان عام 1981، ثم تمكن النظام الإيراني عبر قوته البشرية و إمكانيات إيران الإقتصادية من مسك زمام الموقف و قلب الصورة العسكرية و الإندفاع الهجومي في العمق العراقي إعتبارا من صيف 1982 و كانت ورطة ستراتيجية كبرى أدت لإطالة أمد الحرب لتصبح ثمانية أعوام كاملة جرت خلالها مياه عديدة تحت كل الجسور ثم إنتهت فجأة كما بدأت فجأة بتعادل دموي مروع و بثمن مكلف جدا من الجانب العراقي الذي تورمت آلته العسكرية حتى وجدت تصريفا لها للأسف في حرب إحتلال و غزو الكويت عام 1990، الغريب بعد كل تلك السنين و الأحداث إن النصر النهائي قد صب ستراتيجيا في الخانة الإيرانية وهو نصر تحقق بأيدي الولايات المتحدة بعد إسقاط الحليف القديم نظام صدام و حيث تمكن الإيرانيون بكفاءة من سد الفراغ السلطوي المرعب و إستطاعوا عبر وكلائهم في العراق وهي القوى التي دعموها و أسسوها من الهيمنة على مقاليد الأوضاع هناك و تحت الراية الأميركية تسنى لحلفاء نظام الولي الخراساني الفقيه تنفيذ الأجندة الإيرانية في العراق ليعلن النظام الإيراني نصره المبين بعد ربع قرن على تلك الحرب الكارثية!!

إنها واحدة من أكبر سخريات التاريخ الدموي في الشرق الأوسط!.

داود البصري

[email protected]