أطرف حكاية من حكايات عجائز الشيوعية العربية تقول أن عدداً من الشباب الأردني في الجامعة الأميركية في بيروت في أربعينيات القرن الماضي اجتمعوا للبحث في إقامة حزب شيوعي في الأردن فاقترح أحدهم أن يسمى الحزب quot; الحزب الشيوعي الهاشمي quot; كيلا يواجهوا سلطة الدولة التي على رأسها الأمير الهاشمي عبدالله بن الحسين. وحكاية أخرى ذات دلالة وهي أنني أقوم بزيارة أحد هؤلاء العجائز بين الفينة والأخرى ويحملني مجرى الحديث معه إلى أن أتحدث في النظرية الماركسية وغالباً ما يبدي ضيقه من حديثي وينفجر أحياناً محتجا بالقول.. quot; لا تحدثني في النظرية فأنا لا أفهم في التنظير، لنتحدث عن الحكم في البلد وعن تحسين معاش الشعب ! quot;. وحدث حديثاً أن سألته تعقيباً على هذا الإحتجاج.. quot; لنفرض أن الملك قد وجد نفسه أمام الحائط المسدود وتحقق من أن الطبقة الحاكمة قد فشلت تماماً في تحسين معاش الشعب فاستدعاك شخصياً وهو يعلم أنك قضيت عمرك شيوعياً وفي قيادة الحزب الشيوعي وأميناً عاماً له وكلفك بتشكيل الوزارة التي ترغب وتقرر البيان الوزاري الذي ترى، فما عساك فاعل إذّاك ؟ quot; أطرق هذا العجوز هنيهة وقال... quot; لا شيء quot; ؛ فعقبت إذّاك بالقول.. quot; ها أنت ترى أن من يجهل النظرية مثلك لا يعرف كيف يحكم. خذ مثالاً على ذلك نيكيتا خروشتشوف، فقد ارتد عن المسار الإشتراكي لأنه لا يعرف حرفاً من الماركسية اللينينية رغم تعصبه للشيوعية quot;، فاعترض العجوز الشيوعي مستهجناً.. quot; كيف تقول هذا عن خروشتشوف ؟ quot;، فأجبت.. quot; ابنه سيرجي الذي قال : ـ أنا لم أرَ والدي يوماً يقرأ ولو صفحة واحدة من مؤلفات ماركس أو لينين ـ ثم ألا تذكر أن خروشتشوف كان قد ألغى قاعدة ذهبية لماركس وهي دكتاتورية البروليتاريا في المؤتمر الاستثنائي العام الحادي والعشرين للحزب الشيوعي عام 59 وألغى أيضاً قاعدة ذهبية للينين وهي الوحدة العضوية ما بين الثورة الإشتراكية والثورة الوطنية ؟ لا يمكن لأي ماركسي لينيني مهما ضحلت معلوماته أن يلغي هاتين القاعدتين الذهبيتين.
ذكرت هاتين الحكايتين لأدلل على أن عجائز الشيوعية العربية بل وعجائز الشيوعية في العالم كله يخْرَفون أيضاً فلا يعود لديهم إلمام معقول بعلوم الماركسية، وهي علوم ليست سهلة في كل الأحوال لكنها ضرورية للشيوعي كضرورة الأكسجين للكائن الحيّ، بل أكثر من ذلك فالشيوعي بدون ماركسية أو بقليل منها يغدو عدواً للشيوعية دون أن يدري، وخير مثال على ذلك نيكيتا خروشتشوف الذي عمل بغير وعي منه على انهيار المشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية الذي كلف البشرية عشرات الملايين من الضحايا عداك عن جهود شعوب لا حدود لها وخاصة منها الشعب الروسي العظيم طيلة القرن العشرين.
في مقالتنا قبل الأخيرة أكدنا عل أن الطبقة الوسطى السوفياتية ما كانت لتنجح في تقويض المشروع اللينيني بالثورة الإشتراكية العالمية، الذي تعالى في الإتحاد السوفياتي وفي العالم كله بسرعة وبصورة مدهشة خلال النصف الأول من القرن العشرين، لو توفر الوعي الماركسي اللازم لدى الحزب الشيوعي السوفياتي أو لدى قيادته على الأقل. وليس من عجب في ذلك فمن الصعوبة بمكان أن يُغرس الوعي الماركسي في تربة البورجوازية الوضيعة، والقيادة السوفياتية كانت بمجملها من المثقفين، من البورجوازية الوضيعة. في العام 1922 نشر لينين في جريدة البرافدا مقالة يهدد فيها بالاستقالة من اللجنة المركزية للحزب بسبب قصور أعضائها في الوعي الماركسي وهو ما كان يدفع بهم إلى الوقوف ضد سياساته. وفي وصيته لدى رحيله ندد لينين بقلة بلشفية تروتسكي التي ورثها من رفاقه المناشفة ومن بليخانوف (أبو الماركسية) في روسيا. وفي العام 1938، حين كانت نذر المؤامرة الكبرى تهدد وجود الإتحاد السوفياتي، وبخ ستالين أعضاء المكتب السياسي، وهو الهيئة التي تقود الثورة الإشتراكية في العالم، وبخهم بسبب قصورهم في الوعي الماركسي متسائلاً.. quot; ما أمركم ؟ هلاّ تقرؤون ماركس ؟ quot; فكان أن أخذ إجازة على غير عادته، وألف كتابه القيّم quot; المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية quot; وطلب من مختلف كوادر الحزب قراءته بعمق. أما خروشتشوف الذي تبوأ مركز لينين وستالين فقد أبدى في مؤتمري الحزب الحادي والعشرين (59) والثاني والعشرين (61) غباء وجهلاً مطبقين في العلوم الماركسية سواء كان ذلك في سياسة الوفاق الدولي (ملاقاة الإمبريالية في منتصف الطريق)، أم فيما سمّي آنذاك (دولة الشعب كله) وإلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا وهذا لا يعني سوى انتقال السلطة من أيدي البروليتاريا إلى أيدي البورجوازية الوضيعة، أو في رسم خط فاصل بين ثورة التحرر الوطني والثورة الإشتراكية وهو ما نجم عنه إنقلابات رجعية سوداء في العديد من دول العالم الثالث وهزيمة العرب في حزيران 67، أو في سياسته الإقتصادية البورجوازية التي تقوم على الاعتماد الذاتي للمؤسسة الإقتصادية في موازنتها السنوية وهو ما يعني إلغاء التخطيط المركزي للإقتصاد الإشتراكي والتحول إلى إقتصاد السوق، أو سياسته الزراعية التي تجسدت بمشروعه الشهير في زراعة شمال كازاخستان المحاذي للدائرة القطبية بالحنطة وهو ما أنزل بالإتحاد السوفياتي خسائر قدرت بثلاثين ملياراً من الدولارات. مثل هذا الغبي جمع في مكتبه السياسي أربعة وعشرين غبياً مثله في العام 64 وشتمهم بمخاطبتهم.. quot; خراء ستالين أفضل منكم ! quot; ـ وكانت تلك الحقيقة الوحيدة التي تلفظ بها خروشتشوف.
اصطفاف الشيوعيين العرب وغير العرب وراء خروشتشوف شكّل دلالة قطعية على قصور الوعي الماركسي لدى هؤلاء الشيوعيين من عجائز اليوم. بل ما يؤكد من عمق هذا القصور هو أن أحداً من هؤلاء العجائز لا يذكر شيئاً من هرطقات خروشتشوف بعد افتضاح دورها في تهديم المشروع اللينيني وانهيار الإتحاد السوفياتي ؛ لا يقيمون وزناً لهرطقات خروشتشوف وأثرها الحاسم في انهيار الثورة الإشتراكية والإتحاد السوفياتي، ليس لأنهم فقط أيدوا خروشتشوف آنذاك فساهموا بقدر أو بآخر في انهيار المعسكر الإشتراكي، بل لأنهم أيضا لا يمتلكون الوعي الكافي في العلوم الماركسية.
أحد هؤلاء العجائز العرب نشر مؤخرا مقالة يشكو فيها من تباريح أشواقه الحرّى للنظام السوفياتي الذي كان سائداً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قام خلالها بعدة زيارات للإتحاد السوفياتي، ويؤكد أنه سيواصل النضال من أجل الإشتراكية بالرغم من عمق الإنهيار الذي حدث لذلك النظام. الحق أنني تأثرت عميقاً بحرارة أشواقه الصادقة، لا شك في ذلك، لكنني بذات الوقت لم أقدر مواصلته النضال من أجل الإشتراكية. هذا العجوز الذي قضى عمره الطويل مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني لا يعرف أية سمة من سمات الإشتراكية التي نذر نفسه للنضال من أجل تحقيقها، وليس لديه أدنى مستوى من الوعي الماركسي. إشتراكيته ليست اشتراكية، ولعلها غالباً ما تكون مثل اشتراكية البعثيين في العراق وسوريا، فهو يقول أن ما كان في الإتحاد السوفياتي ليس هو الإشتراكية رغم تباريح أشواقه للنظام السوفياتي!! ومع ذلك لم يفصح هذا العجوز الشيوعي عن أسباب تشوقه للنظام السوفياتي غير الإشتراكي حقاً وفق مزاعمه !! تقرأ هذا العجوز الأخرق فتدهش مما تركه انهيار المعسكر الإشتراكي عليه من اضطراب في التفكير. يصف ماركس بعبقري الألفية الثانية ومع ذلك يقول.. quot; لو عاد ماركس إلى الحياة لما كتب ما كتب quot; !! هذا العجوز الخرف عرف عبقرية ماركس من غير ما كتب !! مماذا إذاً ؟!! من لحيته الكثة أم من هامته العالية ؟!! ويقول أيضاً وهو يتفرج على تمثال ماركس في موسكو.. quot; لو نطق تمثال ماركس لأنكر كل الذين إدّعوا الماركسية باسمه quot; وهو يقصد لينين تحديداً إذ كان قد كتب مطالباً بمحاكمة لينين !! ثم زار ضريح لينين وتخيّله يتكلم ويخطب خطاباً حاداً ينكر فيه من ورثوه، والمقصود هنا هو ستالين تحديداً الذي يستنكره هذا الخرف صبح مساء. وحبذا لو أن هذا العجوز الذي أكّد بأنه سيقضي ما تبقّى له من عمر مناضلاً من أجل تحقيق الإشتراكية ـ اشتراكيته وليس اشتراكية ماركس ـ حبذا لو بدأ نضاله (الإشتراكي) بأن يشرح لنا أسباب إعجابه بالنظام السوفياتي الذي بناه ستالين وفق المخطط اللينيني الذي انتهج منهج ماركس! لئن كان النظام السوفياتي ليس هو الإشتراكية فما عساها تكون اشتراكية هذا العجوز الخرف ؟؟ إن لم تكن مثل اشتراكية البعثيين فلا بد أن تكون في أفضل حالاتها مثل اشتراكية حزب العمال في بريطانيا ومتيران في فرنسا وشرودر في ألمانيا. ألا بئس مثل هذه الإشتراكية !! سيعدم هذا العجوز الخرف أي مبرر ماركسي لكل الغثاء الذي تفوّه به ؛ مبرره الوحيد هو عمره الطويل في الحركة الشيوعية.
* * *
عجوز آخر من عجائز الشيوعيين العرب يقول اليوم أن المثقفين هم الذين يقودون الطبقة العاملة إلى الثورة الإشتراكية !! ويبرر لنفسه مثل هذه الضلالة بالقول أن كارل ماركس كان قد أسس وقاد الأممية الأولى، وفردريك إنجلز كان قد أسس وقاد الأممية الثانية، وفلاديمير لينين أسس وقاد الأممية الثالثة لكن أحداً من هؤلاء الثلاثة لم يكن أصلاً من الطبقة العاملة ؛ كانوا من المثقفين. بل ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي فلم يكن أحد منهم من الطبقة العاملة. يحضرني في هذا المقام الكتابة الأولى لجوزيف ستالين في العام 1901 تحت عنوان (الواجبات الملحة لحزب العمال الإشتراكي الديموقراطي في روسيا) وقد وجّه نقداً حاداً للأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا (أحزاب الأممية الثانية) وحزبه في روسيا بصورة خاصة لأنه قصر نشاطاته على المثقفين الذين ليس لهم مصلحة حقيقية في الثورة الإشتراكية وأهمل العمال ذوي المصلحة الحقيقية وحدهم في الثورة. ليس ثمة شك في أن أصول البورجوازية الوضيعة لجميع أعضاء القيادة للحزب الشيوعي السوفياتي البولشفي كونهم من المثقفين، إنما هو دلالة قطعية على تخلف نظام الإنتاج الرأسمالي في روسيا القيصرية (الحلقة الضعيفة) قبل انتفاضة أكتوبر 1917 وهو الأمر الذي ظل يعاني منه الإتحاد السوفياتي طيلة عمره، ولذلك فقط تمكنت الطبقة الوسطى، وشريحة المثقفين في الطليعة منها، من تقويض المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية. ومن المفيد أن نعود لنذكر في هذا السياق أن لينين لم يرَ في أعضاء اللجنة المركزية لحزبه في العام 1922 شيوعيين حقيقيين، ولم يرَ ستالين كذلك أعضاء المكتب السياسي للحزب عام 1938 ماركسيين حقيقيين، وحتى خروشتشوف نفسه الذي لم يتخلّ نهائياً عن إيديولوجيا البورجوازية الوضيعة لم يرَ في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي عام 64 ما يساوي أكثر من خراء ستالين.
من يقول بقيادة المثقفين للطبقة العاملة في الثورة الإشتراكية لا يفقه شيئاً في نظرية الصراع الطبقي. المثقفون هم أهم شريحة، بجانب صغار الفلاحين، من شرائح الطبقة الوسطى. ثمة تناقض حدّي لا يمكن تجاوزه بين العمال من جهة والمثقفين من جهة أخرى ـ وكذلك الفلاحون. فالعمال لا يمتلكون قوة عملهم ليبادلوها بتصرف في السوق كيما يؤمنوا أسباب عيشهم ؛ عليهم بيعها للرأسمالي تحديداً من أجل تحويلها إلى سلعة من خلال أدوات الإنتاج التي يمتلكها الرأسمالي كيما تتم مبادلتها في السوق ؛ بعكس الطبقة الوسطى التي تمتلك قوة عملها وتتصرف بها بحرية فتبادلها في السوق، بل وخارج السوق في الغالب، لمصلحتها مباشرة. الطبقة الوسطى تبيع قوة عملها مباشرة دون تحويلها إلى سلعة كما في حالة العمال، وهي تنتج فردياً وتبادل فردياً وهذا امتياز لا تمتلكه حتى الطبقة الرأسمالية. الثورة الإشتراكية تصادر منها هذا الامتياز إذ ليس في الإشتراكية سوق وليس فيها مبادلات فردية رغم وجود الإنتاج الفردي ـ وكان واسعاً في الإتحاد السوفياتي بسبب تخلف طبقة البروليتاريا الموروث. لم يكن ممكنا تحويل الفلاحين والعمال الزراعيين إلى بروليتاريا دون استخدام الإنتاج الفردي (الخدمات) بشكل واسع ومضاعفة الطبقة الوسطى بالتالي وهو ما تسبب بانهيار الإتحاد السوفياتي أخيراً مع ما رافق ذلك من انحسار الوعي الماركسي في قيادة الحزب الشيوعي بشكل خاص.
لا يمكن أن تتنازل الطبقة الوسطى طوعاً عن امتلاكها لقوة عملها وبالتالي لإنتاجها. كان ماركس قد تعرّض لهذه المسألة عندما ردّ على اتهام البورجوازيين للشيوعيين بتحطيم الطبقة الوسطى دون رحمة حين أكد أن الرأسماليين كانوا قد حطموا الطبقة الوسطى بصورة وحشية خلال القرن التاسع عشر، لكن الشيوعيين بالمقابل سيلغون الإنتاج الفردي الخاص بالطبقة الوسطى دون التنكر لمصائر أفرادها كما كان قد فعل الرأسماليون. وتعرض ستالين أيضاً لذات المسألة عندما أكد ارتفاع وتيرة وحدة الصراع الطبقي مع التقدم في بناء الإشتراكية. ليس أسهل في الثورة الإشتراكية من مصادرة ممتلكات الرأسماليين من أموال وأدوات إنتاج، العقبة الكأداء التي تواجه دكتاتورية البروليتاريا هي إلغاء وسائل إنتاج الطبقة الوسطى من فلاحين ومن مثقفين، وكان ستالين قد أشار إلى هذا الأمر في المناقشات الحادة والمطولة التي دارت في قيادة الحزب في العام خمسين من القرن الماضي وتركزت حول إلغاء طبقة الفلاحين بقرار من الحزب مرة واحدة وإلى الأبد وهو ما رفضه ستالين بصورة قطعية مميزاً بين سهولة إلغاء طبقة الرأسماليين وصعوبة إلغاء الطبقة الوسطى التي تضم الفلاحين والمثقفين وعامة المهنيين. تكالب الطبقة الوسطى وفي طليعتها المثقفون في الدفاع عن الوسيلة الفردية في الإنتاج وحمايتها لا مثيل له في الشراسة وفي الخداع بذات الوقت وهذا ما أشار إليه كارل ماركس وفردريك إنجلز في quot; البيان الشيوعي quot; وأكدا أن الطبقة الوسطى تقاوم الثورة الإشتراكية وتقوم بدور رجعي في محاولة لأن تعيد عجلة التاريخ إلى ما قبل النظام الرأسمالي حين كان الإنتاج يتم بوسائل فردية كما في الحرف. دولة دكتاتورية البروليتاريا السوفياتية ما كانت لتنهار أمام أعتا القوى في العالم، مثل ألمانيا الهتلرية المسلحة حتى الأسنان، لكنها انهارت في معركة شرسة بدأت بقيادة نيكيتا خروشتشوف عام 1954 وانتهت بانتصار بوريس يلتسن عام 1991 وكلاهما من قادة الحزب الشيوعي السوفياتي الأمر الذي لن يستطيع تعليله العجوز صاحب مقولة المثقفين. صحيح أن الطبقة العاملة تضاعفت أعدادها عشر مرات ما بين 1917 و 1938 لكنه صحيح أيضاً أن أعداد الطبقة الوسطى تضاعف بالمثل أو أكثر ولم يكن كل ذلك بسبب (الحلقة الضعيفة) أو تخلف الرأسمالية القيصرية بل السبب الأخطر كان الحروب الإمبريالية التي شنّت على الدولة الإشتراكية الوليد وعلى المؤامرات المتواترة المحيطة وخاصة الحرب الهمجية الكبرى التي شنها الهتلريون الألمان على الدولة السوفياتية المسالمة. ترتب على الدولة السوفياتية أن تحتفظ بجيوش تعد ما يزيد على أربعة ملايين عسكرياً وما يتطلبه ذلك من نفقات باهظة. عمل هؤلاء على حماية الوطن لكنهم، وهم من الطبقة الوسطى والبورجوازية الوضيعة، انتهوا أخيراً إلى التآمر على النظام الإشتراكي وتقويضه. أليست هي دبابات quot; الجيش الأحمر quot; التي قصفت البرلمان في أكتوبر 1993 وقد جعل منه من بقي من الشيوعيين متراسهم الأخير ؟
اللغز العاصي على التفكيك هو رفض الشيوعيين، الذين انتصروا لخروشتشوف، للقاعدة الماركسية الذهبية التي تقول أن الصراع الطبقي هو وحده الذي يحرّك التاريخ، التاريخ الذي تحرك بقوة فيما يخص انهيار المشروع اللينيني بعد أن شغل كل تاريخ القرن العشرين. يقرّون بالصراع الطبقي داخل المعسكر الرأسمالي ولا يقرونه في المعسكر الإشتراكي !! عجيب أمر هؤلاء ! هل كان ستالين وهو قائد المسيرة الإشتراكية يختلق الأعداء عندما أكد تصاعد حدة الصراع الطبقي كلما تقدم البناء الإشتراكي ؟! ثم هل انهار النظام الاشتراكي من داخله أم جرّاء مؤامرة أعدائه من الخارج ؟ ما لا يستطيع أحد إنكاره هو أن معظم أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي شاركوا في تفكيك الإتحاد السوفياتي واستقلوا في جمهورياتهم وألقوا بالشيوعية وراء ظهورهم فظهر منهم غورباتشوف ويلتسن وشفرنادزه أعداء للشيوعية، وظهر علييف رئيس أذربيجان ونور سلطانوف رئيس كازاخستان وإسلام كريموف رئيس أوزبكستان وصابر نيازوف رئيس تركمانستان وجميعهم من قادة الحزب الشيوعي وأعضاء في مكتبه السياسي، ظهروا على حقيقتهم بورجوازيين وضعاء لا علاقة لهم بالعمل الشيوعي من قريب أو بعيد.
صحيح أن كارل ماركس وفردريك إنجلز وفلاديمير لينين هم أصلاً من المثقفين لكن هؤلاء الثلاثة امتلكوا نظراً ثاقباً فاستشرفوا حقائق المستقبل وأولها انتصار البروليتاريا العالمية في صراعها ضد الرأسماليين فقرروا الإنتقال من الطبقة الوسطى إلى طبقة البروليتاريا وتفعيل أدوات الصراع لدى البروليتاريا ليس ضد الرأسماليين فقط بل وضد الطبقة الوسطى أيضاً. ليس ممكنا بعد هذا الإنتقال القطعي الحديث عن انتماء ماركس وإنجلز ولينين إلى الطبقة الوسطى، طبقة المثقفين. ثمة من انتقل من الطبقة الوسطى إلى طبقة البروليتاريا انتقالاً غير قطعي وظل يبشر بسويّة وسائل إنتاج الطبقة الوسطى، وسائل الفلاحين أو وسائل المهنيين أو وسائل المثقفين، مثلما بشّر خروشتشوف، فمثل هؤلاء ظلوا الأبناء الحقيقيين لأصولهم الطبقية وخونة طبقة البروليتاريا.
* * *
الخرف الحاد لدى بعض العجائز يدفع بهم إلى إنكار تاريخهم واستنكاره. بعض عجائز الشيوعيين يقصّون بعد أن خَرِفوا بحدة قصصا من اللامعقول تقول أنهم كانوا طيلة عمرهم مخدوعين من قبل البلاشفة الروس ؛ ظنوهم إشتراكيين قبل سبعين عاماً وإذ بهم حقيقة رأسماليون. هؤلاء البلاشفة المخادعون لم يخدعوا شيوعيينا العرب فقط بل خدعوا أيضاً قادة وزعماء الدول الغربية الرأسمالية الكبرى والصغرى على حد سواء فظنوهم اشتراكيين ولذلك أرسلوا جيوشهم الجرارة لإبادتهم في بلادهم ولو عرفوا حقيقتهم، حقيقة أنهم رأسماليون، لما أرسلوا جيوشهم إلى روسيا وتكبدوا خسائر مادية وبشرية فادحة !! من المثير جداً أن بعض الشيوعيين العرب استطاعوا أن يكتشفوا هذه quot; الحقيقة quot; بعد مائة عام فسجلوا سبقاً علمياً على دهاقنة العلوم السياسية والإقتصادية في الغرب الصناعي الرأسمالي !!
كتبنا قبل أسبوع تعليقاً على تخريف أحدهم تحت عنوان quot; ما بين الإشتراكية ورأسمالية الدولة quot; لكن خَرِفاً آخر ما لبث أن كتب باسم أنور نجم الدين تحت عنوان quot; الإتحاد السوفياتي : أسطورة اشتراكية القرن العشرين ! quot; فقص ذات الخرافة وقال برأسمالية الدولة السوفياتية !! من المعروف تماماً أن الخرفين لا يخجلون بتخريفاتهم بل ولا يستحون من كل ما يمت إلى الحياء بصلة. هذا العجوز أو الطفل ـ وأنا لا أعرف عمره، والعجائز يعودون أطفالاً بكل تكوينهم النفسي ـ لا يعرف من علوم الإقتصاد حرفاً ومع ذلك لا يخجل من أن ينّظر فيطلق نظرية خنفشارية تقول أن quot; قانون العرض والطلب quot; هو ما يقرر مصائر الدول فيقول من جملة ما يخرّف.. quot; قانون العرض والطلب يحكم على العالم وعلاقاته الاقتصادية بأكثر الأشكال تنوعا، وان كل ارادة خاصة للقادات والدول تخضع رأسها أمام جبروت قانون العرض والطلب وان خروج الاتحاد السوفياتي، أو أي بلد آخر، من دائرة هذا القانون... يشبه في الواقع بخروج الأرض من دائرة النظام الشمسي quot; ـ وأعتذر للقراء عن اللغة المتهالكة للمدعو أنور نجم الدين. وهنا أقول له بكل تواضع.. quot; أيها السيد إذا كانت معلوماتك في علم الإقتصاد بحدود هذا المستوى المتدني فلما تكتب أصلاً ؟ لماذا لا تحتفظ باحترام الذات فلا تكتب في الإقتصاد على أقل تقدير ! quot; قانون العرض والطلب الذي قررته محدداً لمصائر الدول ليس من القوانين الفاعلة في الإقتصاد أصلاً، ولا علاقة له بالعلاقات بين الدول. ألم تخشَ أن تكون أضحوكة العالم وأنت تتفوّه بمثل هذا اللغو وسقط الكلام ؟ قانون العرض والطلب إنما هو إحدى ميكانزمات السوق الرأسمالية فقط ويتحدد فعلها في أن تعكس مساحة الطلب عل السلعة وبذلك تحافظ على تأرجح السعر حول القيمة الفعلية للسلعة وهذا ليس من مفاصل علم الإقتصاد بشيء. الإنسان مارس الإنتاج منذ أن افترق عن مملكة الحيوان قبل ملايين السنين لكنه لم يعرف قانون العرض والطلب إلا في العصر الرأسمالي أي في القرون الثلاثة الأخيرة، وسيندثر تماماً في مرحلة الاشتراكية.
يبدو أن من كتب باسم أنور نجم الدين كان قد عاش في الإتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، عندما لم يبقَ هناك من اشتراكية وقد قضت عليها عصابة خروشتشوف وأخصّهم ليونيد بريجينيف 1964 ـ 1982. كل الأرقام التي جاء بها نجم الدين هي من فترة الثمانينيات وكان النظام في حالة انهيار ـ كانت شرطة أندروبوف تلاحق العمال الهاربين من المصانع وتعيدهم بالقوة إلى العمل وكانت حكومة أندروبوف قد رفعت من أسعار السلع الإستهلاكية بنسبة مرتفعة. نجم الدين يوافق على أن ليس هناك من اشتراكية في الثمانينيات بل وفي ما قبل الثمانينيات ويذهب بعيداً ليدعي أن النظام السوفياتي كان رأسمالياً من فئة رأسمالية الدولة. مثل هذا القول ليس أقل استحقاقاً من قول quot; قانون العرض والطلب quot;. لو كانت الدولة رأسمالية كما يزعم نجم الدين، وآخرون ممن لا يعرفون ماهية الاشتراكية العلمية، لما أنتجت الدولة أضعاف أضعاف حاجتها من السلاح فكدست في مخازنها عشرة أضعاف مجموع أسلحة حلف الأطلسي والولايات المتحدة، ولما زودت العديد من دول العالم الثالث من مثل مصر وسوريا بمختلف صنوف الأسلحة مجاناً، ولما أنفقت 160 ملياراً من الدولارات على تعليم أبناء شعوب العالم الثالث ما بين 1970 و 1985.
ثمة مائة دلالة ودلالة تؤشر بصورة قاطعة على أن النظام السوفياتي لا يمكن وصفه بالرأسمالي. وجملة الأرقام التي أوردها نجم الدين ليست ذات دلالة حتى وإن كانت صادقة، وهي ليست كذلك. مبالغ الأربعين روبلاً والسبعين روبلاً ربما كانت جرايات الطلاب الروس وليس الأجانب الذين كانت جرايتهم مائة روبلاً أو أكثر. مثل هذه الجرايات التي كانت تجمع عشرات المليارات من الروبلات كانت تنفق دون مقابل، فالطلاب لا يعملون لدى الدولة ولا ينتجون ما يمكن مبادلته. الدول الرأسمالية لا تنفق أية جرايات للطلاب فيها. أشار نجم الدين إلى الفوارق الكبيرة في نظام الأجور السوفياتي واستنتج من ذلك رأسمالية الدولة. الفوارق في الأجور لا تقرر بشيء طبيعة النظام في الدولة، والفوارق التي تحدث عنها نجم الدين ليست صحيحة فالحد الأدنى للآجر كان 100 روبلاً والحد الأعلى والخاص جداً للأجور كان 600 روبلاً ولا أعتقد أن رئيس الوزراء أو عضو الكتب السياسي في الحزب كان يتقاضى أكثر من 800 روبلاً. الفوارق الكبيرة في الأجور التي تتعدى الستة أضعاف ومثلها بعض الإمتيازات الأخرى من مثل المخازن الخاصة قد تشير إلى فساد في النظام لكنها لا تشير بحال من الأحوال إلى طبيعة النظام الإجتماعي المعني.
في العام 1950 بحثت قيادة الحزب بجدية فائقة إلغاء طبقة الفلاحين التعاونيين، لكن ستالين رفض الإلغاء بقرار فوقي وفضل المحو الطبقي بالتعبير اللينيني الذي يستغرق بضع سنوات يتم خلالها إغراق المجتمع بالسلع الإستهلاكية، يتخلى في غمارها الفلاحون عن إنتاجهم الفردي الفلاحي. ما حدث فعلاً هو أن العسكر بعد رحيل ستالين رفضوا توجيه الإنتاج العام إلى السلع الإستهلاكية مفضلين صناعة الأسلحة وفي العام 1957 نادى رجلهم خروشتشوف بتوسيع طبقة الفلاحين بدل محوها وعاد إلى شعار عرابه الخائن بوخارين في العام 1925 القائل.. quot; أيها الفلاحون اغتنوا بأنفسكم quot; ! نختم بهذا لنقول أن الإشتراكية العلمية كما حددها لينين هي محو الطبقات بغض النظر عمّا توزعه من امتيازات للبعض دون الآخرين. الإشتراكية العلمية التي بدأها لينين في روسيا 1919، وليس1917 كما يقول العامة، توقفت في العام 1954 لدى ارتقاء البورجوازي الوضيع نيكيتا خروشتشوف قيادة الحزب والدولة. أكد خروشتشوف بقوة الوضع الطبقي في الإتحاد السوفياتي في الخمسينيات وألغى دولة دكتاتورية البروليتاريا في العام 1959 وهي الأداة الوحيدة القادرة على محو الطبقات. ويمكن القول أن الحال في الاتحاد السوفياتي فيما بعد الخمسينيات هو الاشتراكية المتآكلة باتجاه الإنهيار، ولأنور نجم عندئذٍ أن يذكر ما طاب له من أرقام.
فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات