الحكمة الصينية القديمة التي تقول quot; الحقيقة هي: أنا، أنت، ثم الحقيقة quot; قد تنطبق على واقعنا في العراق اليوم.
لم أجدُ في تعاليم الشريعة الأسلامية الى جانب الوعد والوعيد الألهي، أي تفسير مُقنع يخول لمسلم أنزال القصاص بمسلم آخر لأعتناقه أحدى المذاهب الدينية الأسلامية لكونها لاتتماشى مع تربيته ومعتقداته المتزمتة والأسراف في تأكيدها ولو بقوة السلاح. ولم يبارك الله سبحانه وتعالى ذلك أطلاقاً ولم تكن الرسالة المحمدية السمحاء قد سمحت لأولئك الذين حملوا سيوفهم وربطوا أحزمة الغدر بقتل مسلمين أخرين من العمال والكسبة الفقراء في الأسواق العامة لأختلاف مدارسهم الدينية والتمثيل بهم دون التعرف على ماألحقه الأطفال والنساء منهم من ضرر بحق الأمة.
لقد أبتليَّ تاريخ العراق الحديث منذ القرن العشرين بنخب الأعتراض السياسي الذين أدخّلوا البلاد في ظروف أستثنائية لم تنتهي بثورة العشرين ولم تذوب بسقوط الملكية الهاشمية في تموز عام 1958، كما أنها لم تنتهي قبل سقوط النظام العشائري الدكتاتوري عام 2003. والبارز في الحياة السياسة العراقية هو أن العراق لايحق له أختيار نظامه السياسي ألانساني الحضاري دون مباركة عربية أسلامية خارجية زائفة، كما أن الدلائل ( وهي كثيرة)،أنه حتى في الحالات التي أوضح فيها قادة العراق الرغبة الصادقة لتحسين وتنمية العلاقات مع الدول الجارة، كان الموقف سلبياً وغير متفهماً. ويلام قادة العراق الى حد كبير لعدم فهمهم حقيقة الأوضاع المصطنعة المتناقضة العربية والأسلامية منها والداءرة من حولهم. فقد أفتعلت أطرافاً معينة في مؤسسات رسمية (عربية وأسلامية ) الأزمات مع العراق، وفي حالات عدة، باركتْ لعناصر ذات خلفية عقائدية متطرفة من مدارس الأرهاب ماتقوم به من تخريب وأرهاب وسرقة، كما سهّلتْ لهم حمل أفكار شيطانية لتدنيس أرضه والأساءة الى قيّمه الحضارية ومعالمه الدينية.
من جهة أخرى أراها مرتبطة بما حصل لاحقاً، تراكمتْ على الأنظمة السياسية التي أستلمت السلطة بقوة السلاح حزمةً من التهديدات الخارجية والداخلية وأبرزت حقائق شاذة غير متناسقة، فسّرها أصحاب الشأن السياسي كل حسب طريقته ووجهة نظره. وبعد أن كان القضاء الشرعي والقوانين الوضعية التي وضعتها السلطة في يد القضاء العراقي منذ العهد الملكي هي التي تُقرر أنزال العقاب والتبرئة، حوّلتْ في عام 1963 الى محاكم قضائية مدنية ومحاكم الثورة التي أقرها وأصدرها مجلس قيادة الثورة بمراسيم جمهورية بغياب ممثلي الشعب وأعطاها صفة الشرعية نظراً ( ومرّة أخرى ) للظروف الأستثنائية وعدم الأستقرار. و بعد سقوط النظام الدكتاتوري، تطوعت شراذم عراقية مناوئة لوجه العراق الجديد ووضعت يدها بيد شرذمة من العصابات التي ألتبست وتبرقعت باللباس الأسلامي ودخلت الى البلاد في الظلام للتخريب واشاعة التفرقة والكراهية بين المسلمين وأدعتْ في سلوكيتها الوحشية تطبيق شريعة الله وعقابه للكافرين. وأنعكس الواقع الجديد على الحياة اليومية للأسرة العراقية التي تمسكت بأيمانها وتقواها ورضختْ لكل حقيقة واقعة. وأصبح واقع الحال، سواء أكانت هذه الظروف الأستثنائية في زمن الطاغية أو النظام السياسي الحالي، ترديد ماأوصى به الله (الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ).
أن ترديد ماأوصى به الله وتوحيد كلمته وأتباع هدى القرآن الكريم، لم يمنع أو يحد من نزول النكبات والمصائب العظيمة التي أرتكبها أناس بأسم الدين ولباس الوطنية المهلهل.
والتاريخ مليئ بالعبر والدروس السياسية والدينية الحسنة والسيئة التي يستطيع الأنسان الرجوع الى مصادرها وأستيعاب دروسها وأبعادها للوصول الى ماهية الحقيقة. أن ما أحاول أن أسلط الضوء عليه في هذه المقالة، وبعيداً عما سرد الحوادث والأمثلة هو مناقشة جملة من الظواهر الغريبة والخطرة التي برزت فجأة الى سطح المجتمع العراقي ورافقت المأسي اليومية التي كانت النكبة الثانية بعد النكبة التي بدأت في أنقلابات وصراع الأحزاب في الستينات من القرن الماضي. فأستغلها من شارك في التغيير الذي طرأ بمحض الأرادة الشعيبة التي ضحت لأسقاط الدكتاتورية بأي وسيلة الى أن تحقق للجماهير ماأرادته بتحطيم النظام الدكتاتوري العشائري في عام 2003. لقد نشأت بنتيجة الظروف الأستثنائية المؤقتة أفكار تشجع على الكراهية وتتعطش للدم وتخلت قوى عراقية، كان يفترض منها تقويم الأعوجاج، تخلتْ عن تيار الخلق والفكر الأنساني الذي كانت تتأبطه، وبدأت بألأبتزاز السياسي لتوسيع رقعة نفوذها بطرق بدائية لاتمت للحضارة الأنسانية بشيئ ولايبيحها المجتمع المدني العراقي.
وقد أشارت الصحافة السياسية ومنظمات العمل الأنسانية الى بشاعة مايجري في العراق، وتوجهت جهات عديدة بتقديم الأستشارة والنصح الى الحكومات الثلاث المتعاقبة التي كانت تتجاذبها تيارات حزبية ودينية لتصحيح الشذوذ وأبعاد العناصر المُخربة بأخراس أصواتها وأحتضان القوى الخيّرة منها وأشراكها في العملية السياسية ألا أن ذلك لم يتم.
ولعل أسباب عدم نجاح الحكومة لحد الآن هي ليست شخصية المالكي أو كفاءاته كرجل دولة، بقدر ماهي أسباب ترجع في جملتها الى مُزايدات وضغوط وتهديدات الأرهاب الديني واللوثة العقلية التي أصابت عناصر وحركات دخلتْ الحلبة السياسية دون أن يكون أو يُعرَف لها تاريخ نظالي أو خلفية سياسية، أو منهج وطني بعقيدة منظمة يستدل منها الشعب ماتمثله له من تقدم. والأوضح من ذلك، أن هذه الحركات تستنهظ الجماهير الكادحة الفقيرة وتستغل طيبتها وتعشقها للدين لبسط نفوذها دون أي أعارة لما سببه هذا الأستغلال من تضحيات وألآم لهذه الجماهير.
أزالة المظاهر المسلحة ومبدأ الوعد والوعيد؟
ولعل أسوأ مابرز على الساحة العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري هو التهديد والأبتزاز الذي كان قد ظهر أولاً بالعمليات التخريبية المنظمة التي نسقتها مجموعات من عناصر ومؤيدي النظام السابق بتأزرها مع عصابات القاعدة وتزويدها بالعدد والعُدد للقيام بزرع الخوف والترهيب والأغتيال وزرع فتنة طائفية حاولت تعميمها في محافظات العراق تحت الغطاء الديني الوطني. وأستطاعت الى حد كبير أن تضع قادة العراق الجدد و المؤسسة السياسية الجديدة والقوات المسلحة وقوات الامن في موضع الشك بأمكانية تحديها وسحق خلاياها التخريبية. وفي موضع الشك فيما أذا سيكون في أمكانها الأخذ بالأعتبار الثاني وهو أدخال العناصر النظيفة اليد في العملية السياسية. أستمر هذا الصراع الذي أصاب صميم السلطة بالترنح نظراً لشدة الضربات التي وجهتها هذه القوى التي كان همها الأول تعطيل خدمات الدولة وهدم أمالها وأفشال أي عمل يؤدي الى نجاح المؤسسة السياسية الجديدة رغم وجود قوات التحالف التي ساهمت في دحر العديد من الخلايا وأخراجها من المدن والمحافظات العراقية. أما الحركات الأخرى التي لعبت الأدوار السلبية في تلك الظروف الأستثنائية الحرجة فقد كانت حركات عراقية - عراقية مناوءة للحكومة الأولى والثانية والحالية وكان غرضها تعبئة أكبر زخم من الجماهير لتوسيع قاعدتها السياسية بأدخال الدين كأساس لأطلاق الرصاصة الأولى لأحتجاجاتهم المتكررة، كالحركة الصدرية وهيئة علماء المسلمين، حيث تحول الأهتمام بالرعية والمسائل الروحية لأمور الدين والدنيا الى تركيز أهتمامهم لدخول عالم السياسة وتسيير أمور الدولة وفق فهم ضيق الأفق للأعتبارات والأولويات والعلاقات الدولية التي سيرتبط بها العراق مستقبلاً. ولوحظ بأن ماأدخلته هذه الأطراف من أضطراب في حياة العامة أنتشر سلبياً في قطاعات الدولة المختلفة وأوقع البلاد في أتون حرب جانبية لا جدوى منها أِلا الخراب والتدمير. كل ذلك والشارع العربي يتساءل: كيف يبيح من يمثلون الأسلام وشريعته السماوية سرقة الأثار العراقية والمتاحف ودوائر الحكومة الرسمية كما سمح صدام بأستباحة ممتلكات كويتية وسرقتها؟
أن الكيفية التي تبرّر الحركات الدينية سلوكيتها بأرتكابها أشنع الجرائم مازالت على حالها، عقيدة غبية متزمة تمتلك كل خواص العمى الديني الذي يروج له وجهاء مسلمون ينتشرون في مصر و سوريا والمملكة السعودية وأيران، وتسعى الى تثبيت الأبتزاز الديني لتثبيت وجودها بالتعميم الى عناصرها المجرمة بأن العدالة الألهية ومحاربة الأحتلال هي التي دعت قياداتهم الى أصدار الفتاوى والتعليمات التي تخولهم تدمير مؤسسات الدولة، نصب الأكمنة والألغام والقتل المُتعمد، وهو ما أودى بالكثير من الأسر العراقية المتوسطة الحال والفقيرة منها الى ترك بيوتهم والتشرد الى دول مجاورة كالأردن وسوريا. وكيف يمكن لأي حكومة منتخبة أن تمارس أعمالها ومجابهة المخاطر المحيطة تحت تهديد المليشيات المسلحة وتوعدها بأثارة الفوضى والتخريب والقتل؟؟ أضف الى ذلك أن نواب برلمانيين في سوريا ومصر تتخفي وراء تعاليم اسلامية تسهم وبشكل مباشر في نشر الفرقة والكراهية بين القوى العراقية المختلفة.
أن المؤسسة السياسية في العراق مازلت تتحمل العبء الثقيل لتثقيف جماهيرها وتحذيرهم من جماعات تثبيت العمى الطائفي وتثبيت عمليات القتل الطائفي، وهي مسؤولية الحكومة المنتخبة التي لامناص منها، فهي الجهة الوحيدة التي توفر للمواطن الطمأنينة والأمان ويشعر من خلالها عامة الناس بأن في أستطاعتهم العمل بحرية كما أنها الجهة الوحيدة التي بأمكانها أن ترفع روح اليأس والأحباط عنهم.
أن الشذوذ السياسي الديني قد خذل الكثير من المنظمات الأنسانية الدولية كما خذلَ الدول التي كانت ترغب حقاً بمساعدة العراق وبناء ألأرضية الأقتصادية وأقامة المشاريع الصناعية والكهربائية والمائية وتحسين البنية التحتية المتأكلة. وقد حرمت هذه المظاهر الدينية وحركاتها المتطرفة الهوجاء أنجاز أي تقدم عملي في هذا السبيل وأفشلت بالتخريب والتفجير كل ماتطمح الأسرة العراقية الى تحقيقه.
ضياء الحكيم
الحلقة الأولى
[email protected]
التعليقات