إلقاء وزير الثقافة المصري الدكتور فاروق حسني لمسؤولية الحرائق الأخيرة التي أحاقت ببنايتي مجلس الشورى المصري و المسرح القومي المصري على عاتق الحظ السيء و القدر المشؤوم أمر فيه الكثير من التبسيط و التقليل من شأن الكثير من الغوامض التي باتت تستهدف الحياة الثقافية و الحضارية ليس في مصر وحدها بل في عموم العالم العربي المبتلى اليوم بأمراض التمزق الطائفي و التخلف الديني و الفكري و سيادة الفتاوي العدمية المضحكة و المؤسفة التي تؤشر بشكل مفجع على حجم التراجع الحضاري بعد أن سادت في الساحة وصالت و جالت القوى السلفية و التكفيرية بشعاراتها الزاعقة و أفكارها التدميرية.

الحرائق التدميرية للرموز و المؤسسات الثقافية ليست مجرد صدفة محضة بل أكاد أجزم بأنها من فعل فاعل لربما يكون مجهول من الناحية الجنائية المباشرة و لكنه معلوم و مفضوح لكل ذي بصيرة متمعنة في مسيرة الأحوال و الأفكار و صراع التيارات الفكرية و السياسية في مصر و العالم العربي، ففي بداية سبعينيات القرن الماضي إحترقت دار الأوبرا المصرية في وسط العاصمة و غير بعيد عن المسرح القومي المحترق، ثم توالت سلسلة الحرائق الغامضة التي تصاعد سعيرها مؤخرا بشكل ملفت للنظر و بما يعيد إلى الأذهان ذكريات و أحاديث حريق القاهرة الكبير في 26 يناير 1952 و الذي سبق بستة شهور إنقلاب البكباشية في 23 يوليو 1952!

كان ذلك الحريق نذير شؤم لأحداث ساخنة كبيرة وقعت فيما بعد لتغير مسيرة التاريخ المصري و العربي الحديث، و القاهرة التي تتعرض منذ مدة لحملة تشويهية كبرى شملت إهمال العديد من المباني التاريخية التي كانت البداية الحقيقية للنهضة المصرية الحديثة التي إنقطعت للأسف تستحق العناية و الإهتمام لأنها العاصمة العربية الكبرى التي تجمع العديد من المتناقضات في وجه واحد، فهي تضم الكثير من الروائع المعمارية و الحضارية و الهندسية التي أبدعت في تصميمها أيادي و مهارات العامل المصري و هي مشروع حضاري كبير لم يقدر له أن يكتمل بفعل مجموعة من العوامل و الأسباب المتداخلة و المعروفة لكل مطلع على تاريخ التجربة السياسية المعاصرة في مصر، الزائر لمدينة القاهرة وهو يتجول في ( وسط البلد ) و شوارعه الفسيحة و أحيائه التي كانت ذات يوم تحمل من معاني الرقي الحضاري الشيء الكثير يدرك على الدوام من أنه يقف في حضرة مشروع تنويري و حضاري ضخم تم إغتصابه أو إنتهاكه فتخطيط الشوارع القديمة مشابه تماما لتخطيط المدن الأوروبية العريقة كروما أو لندن أو باريس و اللمسات الجمالية الباقية من عصر الخديوي إسماعيل ترسم لوحة مأساوية لإنهيار مشروع كان من المؤمل أن يحقق الشيء الكثير للشعب المصري فالإنطلاقة الحضارية المصرية المعاصرة قد تمت في وقت متعادل مع الإنطلاقة اليابانية و الإنفتاح الياباني على العالم الغربي، فلننظر كيف تطورت اليابان و حققت معجزتها و كيف حقق العرب معجزتهم الخالدة في الإبقاء على التخلف بل و إستحضار الأرواح الشريرة من العصرين الأموي و العباسي ليكونا سلاح العرب الحضاري في مواجهة عالم ما بعد العولمةّّ!!

لا نؤمن بنظرية المؤامرة أبدا و لكن الظواهر و الإحداثيات المرصودة تؤكد بأن هنالك شيء ما في الأفق يدبر ضد الحضارة و الفن و العطاء الأدبي في مصر تحديدا و خلفها العالم العربي، فحريق المسرح القومي قد يتبعه لا سامح الله حريق القلعة أو قصر عابدين أو المتحف المصري أو دار الوثائق و الكتب.. و كل المشاريع و الوجوه و البوابات الحضارية هي مشروع حرائقي و تدميري محتمل و قادم... فالقاهرة تحترق بالتقسيط المريح.. فإنتبهوا أيها السادة..!

داود البصري

[email protected]m