دعونا، أولاً، نتفحّص بدقة مؤرخينا المسلمين، وموضوعيّتهم، تلك الأقاويل غيرَ المُستغربة من لدن المسنين. وماذا ترانا، مثلاً، واجدين لدى quot; إبن الأثير quot;. إنّ أبا تاريخنا الإسلاميّ، المنكود الحظ، ما فتأ يتباكى على آل quot; زنكَيْ quot; ؛ أولئك الحكام الترك، الذين ولوا أقاربه إقطاعاتٍ سخيّة. إنه يصرّ بعد، أنّ آلَ quot; أيوب quot; عمالٌ، غاصبون، جحدوا فضل أسيادهم، حتى بلغتْ القحّة برأسهم إجبارَ أرملة مولاه على قبوله بعلاً: لا لقلة نساء، ولكن شيمة ما بأناس.


من جهته، يقول quot; عماد الكاتب quot; ـ مؤرخ الملك الأيوبيّ ذاك ـ عن هذه الأرملة، أنها كانت في صباها إمرأة ساحرة الأعطاف، مغناجة أطرافاً وأردافاً. وهوَ يجزمُ، بالمقابل، أنّ المرأة فتنتْ بإبن quot; أيوب quot;، المتبطل طوال الوقت في المرجة المحيطة بقلعة رجلها، السلطان، لا عملَ له سوى اللهو وأترابه بلعبة الصولجان والكرة أو مسابقات الفروسية. وبقيتْ الأميرة، يقول الكاتب، متعلقة بصورة الحبيب، السريّ، حتى عندما غابتْ عنها، لما قيل عن مهمّة ما، حربية، في محروسة مصر، بأمر من رجلها، العتيّ. ثمّ شاءَ لها المقدور أن تضحي أكثر شفافيّة، حينما علمت بإستتباب أمر الحبيب ومخالفته العنيدة، الدائبة، سلطة سلطان الشام. حتى إذا توفيَ هذا الأخير، فإنها إنشغلتْ بصراع مكشوف مع الحاشية، المصرّة على توجيه الجيش إلى مصر لخلع ذاك الكرديّ، الغاصب: الرأي عندي، توجّهتْ إليهم بالقول، أن تستدعوا الرجل باللين واللطف ليكون وصياً على إبني، بغية مساعدتنا في ردّ هجمات الإفرنج. هذه النصيحة، المخلصة، أوغرتْ قلوب القوم عليها، فأوعزوا بدورهم لأبنها أن يخالفها فيما تذهب إليه. وهو ذا الغلام، الغرّ، ذو الأعوام العشرة، يتراكض نحوَ الأمّ باكياً، فيضرب الأرضَ بخفيْه الحريرَيْن، تعبيراً عن إستيائه من خططها بشأن مستقبله ـ كوليّ عهد. تقبله الأمّ، فيما هيّ تؤكد له أنّ هدفها ما كان سوى بثّ الرعب في أفئدة أولئك الأمراء ؛ أبناء ضرائرها الضاريات. أما وقد أحدَقَ إبن quot; أيوب quot; بأسوار الشام، يُتابع الكاتبُ، فلم تلبث المرأة المحبّة أن أرسلتْ إشارتها. ساعات اخرى، والمحاصرون يمتلكون المدينة، وقائدهم بدوره يمتلك جسَدَ سيّدتها ؛ هذه التي ضمّت إنتظارها الطويل، المعذب، بأطراف شهّاء، مرتعشة ـ كرميم رجلها، المدفون في الجانب الآخر، الميّت، من القلعة.

***
من ناحية الأسواق، أقبلَ رجلٌ بلا ملامح معيّنة، تشي بعمره. وكان فوق ذلك حقيرَ المنظر، بعين معصوبة بخرقة سوداء. في طريقه، عبرَ سوق الحاضرة، الأكبر، صادَفَ أحد الجند المتسكعين. quot; أين يمكنني التوجّه، يا سيّدي، فيما لو كانت وجهتي دار الملك الناصر؟ quot;، سألَ الحارسَ متلطفاً. هذا الأخير، تثاقلَ في إرشاده فيما هوَ يتفحّصه بنظرة مزدرية: quot; تجده في quot; الروضة quot;، هناك quot;، قال له مشيراً بيده ناحية جزيرة مخضوضرة، قابعة على صدر quot; النيل quot;، محوّطة بأسوار مهيبة. كان من سعد الغريب، أنّ حضوره وافق quot; يوم القصص quot; ؛ المنذور لشكايات الأهلين وإلتماساتهم. الحاجب المُتراخي الهمّة، أوسعَ للرجل إثرَ إستفهامه منه عما يبتغيه من الوزير. حلّ دوره ورفعت الستارة. آه ! لدينا هنا، في المجلس العتيد، أكثرَ من ملكٍ على ما يبدو؟ كان في حيرة، ينقل عينه، الوحيدة، بين هذين الرجلين، المُتربعين على بساط واحد، أقرب للبساطة منه للبذخ. إختار عندئذٍ أكثرهما هيبة.
ـ quot; أنا القاضي.. ! quot;


قال الكهل بهدوء. لعن الأعور عينه، المُتبطلة، فيما كان يلتفتُ ناحية الآخر ؛ الوزير، مُعجباً ليفاعته وحسن صورته. quot; كيفَ يقوم بالزكاة، من لا يأبه لصلاة ولا صوم ولا حج؟ quot;، خاطبَ الوزيرَ بلهجة لا مبالية ومستهترة.
ـ quot; وهبناكَ تجارتك.. quot;، أجابه صاحبُ الأمر هادئاً متبسّماً. ثمّ أعقب بالنبرة ذاتها: quot; نحن نجلّ زكاتنا عن مال أمثالكَ ! quot;. كهل آخر، كان منتحياً بنفسه في المجلس، راحَ يمعن النظرَ بالرجل الجريء. ما كان هذا العجوز، الجليل الملمح، سوى والد الوزير. تنحنحَ إذ ذاكَ بحركة مألوفة، كيما يُثير إنتباه إبنه. عند ذلك، توالت الأسئلة على الأعور ؛ إسمه وأصله وفصله. قال أنه يدعى quot; كراكوز quot;، قادمٌ من إقليم quot; الجبل quot; ؛ من عشيرة كردية، علويّة، إنخفض إلى النصف عددُ أفرادها جراء إعتداءات الروم، السلاجقة. quot; إخلع عنكَ الجبّة، وإكسها بنفسك هذا الرجل ! quot;، أمرَ الوالدُ ذاكَ القاضي الكهل.

***
تسلم quot; كراكوز quot; المشيخة، وصار قاضي قضاة مصر. وبما أنّ هذا المنصب البارز، الخطير، كان حكراً على الشيعة طوال عهد الفاطميين، فإنّ آخر خلفائهم قد إهتمّ، ولا شك، بأمر القاضي الجديد. بعث إذاً يستدعيه، خفية ً. جاء الرجلُ ليلاً، مُتنكراً ببرقع حيزبون. وعلى عكس ما صادفه من يسر، لدى مقابلته الوزير، فإنّ أبواباً عديدة وحراساً أكثرَ عديداً قد وقفوا بسبيله، مذ لحظة خروجه من ذاك الممرّ، السريّ، وحتى مثوله في حضرة الخليفة، المقنع الوجه. قال له هذا بودّ:
ـ quot; إنك من شيعتنا، كما علمتُ. وربما أنّ ثقة الوزير بكَ ستساعد قضيتنا quot;
ـ quot; إنني في خدمة أمير المؤمنين، حفيد السيّدة فاطمة quot;
ـ quot; فإشترط علينا، إذاً، ما شئتَ quot;
كان رئيس الخصيان دليله ؛ هوَ المأمور بأن يعثروا له على تلك الجارية، التي رسم في مخيلته صورتها دهراً. خلل ممرّ تحت الأرض، لا يقلّ غموضاً عن الأول، سار quot; كراكوز quot; صحبة الخصيّ وتابع آخر يتقدمهما بمشعل هادي. ما أن صاروا تحت الباحة، السماوية، المطوّقة بأبنية مبهمة الملامح، حتى شاء الضيف مساءلة quot; الطواشيّ quot; عن عدد نساء الخليفة. أجابه هذا بلهجة مريبة:
ـ quot; أربع نساء، بالطبع quot;
ـ quot; ليسَ بالرقم الكبير.. quot;، قال quot; كراكوز quot; ثمّ راح يتفكر مدهوشاً: quot; في العادة، أنّ الحكام يمتلكون الكثير من النساء. فما بال هذا الخليفة، الفتى، الذي بالكاد نبتت لحيته؟ quot;. أمّا وقد إنقضت الساعات، الطويلة، منذ خروجه من النفق ذاك، فلا بدّ أنّ الأعور شعر بالأرض تدور به لمرات متتالية، حتى كادتْ عينه السليمة تلحق بشقيقتها، المعطوبة. عندئذٍ علم من الخصيّ أنّ أجنحة حريم، اخرى، ما فتأت تنتظر تشريفه.
ـ quot; أيجوز لي معرفة، كم عدد النساء هنا، إجمالاً؟ quot;
ـ quot; أكثر بقليل من عشرة آلاف جارية quot;
ـ quot; آه ! هذا رقمٌ كبير، كبيرٌ حقا quot;.

***
وقتُ ضيف القصر، السريّ، ما عاد يتسع لمزيد من التسكع في هذا الفردوس. هوذا الجناح، الذي يحمل الترتيب الثالث عشر. ها هنا، قرر quot; كراكوز quot; أن يجدَ ضالته، دونما مبالاة بطيرة الرقم ذاك، المشؤوم. أخذته الدهشة، عندما رأى نفسه وسط بنيات جدّ صغيرات، يلهون ببراءة بين الدمقس والديباج. لوهلة، أنب quot; كراكوز quot; إشتطاط فكره، بعيداً، مقدّراً أنّ أمهات هاته الفتيات لا بدّ وغادرن لشأن ما. على أنه آبَ ثانية ً لوعيه، متسائلاً بسرّه: quot; إذا كنتُ، شبهة ً، قد أدركتُ الأمرَ بصورة شائنة، فما هذه الغلائل الرهيفة، الفاضحة، التي لا تستر لطفولتهنّ عورة؟ quot;. نقل ما يجول بخاطره للخصيّ، فأجابه هذا بنبرة مشفقة:
ـ quot; سنة أمير المؤمنين، حفظه الله، أن يلهو معهنّ مداعبةquot;
ـ quot; آه ! quot;
ـ quot; إنه لا يبني بأيّ منهنّ، قبل بلوغها السنّ المطلوبة quot;
ـ quot; سنة يا رسول الله quot;، فكر الضيف وكانت عينه تلك، المعطوبة، جدّ حزينة أن تحرم من تأمل كلّ ذاك الجمال، الإلهيّ.
الرقاد، ما كان قد عرف طريقا لبقايا ليلته، الخرافية. كانت في الحدود تلك، الموصوفة، من عمر صويحباتها ؛ عمر بضّ، ناصع ـ كبشرتها وحلمها. حلوة الثغر، بنفسجيّة اللحاظ وبضفيرة يحسُدُ توهّجَ شقرتها ذهَبُ الدنانير، المتدلية من أعلى الجبين. ولكنه بالرغم من رقاده، المتأخر، كان عليه التبكير بالذهاب لعند مولاه ؛ عليه كان، بحسب الخطة المرسومة، أن يتلقى المرة تلو الاخرى أسراراً، مزعومة، ملفقة بحرص ودهاء الوالد، الداهية. ثمّ جاءت نهاية الخليفة، أبكرَ من ذلك الصباح السالف، المُشرق على شمس الرغبة، الأرجوانية. quot; لم أجرؤ، في حياتي التعسة، على محاولة التمكن منه ؛ فليكن ذلك عند حضور ملاك الموت، على الأقل quot;، فكر آخرُ سليلي آل quot; فاطمة quot;. عندما جاء من يستدعي الوزير للحضور إلى الخليفة، المحتضر، إستشار هذا أباه. quot; نسأل quot; كراكوز quot;، صاحبنا ! quot;، قال الوالدُ متفكراً مطرقاً. في الليلة التالية، مات غلاً وقهراً الخليفة الفتى، دونما أن يتمكن من خصمه.

دلور ميقري

[email protected]