لربما لم يسمع بعض الناس فى خارج العراق باسم (حسينية)، وهي مساجد شيعية صغيرة لا منارة لها، ولا تكاد تخلو منها المدن العراقية التى يسكنها الشيعة سواء كانوا أغلبية ام أقلية. وأعتياديا تبنى هذه الحسينيات فى الحارات (الأطراف)، فيؤمها المصلون الذين يسكنون فى تلك المناطق، و خاصة الذين يصعب عليهم قطع مسافات طويلة للذهاب الى الجوامع الكبيرة.

ومثل باقي جوامع المسلمين فهي تؤسس لغرض ذكراسم الله فيها واقام الصلاة. وجوامع السنة والشيعة فى العراق لا يختلف بعضها عن البعض الآخر، فكل واحد منها يشتمل على محراب يصلى قبالته المسلم باتجاه الكعبة المشرفة، ولم أر ولم أسمع بأي مسلم من كافة الطوائف لا يولي وجهه شطر المسجد الحرام. كما لم أسمع أذانا يصدر من أي منها لا يقر بوحدانية الله وأن محمدا عبده ورسوله، والكل يبتهلون الى الله أن ينصر الاسلام وأهله ويذل الشرك وأهله. ولم أسمع بحسينية أو جامع للشيعة يعبد المصلون فيه النار أو البقرة، أو يقرأون من (مصحف فاطمة) المزعوم الذى لا يوجد الا فى مخيلة الجهلاء والمخربين.

قبل مغادرتى العراق فى عام 1982 كنت أرى الجوامع فيها (سنية وشيعية) مراقبة من قبل أجهزة الأمن البعثية، ويركزون على الشبان الذين لا يحلقون لحاهم، وأعرف الكثيرين منهم انتشلوا من الجوامع وزجوا فى غياهب السجون والمعتقلات بسبب تلك اللحى. ومنهم من لم يعد الى أهله بتاتا، ومن عاد منهم الى أهله فقد ظهرت عليه بوضوح آثارالتعذيب الجسدي والنفسي، وأكثرهم لا يتوقع لهم شفاء.

ومعظم الشيعة يذكرون الامام علي فى الأذان و بعد (أشهد أن محمدا رسول الله) يقولون: (أشهد أن عليا ولي الله). وهذه طبعا لم تكن موجودة فى الأذان على زمن الرسول والخلفاء الراشدين، ولكن ذلك لا يدعوا الى تكفيرالشيعة، فان كلمة (ولي) هنا تعنى الخادم او العبد، وكلنا عبيد لله تعالى. أما القول بأنهم يسبون الصحابة فأجدها تهمة سخيفة لا أساس لها من الصحة، وربما ينتقد غلاتهم بعض الصحابة ولكن عددهم ضئيل ولا يؤبه بهم، ولا يجوز تحميل الكل وزر البعض. ولا أجد ضيرا فى انتقاد أي انسان مهما علا شأنه، فكلنا بشر والبشر خطاءون، وعندما ولي عمر بن الخطاب الخلافة قبل أربعة عشر قرنا قال: (لقد وليت عليكم ولست بخيركم فان أحسنت فأعينونى وان أسأت فقوموني)، فقام رجل من الصحابة وجرد سيفه وقال: لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. فقال الفاروق: (الحمد لله الذى جعل فى أمة محمد من يقوم عمر بن الخطاب بسيفه)، وانى أجد فيما قاله دعوة للناس أن ينتقدوا حكامهم كائن من كانوا ان اقتضى الأمر.

والتهمة الأخرى التى يتهمون الشيعة بها هى أنهم يوالون ايران و يسموهم (عجم)، وهذه أسخف من التهمة الأولى فان منبع الشيعة الأصلي هو العراق، وكانت ايران سنية الى أن حكمها اسماعيل الصفوي التركي الأصل فى سنة 1501 ميلادية واحتل بغداد فى سنة 1508، وبلغت مجموع سنوات حكم الصفويين للعراق 21 سنة فقط على فترتين. ويقول البعض من المؤرخين أن المذهب الشيعي نشأ فى خلافة الامام علي بن أبى طالب، ويقول غيرهم بل بعد مقتل سيد الشهداء الحسين بن علي فى سنة 680 ميلادية، أي أن ايران أصبحت شيعية بعد أكثر من 800 عام على نشوء المذهب الشيعي.

ومهما يكن من أمر فانه لا يمكن تبرير الهجمات على أي من دور العبادة التى هى (بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)، ولا قتل المصلين، كما فعل المجرمون الانتحاريون فى يوم الخميس الماضي 2/10/2008 عندما فجروا أنفسهم وقتلوا وجرحوا عشرات المصلين فى الحسينيات فى بغداد وجامع الرسول فى بلد وغيرها، وخلفوا نتيجة عملهم المنكرهذا العشرات من الثكالى والأرامل واليتامى فى العيد (السعيد)، لغيرما ذنب جنوه. يدعي هؤلاء القتلة بأنهم مسلمون، فهل قرأوا الآية الكريمة 114 من سورة البقرة: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها اولئك ما كان لهم أن يدخلوها الا خائفين لهم فى الدنيا خزي ولهم فى الآخرة عذاب عظيم).

حجة اولئك الارهابيين القتلة هو انهم يتبعون فتاوى بعض الشيوخ المشعوذين من أمثال بن لادن ومن والاه ويسير على نهجه وخطاه. استهدفوا العراق والعراقيين فمولوا وسلحوا كل سفاك أثيم، فقتلوا شباننا وشيوخنا ونساءنا وأطفالنا، وأشاعوا الرعب حيثما حلوا وارتحلوا.

بعد أن بدأ العراقيون يشعرون بشيء من الانفراج، قام من كان يوصف بالاعتدال: الشيخ القرضاوي بهجمة مباغتة على الشيعة ووصفهم بأنهم (مبتدعون)، والجماعة التى ينتمى اليها الشيخ تقول بأن:(كل بدعة ضلالة، والضلالة فى النار)، وبصريح القول اتهم الشيخ الشيعة بالكفر بعد أن سبق له وتكرم بوضعهم ضمن المسلمين، مع أن الأزهرالشريف قد بين عدة مرات بأن المذهب الشيعي هو أحد المذاهب الاسلامية التى يتعبد بها المسلمون. ترى لماذا اختار الشيخ المبجل هذا الوقت بالذات؟ لا ريب فى ان من دفعوه الى ذلك هم الذين يخشون من عودة السلام الى العراق فينسحب الأمريكان ويصبحون هم فى مواجهة مباشرة مع ايران. كذلك فهم يخشون قيام دولة ديموقراطية فى المنطقة، وهم يحكمون شعوبهم حكما دكتاتوريا يورثونه لمن يشاؤون من بعدهم. والا فلمصلحة من تطوع الشيخ المبجل-وهو فى الثمانينات من عمره- وأخذ يبث سموم الفرقة بين أبناء البلد الواحد؟ ان فتوى الشيخ هى أهم عامل على قيام المجرمين بهجماتهم الأخيرة، وأجزم بيقين ثابت أن الهجمات الأخيرة كانت بسبب تلك الفتوى، أو فى الأقل الدافع الرئيس لها.

لقد عاش السنة والشيعة فى العراق - خاصة بعد انتهاء الحكم العثماني- بوئام وسلام وارتبطوا بعضهم ببعض بوشائج الزواج والجوار الحسن والصداقات المتينة. صحيح انه قد حدثت مشاكل بين الطرفين فى أيام حكم عبد السلام عارف الطائفي، ولكنها انتهت لتعود مرة أخرى بعد سقوط صدام وحكمه. فبدأ البعض يصورون صداما وكأنه كان حامى السنة، والكل يعرف أنه بطش بالسنة قبل الشيعة ولم يكن متدينا مطلقا ولكنه تظاهر بالتدين بعد أن شن هجومه الأحمق على ايران، فانتشرت الصور (البوسترات) التى صورته وهو يصلي، وفى احدى تلك الصور كان قد نسي أن يخلع حذاءيه (وشاع انه قتل المصور الذى لم ينبهه الى ذلك). ولم يعد يفارقه المصحف الشريف اثناء محاكمته، حيث كان يحمله تحت ذراعه الأيسر المواجه لكاميرات التلفزيون، ثم تشهد بعد وضع حبل المشنقة حول رقبته، مما جعل الشيخ القرضاوي يمنحه (صك غفران)، كما كان يفعل البابوات القدماء الذين كانوا يمنحون صكوك الغفران لملوك اوروبا فى ذلك الزمان، وقال عنه بأنه دخل الجنة، لأن من يتشهد عند حضوره الموت - فى زعمه- يذهب الى الجنة حتى وان كان مجرما قتل مئات الالوف من شعبه.

ان عودة الهجمات الاجرامية حاليا على المواطنين العراقيين سنة وشيعة لا يستفيد منها سوى أعداء الاسلام والعراق، وان الحكومة العراقية مدعوة للتصدى بشدة للارعابيين المجرمين، وتقديمهم للعدالة، وانزال عقوبة الاعدام بهم وبمن آووهم وسهلوا دخولهم الى العراق، وتنفيذ العقوبة فور صدورها، وتعليق جثثهم النتنة فى الساحات العامة ليكونوا عبرة لمن تسول نفسه تهديد سلامة أرواح المواطنين وممتلكاتهم. ويجب على الحكومة أيضا منع أي جهة كانت من التدخل فى شئون القضاء (وخاصة المعممين)، وتعاقب من يفعل ذلك بكل شدة وقسوة لتحفظ للقضاء حرمته واستقلاله، وبعكسه فستعم الفوضى من جديد ويتضاءل الأمل بخروج القوات الأجنبية من أرض الوطن.

عاطف العزي
كندا