إذا محينا التعددية السياسية من خارطة العراق الجديد، فماذا يبقى غير الدكتاتورية التي طالما عانينا من وطأتها في ظل النظام السابق؟!. فلو أجرينا مقارنة بسيطة بين أحوال العراق اليوم وماكان عليه في عهد صدام حسين، سنجد أن وضع الإنسان العراقي في ذلك العهد كان أفضل ألف مرة لولا دكتاتورية صدام وقمعه الدموي الذي طاول جميع مكونات العراق الدينية والمذهبية والعرقية.


فمشكلة صدام حسين كانت تكمن فقط في التعددية السياسية، وهي وحدها كانت تقضي مضاجعه فيمسك عنها بكل ما أوتي من عزم وقوة لأنها كانت تهدد عرشه، وإلا ففي المقارنة، فأن الأحوال المعيشية والإقتصادية والخدمية والصحية للمواطن العراقي كانت أفضل بكثير مما هو عليه الآن، حيث تعاني الغالبية العظمى من العراقيين اليوم من فقر وجوع وأمراض إنقرض الكثير منها منذ منتصف القرن الماضي، أضف اليها عدد الضحايا الأبرياء من العراقيين الذين تصطبغ شوارع العراق بدمائهم القانية كل يوم، بسبب إستباحة البلد من قبل مخابرات دول الإقليم!


فمن من هذه الدول أوغيرها من التي تبعد آلاف الكيلومترات عن العراق كانت تجرؤ على نشر مخابراتها في العراق وتحكمه من وراء الكواليس أو من داخل سفاراتها كما هو اليوم، ولا أقول من وراء ظهر الحكومة التي إنتخبها الشعب.

إذن، فإن ما جنيناه لحد الآن من التغيير الذي تزمر الحكومة العراقية الرشيدة وتطبل له بإستمرار، لا تتعدى سوى تلك التعددية السياسية التي يضمنها دستور لا يحترمه اليوم معظم القوى السياسية العراقية العاملة على الساحة، وإلا فما هذه الخلافات التي تعصف بهذه القوى والدستور موجود وهو الفيصل في حل جميع مشاكل البلاد بالتوافق السياسي، ونبذ العنف والسعي لإحتكار السلطة من قبل أي فئة سياسية او طائفية، فهل هناك أجمل من دستور العراق في كل منطقة الشرق الأوسط؟؟!!.

لم يكد شبح الصراع القومي الذي خيم على أجواء العراق في الفترة الأخيرة نتيجة ما يسميه الأكراد بـ quot;مؤامرة quot; 22 تموز ينحسر، حتى أطلت ( مؤامرة) أخرى برأسها هذه المرة لتطال شريحة مغيبة أصلا عن الواقع السياسي في العراق الجديد، وهي الأقليات الدينية.

أنا لست من أنصار نظرية المؤامرة التي أراها تهمة جاهزة تتبادلها الأطراف السياسية عند وجود كل صراع أوخلاف سياسي فيما بينها، لذلك لم أكن مقتنعا منذ البداية بتصريحات بعض القادة الكرد أثناء أزمة قانون الإنتخابات وتمرير المادة 24 بوصفهم لما جرى بأنه مؤامرة ضد الشعب الكردي، ولكني اليوم أكاد أوافقهم الطرح والرأي بأن ما حدث داخل مجلس النواب في 22 تموز، وما تلاه قبل أيام بالتصديق على القانون وهضم حقوق الإقليات الدينية، أنها فعلا مؤامرة محبوكة من وراء الكواليس، وأتخيل تبعا للوقائع الماثلة أمام عيني بأن تكون هناك فعلا صفقة سياسية، أو لأقولها بصراحة شديدة، حلف جديد quot; غير مقدسquot; أو زواج مصلحة بين قوى سنية وشيعية للإنفراد بأكبر قدر من السلطة في العراق، على حساب تهميش دور الإقليات القومية والدينية، خصوصا مع عودة جبهة التوافق الى الحكومة بفعل quot; تأثيرات خارجيةquot;. فقد تكون هذه التأثيرات هي التي حققت ذلك الزواج المصلحي والحلف غير المقدس بين الطائفتين، وإلا فإن ما حدث يعتبر كارثة حقيقية تتعدى برأيي تغييب أقلية دينية أو قومية عن المشهد السياسي في دولة تدعي أنها تسير نحو التغيير ويحكمها دستور دائم صوت له العراقيون بغالبيتهم العظمى.

يشكل الأكراد دعامة أساسية في بناء العراق الجديد، والكل في هذا العراق يعرف جيدا أنه لولا دعم الأكراد للحكومة الحالية لما إستطاعت أن تصمد أمام التحديات الأمنية والسياسية التي واجهتها سواء من قبل قوى داخلية أو دول إقليمية، كما أن العملية السياسية في العراق الجديد لم تكن لتكتمل لولا إنخراط القيادات الكردية فيها ورغبتهم في إرساء دعائم دولة جديدة قائمة على أساس الديمقراطية والنظام الفدرالي، فلا يستطيع أي منصف أن ينكر الدور الكردي في تجميل صورة السلطات الإستبدادية التي توالت على العراق منذ تشكيل الدولة العراقية.

لقد وقف الاكراد بكل قوتهم وامكانياتهم وراء الحكومة المركزية في بغداد، فمجرد مشاركتهم في العملية السياسية زينت الحياة الديمقراطية الجديدة في البلاد،وأخرجت العراق من تبعية العرف البغيض القائم على إنفراد طائفة أو قومية واحدة وإستئثارها بالسلطة وإدارة شؤون البلاد، كما أنهم أرسلوا الكثير من قوات البيشمركة الى بغداد وبقية المناطق العراقية المتأزمة من الناحية الأمنية، وشاركوا الحكومة في تحمل جزء كبير من مسؤولياتها الأمنية، بالتوازي مع الجهد الدبلوماسي المكثف لرجال الدولة الأكراد مثل الدكتور برهم صالح وهوشيار زيباري لإستعادة مكانة العراق في الأسرة الدولية.


قد تكون رغبة القيادة الكردية في تلك المشاركة السياسية ناجمة عن سعيها لصياغة عقد سياسي جديد يتيح للشعب الكردي أن يعيش بأمان في بلده،بعيدا عن الحروب العنصرية التي فرضت عليه وطحنت رؤوس مئات الألوف من أبنائه، ففي خارج إطار هذه الصورة لم يكن الأكراد بحاجة الى العراق كثيرا، لأن إقليمهم كان يسير بخطى حثيثة نحو إرساء أسس الديمقراطية والإستقرار الأمني حتى مع وجود نظام دكتاتوري قمعي مثل نظام صدام حسين الذي لم يتوانى عن إرتكاب أبشع الجرائم الإنسانية ضدهم، بل على العكس فأنا أرى اليوم بأن ذهاب القيادات الكردية الى بغداد قد أنزل كارثة كبيرة على الإقليم لم تكن قد واجهتها من قبل،وهي كارثة الفساد البغيض الذي بات يلوث التضحيات الغالية للشعب الكردي، فهذه الظاهرة لم تكن مألوفة الى هذا الحد في كردستان قبل إنهمار كل هذه ألأموال الوفيرة على رأس حكومتها سنويا.

ورغم عدم حاجتهم الى العراق، فقد ذهب الكثيرون منهم الى بغداد ليساهموا في بناء أسس دولة حديثة تقوم على التعددية السياسية والديمقراطية وحكم الدستور، فلماذا إذن تحاول الحكومة العراقية إيذاء الشعب الكردي بهضم حقوقه التي ناضل من أجلها سنينا وعقودا، فهل جزاء الإحسان يقابله العقاب أم أن جزاء الإحسان بالإحسان؟؟!!.

فما حدث في خانقين وجلولاء،كانت فلتة وقانا الله شرها بعد كانت الأصابع على الزناد، فلم يبق غير قدح كبريت لتندلع الشرارة وينتشر اللهيب في أرجاء العراق ليمحو البلد من عن الخارطة ويعود الى زمن الفوضى والإنهيار مجددا.
وأعتقد أن ما حصل في خانقين بالأمس، سيحصل غدا في كركوك، وبعد غد في الموصل وغيرها، إذا لم تصف القلوب وتخلص النيات ويحتكم الجميع الى الدستور.

معارك سياسية شرسة تنتظر القوى العراقية في قادم أيامها لا ندري الى أين ستسير بنا وبالبلد، فنحن بإنتظار معارك التعديلات الدستورية وقانون النفط والغاز والمادة 140 ومشكلة كركوك، وقانون الأقاليم وترسيخ الفدرالية، أضف إلى كل ذلك معركة الميزانية التي أعتقد أن القيادة الكردية ستخوضها بمفهوم ( يا قاتل يا مقتول )، لأن هذه القيادة حتى لو إضطرت الى التنازل عن كركوك لتكون إقليما تابعا للدولة، فإنها لن ترضخ لأي تنازل عن حصتها في الميزانية السنوية. فلنتصور حجم التحديات القادمة التي تهدد العملية السياسية برمتها في ظل رغبة البعض بفرض أنفسهم على الآخرين..

إن ما حدث في 22 تموز وما جرى داخل مجلس النواب العراقي بهضم حقوق الإقليات الدينية، يشي بقدوم أيام صعبة على العراق، فالحدثين يشم منهما رائحة دكتاتورية جديدة في العراق حسب إعتقادي، وكم سأكون سعيدا لو أخطأت في حدسي لأن العراق جميل بتعدد قومياته وطوائفه وأديانه، والباقة الملونة أجمل من الوردة الواحدة، وهي أزكى رائحة من رائحة الدكتاتورية التي خنقت العراقيين لعقود طويلة من الزمن..

شيرزاد شيخاني

[email protected]