كنت في دمشق للدراسة الجامعية، وأعمل في مكتب الحركة الإسلامية في كُردستان العراق، بداية التسعينيات. وكذلك تهيأت لي الظروف أن أدرس في حوزة الإمام الخميني بضاحية السيدة زينب في الشام، وتلقيت الدروس على يد علماء وشيوخ الشيعة العراقيين الأفاضل، فضلاً عن بحث متواصل في المسائل العالقة والخلافية بين السنّة والشيعة. كنا خمسة طلاب، نعمل في مكتب الحركة المذكورة، وندرس في إحدى الكليّات بدمشق. لكن ثلاثة منا قررنا البحث دون خوف أو وجل، فمضينا صوب المذهب الجعفري ننهل من معينه.


في عام 1994، وفي اليوم الأول لعيد الأضحى المبارك، قمنا في المكتب بزيارة آية الله السيد مرتضى العسكري (رحمه الله)، الذي كان نزيل الشام في ذلك العام. قصدنا منزل السيد عزت الشابندر (أبو زينب)، عضو البرلمان العراقي حالياً، والمسئول السابق في حركة جند الإمام. كنت قد قرأت ودرست في تأليف (معالم المدرستين) للسيد العسكري، وراجعته بعد ذلك كثيراً في رحلة البحث، لذلك كانت لدي رغبة في الإلتقاء به.


كان السيد متقدماً في السن، ولاحظت منه أسلوب المحاضرة في الحديث، وقلّة الإستماع، أو إهمال ما يقوله الحاضرون في المجلس. أعتقد أن كبر سنّه كان سبباً في صعوبة إستماعه.


قرّب السيد عزت الشابندر وجهه إلى جانب أذن السيد العسكري وقال له بصوت مرتفع قليلاً ومازحاً: هذا سنّي وشيعناه (يقصد ممثل مكتب الحركة الإسلامية الكُردية في دمشق)! هكذا قالها الشابندر!


سمع السيد العسكري الكلام وصدّق مزحة الشابندر، وأخذها على محمل الجد!
وبدأ السيد بتلاوة تأريخية قاسية، للمسائل التي حدثت بين الرعيل الأول من المسلمين، وبدا قليل الإحتراس في إطلاق أوصاف ونعوت حادّة، بحق شخصيات ورموز إسلامية تأريخية لدى السنّة.


كنا نحن الإثنين من السنّة، فبدا الإحراج على وجه الحاضرين، لكن لم يقدر أحد أن يقاطع السيد مرتضى العسكري، حتى رفع أحدهم صوته وبشئ من الضحك: عزّت ورّط سيدنا. فضحك الجميع!
نعم، فمزحة الشابندر جعلت السيد مرتضى العسكري، يسهب في حديثه خارج المجاملة والأطر الديبلوماسية مع من هم خارج دائرة المذهب. كان عيداً وشعر الحاضرون أنهم أساءوا إلينا، فما كان ينبغي أن يحدث ما حدث!

بعد أيام تلقينا إتصالاً من حاشية السيد العسكري، أنه يود إستضافتنا، واتفقنا على الموعد وزرنا السيد في مكان إقامته بعد أسبوع من زيارة العيد تلك. كان السيد العسكري مختلفاً عما بدا في الزيارة الأولى. كان حديثه جميلاً، وفي الوحدة الإسلامية، والإشادة برموز سنيّة قديمة (مثل أبا بكر، وعمر، وعائشة) وحديثة (مثل العلماء المتأخرين)، وأثنى على سيد قطب وحسن البنّا خيرا.

والحال، فإن علاقة السنّة والشيعة على مرّ التأريخ لا تتجاوز هذا الأسلوب، وهذه المجاملات المتبادلة!
إن خرافة التقريب بين المذاهب، ومؤتمرات الوحدة الإسلامية المزعومة، والمصالحة بين السنّة والشيعة، وأن الأمة الإسلامية واحدةٌ متحدة، انتهت بفضاوة مخجلة، وخالية الوفاض ومُحبِطة!
يتهم الجانبان بعضهما البعض علناً، كلّما قام أحدهم بنشر ما يتململ تحت الطاولات والسجاجيد، بالعمالة للصهيونية العالمية، والإمبريالية، والموساد، والماسونية وما إلى ذلك!
وفي الواقع فإن الصهاينة والإمبرياليين، أبرياء من معظم ما يحدث بين المسلمين، ولا علاقة لهم به.
نعم تستغل قوى عالمية الخلافات والصراعات بين السنّة والشيعة، لكنها لا تقدر على خلق الأحداث.
تجيّر هذه القوى الصراعات والخلافات العالمية، بما فيها ما يدور بين الشيعة والسنّة، ولكن للأحداث أصول تأريخية طويلة، خارجة عن صنع أيادي الإمبرياليين والماسونيين والصهاينة.

يقول بعض الشيعة والسنّة، ومنهم السيد محمد حسين فضل الله (الذي زرته أكثر من مرة في بيروت وأكنّ له كل التقدير والود)، أن ما صرّح به الشيخ يوسف القرضاوي quot;حديث فتنةquot; و quot;إثارة المشكلة أو الأزمة بين المسلمينquot;، لأن (الفتنة نائمة!) حسب زعم بعض المطبلين لـ (الأمة الإسلامية)!

على أرض الواقع، لا توجد أمة إسلامية! هناك أمم وفرق مختلفة متصارعة، تدعي كل واحدة أنها الفرقة الناجية. الخلاف بين هذه الفرق والأحزاب، عقدي وفقهي مزمن يشمل كلّ شئ، من أصغر الصغائر إلى أكبر المسائل.
لكنني لا أتحدث عن ذلك، فهو موضوع عقيم، فضلاً عن وضوحه لكل من يريد معرفة الحقيقة، أن المسلمين منقسمون على فرق بعضها يكفّر البعض.


لكن لنتحدث عن الواقع القائم دون لف ودوران. لأن من مزيا المجتمع الشرقي هو النفاق والتورية، وممارسة الكثير من الحقائق والعادات في السرّ، وإبداء الزيف والكذب أمام الحضور والمشهد!

إن إقحام إسرائيل وأميركا والماسونية، وما يصطلح عليه بـ (أعداء الأمة الإسلامية)، في الخلاف والصراع السنّي الشيعي، أمرٌ ليس له مرد إلا الإنغماس العميق في الجهل، والتخلف والأحقاد!

إن طهران قد تكون العاصمة الوحيدة في هذا العالم، لا يوجد فيها للمسلمين السنّة جامع واحد، مع العلم أن عدد السكان يتجاوز الخمسة عشر مليون نسمة، وعدد السنّة فيها أكثر من مليون إنسان!
إن مذابح السنّة والشيعة في باكستان (يقيمون المذابح داخل المساجد والحسينيات)، وفي أفغانستان ليست بخافية على أحد.
وفي العراق وأمام العالمين، قامت ميليشيات شيعية بإقامة المجازر للسنّة بأبشع طريقة، فيما لم تتوان جماعات سنيّة في إستهداف كل ما هو شيعي. لقد شاهدنا ذلك مراراً وتكرارا.


أما على الصعيد الثقافي والفكري فلن أتحدث عن تجربتي ودراستي في المذهبين، وكيف يحسبان بعضهما البعض، لكنني أحيل القارئ إلى كتب الفريقين، وللسهولة إن لم يكن يحبذ القراءة، إلى صفحة الـ (يوتيوب) على الإنترنيت والبحث عن كلمة الشيعة أو السنّة، ويرى بأمّ عينيه كبار القوم وشيوخهم ماذا يقولون في حق بعضهم البعض، وكفى!

الجمهورية (الإسلامية) في إيران قامت بقتل وإغتيال عشرات العلماء السنّة، وبطرق وحشية وعنصرية. وقامت المخابرات الإيرانية بقتل وتصفية شيوخ كبار، وعلماء بارزين لأهل السنّة مثل: الشيخ العلامة ناصر سبحانى (أعدم في يوم عيد الأضحى المبارك عام 1990)، الشيخ عبدالوهاب صدّيقي، الشيخ العلامة أحمد مفتى زادة، الشيخ الدكتور علي مظفريان، الشيخ عبدالحق، الشيخ الدكتور أحمد ميرين سياد البلوشي، الشيخ محي الدين خراسانى، المهندس فاروق فرصاد، الشيخ العلامة و القاريء الكيبر محمد ربيعي، الاستاذ ابراهيم صفي زادة، الشيخ نظر محمد البلوشي، الشيخ دوست محمد البلوشي، الشيخ محمد ضيائي، الشيخ عبدالملك ملازاده، الشيخ عبدالناصر جمشيد زهي، الشيخ القاضي بهمن شكوري...والخ.


وكنا تحدثنا كثيراً عن إستدراج إيران للمفكر الإسلامي فاضل رسول، والوفد الكُردي برئاسة الدكتور عبدالرحمن قاسملو، في 13/7/1989 وأغتيلوا في أول يوم عيد الأضحى المبارك. وبعد ذلك تم إغتيال الدكتور صادق شرفكندي ومرافقيه ببرلين عام 1992. الإغتيالات كثيرة لا يمكن عدها في مقال!


وكذلك قد تكون إيران الدولة الوحيدة في إغلاق مساجد وجوامع أهل السنّة، وتحويلها إلى أماكن تجارية وخدمية مثل: مدرسة ومسجد نور الإسلام في مدينة جوانرو في كُردستان، مسجد ومدرسة شيخ قادر بخش البلوشي في محافظة بلوشستان، مسجد لأهل السنة في هشت بر في محافظة جيلان، مسجد حاج أحمد بيك في مدينة سنندج مركز محافظة كُردستان، مسجد في كنارك في ميناء جابهار ببلوشستان، مسجد في مدينة مشهد في شارع 17 شهريور، مسجد الإمام الشافعي في محافظة كرمانشاه في كُردستان، مسجد أقا حبيب الله في مدينة سنندج بكُردستان، مسجد الحسنين في شيراز، مسجد ومدرسة خواجة عطا في مدينة بندر عباس بمحافظة هرمزكان، مسجد النبي (ص) في مدينة باوه في كُردستان، مدرسة مولانا جلال الدين منصور أقايى، مدرسة خليل الله في مدينة سنندج. وكذلك تم هدم مسجد (جامع شيخ فيض) الواقع في شارع خسروي في مدينة مشهد بمحافظة خراسان في 18/7/1994م، وتحويله إلى حديقة للأطفال!


هذا نزرٌ يسير من أهوال أحوال أهل السنّة في إيران. أما منطقة عربستان (خوزستان) وبلوشستان وآذربيجان الإيرانية وكُردستان، فهي إلى اليوم تعاني الغبن والتمييز العنصري المزدوج.


ما علاقة إسرائيل وأميركا والماسونية والصهيونية والغرب عموماً بكل ذلك؟!
وهل الفتنة حقاً نائمة؟!
يتناسى بعض المراجع والأحزاب الشيعية، التي تصدت لتصريحات الدكتور يوسف القرضاوي، أنه كان من أشد المساندين لحزب الله اللبناني، في معركته مع إسرائيل صيف عام 2006. لذلك فالأولى التقوى في إتهام الرجل بالعمل بإيحاءات غربية!

الغرب ومنظمات الغرب ودوائر الغرب، ليست عاطلة وفاضية إلى هذا الحد، لتأتي وتوقظ فتنة نائمة بين المسلمين. فالفتنة قائمة وتمشي بيننا في كل صوب وحدب، وفي كل يوم حتى في أيام عيد الأضحى!

لا يهم الغرب أن يأتي ويستفيد من تصريحات هذا الشيخ أو ذاك، أو البحث في أسباب اللطم والتطبير، أو كيفية مقتل الحسين (ع)، أو عما جرى في السقيفة بُعيد وفاة الرسول (ص).


كلّا، الغرب منشغل بقوة وعمق في إجراء المزيد من البحوث، وإقامة المزيد من المؤتمرات العلمية والدراسية، وتخصيص ميزانيات أكثر لقطاع العلم والتربية، لمواجهة التحديات الحاضرة والمستقبلية.


إن إيجاد الطاقة البديلة، وتوظيف الطاقة الشمسية لخدمة الإنسان، والمحافظة على البيئة، ومواجهة مخاطر إرتفاع درجات حرارة الكوكب، وإرتفاع مستويات مياه البحار، ومعالجة الأمراض المزمنة الفيزيولوجية والإجتماعية، تشكل هموم الغرب وقضاياه الحيوية.
وبالطبع فإن إسرائيل كدولة متقدمة، وديموقراطية أكثر من كل الدول العربية والإسلامية بما فيها السلطة الفلسطينية، هي جزء من النسيج الغربي.


إننا نملك أكثر الخيرات والثروات، لكننا الأفقر والأتعس. أما الغرب فيملك الحظ الأوفر في العقل، نعم العقل، لذلك تعيش شعوبه الرفاهية والتقدم!
إن أمّ الفتن وأكبرها مصيبة، أصابت المسلمين هي فتنة الغباء والجهل، لذلك فهم تعساء!

علي سيريني

[email protected]