مما هو معروف أن التجربة الديموقراطية الجزائرية في أوائل تسعينات القرن الماضي لا تمت للديموقراطية الحقيقية بصلة، لأنها عكست صراعا على السلطة سعيا للانقلاب على الديموقراطية، وكان هذا الصراع بين التيار الديني الفائز في الانتخابات والمؤمن بالأفكار الدينية الطالبانية، وبين التيار العسكري العنيف التابع للسلطة والذي انقلب على نتائج الانتخابات. وقد شدّد علي بلحاج الرمز الأبرز في التيار الديني، آنذاك، أي بعد أن جاءت نتائج الانتخابات في صالح تياره، أن حزبه يسعى إلى تطبيق الشريعة لا إلى المحافظة على المكتسبات الديموقراطية، في حين اعتبر العسكر أن تصريحات بلحاج هي انقلاب على النظام السياسي في البلاد، لذلك حدث الصراع المسلح بين الطرفين، وهو صراع لم يمت بصلة للديموقراطية وإنما تعلق بالسيطرة الدينية أو العسكرية على السلطة، وكانت الضحية هي الديموقراطية وسقوط ضحايا من المدنيين العزّل.


إن الديموقراطية ليست فحسب آلية للتصويت لوصول حزب ما إلى السلطة، إنما لابد أن تستند إلى انتزاع الحقوق والحريات من خلال تلك الآلية. وللأسف أن غالبية كبيرة من المراقبين تقع في خطأ كبير لأنها تلغي المطالب بالحقوق والحريات وتتمسك بالآلية فقط، وذلك لا يعكس إلا فهمها القاصر والناقص للديموقراطية. فهل من الديموقراطية أن يصوت البرلمان اليوغسلافي في منتصف ثمانينات القرن الماضي على إبادة الشعب البوسني؟ وهل من الديموقراطية أن يصوت البرلمان الإيراني ضد الحقوق والحريات الثقافية والاجتماعية للمواطن الإيراني؟ وهل من الديموقراطية أن يصوت البرلمان الكويتي لسنوات عديدة ضد حقوق المرأة السياسية؟ إن جميع الديموقراطيات التي تلتزم بالآلية من دون الالتزام بالمحتوى الحقوقي الإنساني، هي إما وراءها جماعات مؤدلجة دينية أو قومية، أو جماعات تزيّف الديموقراطية من أجل الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها.


إن الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية هي أصل أساسي في الديموقراطية ولابد للدساتير الوطنية أن تحتوي عليها، وإلا ستصبح الديموقراطية معبرة عن آلية فحسب من دون وجود الأصل أو المحتوى الرئيسي، وستكون نتائجها وخيمة على حريات الناس وحقوقهم، وستصبح مدخلا للوصاية والظلم والاستبداد. إن حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا، الذي يمكن وصفه بأنه حزب علماني ليبرالي استنادا إلى ممارساته، لايزال هو الحاكم. وإذا ما تم إبعاده عن السلطة فلابد أن يستند ذلك إلى الأطر القانونية والدستورية، وأي إبعاد خلاف تلك الأطر أو خلاف النظم الديموقراطية فيجب أن يدان. وإذا ما كانت هناك محاولات سابقة في تركيا لإبعاد الإسلاميين عن السلطة فإنها ستكون مبررة إذا ما جاءت وفق الأطر الدستورية التركية والنظم الديموقراطية، وتجربة أربكان الإسلامية الأصولية في الحكم تؤكد ذلك. إما إذا جاءت تلك المحاولات عن طريق الإنقلاب على الدستور وعلى النظم الديموقراطية، فإنها ستدان.


ورغم أن أزمة الحكم التي حدثت في الكويت بعد وفاة أميرها السابق الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله عام 2004 قد حبست أنفاس الكويتيين لمدة عشرة أيام وساهمت في إثارة قلق حكومات في المنطقة بسبب تداعيات الأزمة بوصفها سابقة سياسية قلما تحدث ومن شأنها أن تؤثر على مجمل صراعات الحكم في المنطقة. وبالرغم من أن مراقبين اعتبروها أزمة خطيرة ووصلت إلى حد عدم القدرة على تفسير تداعياتها المستقبلية، إلا أنه كان هناك اعتقاد راسخ بأن تلك الأزمة أعطت للكويت من النقاط الإيجابية أكثر مما أفقدتها النقاط السلبية، وهو الأمر الذي ساهم في تنمية الحياة السياسية وعمق النظرة إلى المشاكل والقدرة على حلها حتى لو تعلقت بأعلى مراكز السلطة ألا وهو بيت الحكم. إن الدستور الكويتي ينص على أن حكم آل الصباح للكويت هو حكم وراثي، وحينما حدث الغزو العراقي المشؤوم للكويت عم 1990 توقع المراقبون أن ينقلب بعض الكويتيين على حكم آل الصباح، إلا أن الشعب الكويتي بمعية آل الصباح ورجالات الكويت وسياسييها واقتصادييها ومعارضتها عقدوا مؤتمرا في جدة أثناء فترة الغزو خرجوا خلاله بتوصيات عدة كان من أهمها التشديد على أن الحكم في الكويت وراثي في أسرة آل الصباح، وتوصيات أخرى تؤكد التمسك بالدستور الوطني وبالعملية الديموقراطية. فبقاء آل الصباح في الحكم بالكويت هو شأن يخص الشعب الكويتي ودستوره الذي انبثق استنادا إلى توافق الحاكم والمحكوم، وأي تغيير يحدث في هذا الشأن فلابد أن يستند إلى ذلك التوافق، وهو ما لانجده في أي دولة عربية أخرى. كما أن الحديث عن امتلاك آل الصباح للبلاد والعباد فهو حديث يفتقد إلى الحقيقة والصدق. فمن يتابع جلسات مجلس الأمة الكويتي سوف يجد بأنه كلام غير دقيق. فكم من الوزراء من أسرة آل الصباح قد تم استجوابه من قبل نواب مجلس الأمة (البرلمان) وفقد منصبه الوزاري دون أن يؤدي ذلك إلى أزمة سياسية كبيرة تهدد النظام والمجتمع، وكم من المسؤولين من آل الصباح ممن ينتظر أحكاما قضائية رفعت ضده من قبل مسؤولين آخرين دون أن يؤدي ذلك إلى امتعاض أسرة الحكم.


لقد نشر احد أبرز رموز المعارضة الوطنية في الكويت، الدكتور أحمد الخطيب، الجزء الثاني من مذكراته في إحدي الصحف المحلية في شهر رمضان، وقد احتوت على هجوم عنيف ضد ولي العهد الكويتي ورئيس الوزراء الراحل المغفور له الشيخ سعد العبدالله الصباح وطريقة إدارته لرئاسة الحكومة، ولم يتحرك النظام لاعتقال الخطيب وزجه بالسجن أو يتم تهديده بالقتل، مثلما كان يحدث في عراق صدام حسين ويحدث عراق اليوم عراق مقتدى الصدر وعبدالعزيز الحكيم وجواد الخالصي وعدنان الدليمي وحارث الضاري وغيرهم في بلد أحزاب العقائد الدينية الشمولية.


ومما قاله الخطيب في مذكراته أنه quot;بالرغم من كل ما ذكرته من سلبيات فإن الكويت لم تفقد كل نكهتها. فهي لاتزال في المرتبة الأولى لجهة الحريّات في شبه الجزيرة كلها، وما يتمتع به المواطن من حرية في التعبير أثناء الحملات الانتخابية أو في قاعة المجلس وفي قاعات المحاكم من مرافعات، وفي الدواوين وبعض الزوايا وفي الصحف المحلية ليس له مثيل في المنطقة. إن البرلمان الكويتي له وقفات وأدوار تميزه عن باقي البرلمانات العربية قاطبة، فالبرلمان الكويتي عام 2004 أعفى أميراً من منصبه ونصّب أميراً آخر من دون أن تنزل دبابة واحدة في شوارع الكويت. وهذا أمر لا يحصل بسهولة في أي بلد عربي. فالحاكم عادة إما أن يموت أو يقتل أو يعيّن أولاده حكاماًquot;.


هناك حوارمعمق يجري منذ فترة طويلة في الكويت في أوساط أسرة آل الصباح وكذلك بين النخب السياسية وتنظيماتها بشأن تغيير عرف رئاسة الحكومة من رئيس ينتمي إلى أسرة آل الصباح إلى رئيس شعبي. ولاتزال غالبية كبيرة من النخب والتنظيمات السياسية تعارض أن يكون رئيس الوزراء شعبيا، خوفا من أن يؤول أمر الحكومة إلى شخصية من التيار الديني وما يرافق ذلك من إفرازات من شأنها أن تضر بمسألة الحريات. فالوصول إلى هرم السلطة وإلى رئاسة الوزراء يحددهما الدستور الكويتي، مثلما تقول دساتير كثيرة في دول ديموقراطية عريقة، في حين أن مسألة رئاسة الحكومة الكويتية مطروحة للتداول السياسي. وقد طالب تجمع سياسي ديني كويتي هو الحركة الدستورية الإسلامية، في بيانات عدة منشورة في الصحف المحلية، برئاسة شعبية للوزراء في إطار برنامجه للإصلاح السياسي.


إن أزمة ترتيب الحكم في الكويت عام 2004 رصدت العديد من الإيجابيات على صعيد تطور الحياة السياسية في الكويت، من أبرز تلك الإيجابيات أنها أرست مبدأ الشفافية في نزاع بيت الحكم. كما أنها ساهمت في تطوير الحركة الديموقراطية المؤسسة على الدستور، إذ لم تكن الديموقراطية الكويتية، كما يزعم أعداؤها، مجرد قوانين تمارس بشكل صوري، بل أضحت الأزمة دليلا على أنها أحد الوسائل المساهمة في وضع حلول لأكبر الأزمات التي يمكن أن تواجه الكويت. ولا بد من الاعتراف بحقيقة أن أزمة بيت الحكم كانت من أصعب الأزمات، وقد قامت الأطراف المختلفة بتقوية مواقفها استنادا إلى وسائل الديموقراطية ونصوص الدستور، لا إلى غيرها من الوسائل التي اعتاد عليها المواطن العربي والمتمثلة بالالتفاف على الدستور أو استخدام القوة والعنف والإرهاب. كما أثبتت الأزمة أن مجلس الأمة كان له الدور البارز في حلحلة موضوع ترتيب بيت الحكم، سواء من خلال تدخلات النواب التي ساهمت بإرساء سفينة الخلاف إلى بر الأمان، أو من خلال جلسات المجلس لفض النزاع والتي أفضت دستوريا إلى ترتيب بيت الحكم من خلال موافقة البرلمان بالإجماع على تنحية الشيخ المغفور له الشيخ سعد العبدالله الصباح، وهذا من شأنه أن يثبت ركائز الدور المهم للشعب الكويتي من خلال ديموقراطيته ونوابه في حلحلة أي صراع ولو كان بين أقطاب الأسرة.


إن من ألد أعداء الديموقراطية الحقيقة هو ذلك المبدأ الذي تستند إليه تيارات الإسلام السياسي ومرجعياتها حينما تأمر أتباعها بتنفيذ شرع ديني ما ولو جاء ذلك في الضد من نتائج الديموقراطية أو ناهض حرية الإنسان وحقوقه، ونعني بذلك مبدأ quot;التكليفquot; الديني القائم على نظام quot;التقليدquot;. فقوة الإنسان الحديث أصبحت تستند إلى قوة مفهوم quot;الحقوقquot;، كحقه في الحياة وحقه في التفكير وحقه في الاعتراض وفي نقد وتغيير الكثير مما يسمى بالثوابت والمسلمات والمقدسات، دون انتظار رأي رجل الدين أو الفقيه أو الحاكم. في حين استند الإنسان ما قبل الحديث، أي الإنسان الذي عاش في الماضي الثقافي، والذي لا تزال مجتمعات عربية وإسلامية عديدة تنتمي إليه، استند هذا الإنسان وذلك الماضي إلى مفهوم quot;التكليفquot; الديني، واعتبر أن الإنسان مكلف بالسمع والطاعة إذا ما بلغه أمر التكليف، سواء بلغه من رجل الدين أو الفقيه أو الحاكم الشرعي أو ولي الأمر، وأنه لا يحق له الاعتراض أو النقد إلا إذا جاءه تكليف آخر بذلك، وأن أية حقوق يملكها فمصدرها التكليف الموجه إليه، بمعنى أنه لا يستطيع أن يمارس النقد إلا إذا جاءه تكليف ديني.

إن أنصار التيار الديني في العراق وفي غيرها من المجتمعات، يسعون لإعادتنا إلى ذلك الماضي الثقافي، إلى حياة quot;التكليفquot;، دون وعي وتبصّر بأن تلك الحياة باتت عبئا على الحاضر وعلى حقوق الإنسان، وأصبحت غير متوافقة مع طبيعة الحياة الحديثة الراهنة وثقافتها الحقوقية، ولا تستطيع أن تعيش مع الديموقراطيات التي تستند إلى مفهوم الانتخاب والإختيار لا إلى التكليف والتقليد، فنراهم يتفاخرون بأن مرجعا دينيا ما كآية الله علي السيستاني أو رجل دين صغير السن كمقتدى الصدر استطاع بكلمة واحدة وبتكليف منه تحريك الملايين مع أو ضد مسألة من المسائل. لكن هؤلاء يتعمدون أن يتجاهلوا بأن تلك الثقافة quot;التكليفيةquot; القائمة على التقليد والمستندة إلى الرأي الفردي استطاعت أيضا أن تشرعن لوضع سياسي غير طبيعي، متناسين بأن ثقافة quot;التكليفquot; المنطلقة من السمع والطاعة لا تستطيع أن تتعايش مع الواقع الجديد ولا مع الديموقراطية وتناهض مبدأ الاختيار والانتخاب، التي هي نتاج الثقافة الحقوقية بعدما أصبحت تتحكم في مفاصل حياتنا. إن هؤلاء، وباسم الديموقراطية، يريدون لثقافة quot;التكليفquot; أن تؤثر quot;إيجاباquot; في الواقع الراهن في العراق، ويتجاهلون ذكر مساوئها وسلبياتها. فأي دعوة للدفع بثقافة quot;التكليفquot; في العراق، والتي لابد أن تنطلق من الفردية والجبرية الفقهية، خاصة تلك التي يتبناها السيستاني وغيره من مراجع الدين الشيعة، تعتبر دعوة مناهضة للديموقراطية وستسير بالعراقيين إلى مستنقع الفردانية مجهول المصير.


إن العراقيين عاشوا لعقود طويلة دون ممارسة النقد ودون تفعيل الديموقراطية أو الاستفادة من وسائلها، بسبب تفشي ثقافة القمع الصدامي البعثي التي حالت دون استخدام تلك الوسائل والمفاهيم، وساهمت في شل أي تطور اجتماعي وفكري وحقوقي في المجتمع العراقي. وبعد أن رحل الوباء البعثي نجد البعض ممن يريد استبدال الفردية الصدامية بفردية أخرى دينية quot;تكليفيةquot; تشجع على استقبال آراء الفقيه من دون توجيه أو تمحيص أو حتى قدرة على النقد والتغيير، لأنها دعوى قائمة على مبدأ السمع والطاعة ومنطلقة من التكليف الديني. فهي ليست سوى ثقافة التلقين التي يجب أن تزال بزوال صدام، وإلا أصبح الهدف من العراق الجديد هدفا شكليا وليس لتغيير الثقافة الفردية المولّدة للاستبداد. فإذا لم تتغير ثقافة التلقين هذه فإن مستقبل العراق سوف يظل صدّاميا. فشخص صدام لم يخلق الديكتاتورية والاستبداد بقدر ما أن فردانيته وثقافته التوتاليتارية في الحكم هي التي أفرزت الماضي السيء والمرعب. إن quot;ثقافة الرمزquot;، التي مثلها طاغية العراق، لا تزال تعتبر جزءا من الثقافة العربية والإسلامية والعراقية، رغم تجربة العراقيين المريرة مع حكم صدام. فالرمز، وبالذات القومي والديني، يعتبر رافدا أساسيا في البيئة الثقافية العربية والإسلامية ولاعبا رئيسيا فيها، إذ ما زال يفرض سطوته وفردانيته على القرار وعلى الواقع في ظل رمزيته التي تبعد عنه المساءلة أو الخطأ. فصدام كان لاعبا أساسيا في نادي الرمزية العربي والإسلامي. لكن تلك الثقافة لم تأفل بعد في العراق. فالواقع العراقي الراهن مليئ بالأمثلة الرمزية التي يجب مواجهتها لمنعها من أن تصبح كرة ثلج أو صداما جديدا يهدد مستقبل البلاد. وإلا ما معنى أن يقتل رجل دين ليحتل أخيه موقعه القيادي ثم يمرض الأخ ليمثّل نجله ذلك الموقع؟


يجب ألا ينخدع العراقيون بشعار التيار الديني تجاه الحرية والديموقراطية، إذ لا حرية لأعداء الحرية الذين ما أن يصلوا إلى سدة الحكم حتى يعرقلوا طريق الحريات في المجتمع ويقفوا سدا أمام التعددية السياسية والثقافية بحجة أنها تتعارض مع ثوابت الدين والعقيدة. فهم يرفضون قانون حقوق الإنسان الذي صوتت عليه الأمم المتحدة باعتبار أنه لا يناسب تشريعات الدين الإسلامي، ويبدلون تصنيف المواطنة بتصنيف آخر هو المسلم وغير المسلم أو الشيعي والسني وغيره من التصنيفات المذهبية حتى يصلوا إلى التصنيف الخطير السائد لدى جميع الأصوليين الشيعة والسنة ألا وهو: المسلم والكافر. إن هذا التيار يستخدم الديموقراطية المزيفة لتحقيق مآربه الماضوية وتركيب الماضي على الحاضر ومصادرة الحريات الرئيسية للإنسان. لذلك فإن حكم الأغلبية، في ظل هيمنة الثقافة الأصولية الشيعية، هي خطر على العراق، ولابد من وضع بديل يمنع تلك السيطرة المعادية للحرية حتى الوصول إلى الصيغة التي تضمن بألا يكون ممارسو الديموقراطية هم أعداء الحرية. فلا ديموقراطية من دون حرية واحترام حقوق الإنسان.

فاخر السلطان
كاتب كويتي
[email protected]