ما ان مرر قانون الانتخابات بعد التي واللتيا كما يقال، حتى بدأت تماسيح الكتل الكبيرة في مجلس النواب العراقي وحكومته تذرف الدموع انهارا على حقوق الاقليات و( كوتتهم ) التي فات تشريعها بموجب المادة (50 ) من القانون الذي صوت عليه المجلس، وصادقت عليه هيئة الرئاسة بأجماع قل ان يتحقق بمثل تلك السرعة قياسا لما اعتدنا عبر مسيرة تشريع القوانين في العراق، الموقف الذي تكرر في قمة دوكان بشكل لافت، بما يجعله باديا للعيان وكأنه الغاية الاولى لهذه القمة التي استدعت هيئة الرئاسة العراقية بكامل نصابها ورئاسة الاقليم الى الغاء اجازة العيد، والالتحاق بدوكان دون سابق انذار، بما بدا وكأنه تلويح بـ (3 +1 ) جديدة، على ان يكون الواحد هو رئيس الاقليم وليس رئيس الوزراء، او (2 + 2 ) بتدوير مراكز الثقل الاربعة قليلا، اي بمعنى احتساب ثقل الزعيمين الكرديين مضافا الى ثقل الزعيمين العربيين الشيعي والسني، ولا جدل بأنها يمثلا اقوى الاحزاب من جهة العراق العربي.

لا يخفى ان اربعة دوكان الكبار يتشاطرون نفس القلق من سعي رئيس الوزراء نوري المالكي الى تكثيف صلاحيات المركز وحصر الكثير منها بين يديه خلافا لاتفاقات التأسيس دستوريا وما قبل الدستور، مدعوما بتأييد كبير من الشارع العراقي، بما ينذر بأن تفقد الكثير من هذه الاطراف من امتيازاتها الحالية والمرجوة، لو اتيح له ان يمضي قدما بما هو عليه الان، الامر الذي استدعى بعض هذه الاطراف الى التحذير من عودة الديكتاتورية، واخرى الى التحذير من عودة عصر الانقلابات.


ولا يخفى ايضا ان كل زعماء قمة دوكان، خلا زعيم ديبلوماسية المجلس الاسلامي الاعلى ونائبه في هيئة الرئاسة، الطامح ومجلسه لاكبر منها، السيد عادل عبد المهدي، وبالقدر الذي لايعبر فيه عن رأيه الشخصي، لايتفقون مع السيد المالكي في اجندته الخاصة الى الموضوع الاكثر سخونة بين بغداد وواشطن والذي بدا مستنفذا للدقائق الاخيرة من الوقت بدل الضائع، واعني بالطبع ( الاتفاقية الستراتيجية بعيدة المدى ) والتي لاندري ان كان هذا الموقف هو استجابة لضغوط الداخل والخارج التي ساهم تحييدها في زيادة نفوذه، ام انه هروب الى الامام من عقدة تخوين التأريخ التي لايريد ان يلصقها رئيس لوزراء بنفسه وحزبه ومذهبه، وفق قرأءة مغلوطة لحسابات واقع ما تحتاجه الدولة العراق الان او في المستقبل المنظور، مع ان هناك عاملا لايمكن مهما حاولنا ان نتغافل عليه اكثر مما فعلنا، وهو ان كل تلك المماطلة والتسويف، انما ارادت بها الادارة الجمهورية الحالية، وبصفقة محكمة مع رئيس الوزراء العراقي، استغفال كل محركات القلق الداخلية والاقليمية للعراق، الى الوقت الذي لم يعد فيه متسع للناخب الاميريكي للحديث عن الملف العراقي وسط استعار حمى الحملتين الجمهورية والديمقراطية وتركيزهما على ازمات ومشاريع الداخل.


لكن التعويل على الخلاف الظاهر بين المالكي والاميريكين بشأن الاتفاقية الامنية يغري الجميع بالبناء عليه، فأذا كان الكرد قلقين من ان تحد بغداد المالكي من نفوذهم داخل وخارج الاقليم، فأن الهاشمي المتوجس خيفة من ضياع سطوة حزبه (الاسلامي ) على سنة العراق الذين انطلقت مشاريعهم الخاصة المتقاطعة كليا معه، سواء تلك التي بنيت على مشاريع الصحوة، او تلك الساعية الى اعادة سنة العراق الى طابعهم العلماني بعد تجربتهم المرة مع الاسلامين، جهادين ومنظرين، وهي بشقيها ترى ان الحزب الاسلامي العراقي، كمنظمة سياسية اسلامية سنية بحتة، لايمكن ان تحتمل تطلعهم الى الغاء تكريس البناء الطائفي والاثني الذي ساهم الحزب الاسلامي بتدشين عصره في العراق الجديد، وهي بشقيها في نفس الوقت باتت اقرب الى رئيس الوزراء الذي بدا هو الاخر الاقرب الى تقوية دولة المركز، وانهاء حقبة ولايات المدن، التي سأمها الشارع العراقي بأغلبيته العظمى.


ومن غير المتوقع الا يضع رئيس الحزب الاسلامي (السني ) في حساباته ان المالكي الان هو الاقرب الى جمهور ساحته التي يريدها ( دومينا مقتطعا ) كما الاخرون، وهو نفسه من ساهم بقوة في اضعاف سطوة الحزب على شارعه بمجرد ان ساهم بتمرير دستور (2005 ) وانتخاباتها، بتهميش مطالبه من دولة المركز خلافا لكل الاطراف الاخرى، وفشل الحزب في استثمار الظاهرة ( الجهادية ) السنية للضغط على الامريكين والعراقين معا، بعد ان ساهمت بتبريرها اغلب منابر منابر الحزب وساحات خطابه، وفشل الحزب اخيرا حتى في ان يكون له او لمنابره الدينية، قدم السبق في التصدي للظاهرة (الجهادية ) التي انطلقت بمشروعها الخاص ( الدولة الاسلامية) ولو بفتوى واحدة، كان سيكون لها التأثير الكبير لصالح سمعة الحزب عند سنة العراق على الاقل، الذي استبدت بهم تلك الظاهرة بعد ان غررت بهم، وانما اكتفت قيادات الحزب المحلية بالتصالح مع الظاهرة تلك على كل بدر منها ولاخر لحظة ممكنة، حفاظا على وحدة الاصول، وكتمانا لاختلاف الفروع، في التعاطي مع ( الممكن السياسي ) قبل ان تكون الغاية تأمين السلامة الشخصية للقيادات المحلية الفذة للحزب الاسلامي العراقي، حتى حين لم يعد هناك شك ان تلك الظاهرة قد استبدت كليا بالحاضن المخدوع وتمردت على المبرر المستثمر.

اما المجلس الاسلامي الاعلى القادر ببراغماتية عجيبة ومتفوقة على ابرام الصفقات مع، وعكس اتجاهات عقارب الساعة في نفس الوقت، ومع تنامي حدة الخلافات بينه وبين رئيس الوزراء وحزبه، على خلفية الاتهامات المتبادلة باستغلال سلطة المركز والسلطات المحلية وتوظيفها في الصراع الانتخابي المقبل، فأنه قد لايجد ان هذه اللحظة يمكن ان تواتيه مرة اخرى لكي يستأثر بما تبقى من عمر كرسي رئيس الوزراء الذي فقده بصوت واحد، او يستعد من الان لاستعادته بصفقات الكبار، المتوجسين جميعا من المالكي وحزبه، ومن تقلبات مناخ الشارع العراقي.


عليه لم يكن اسهل من استغلال موضوع ضياع حقوق الاقليات وكوتتهم الضامنة من قانون الانتخابات، مبررا لقطع اجازة العيد، لتدشين قمة دوكان التي سنرى المزيد من تداعياتها بعد انتهاء عطلة العيد، ما لم يستبق رئيس الوزراء هذه النتائج بالاعلان عن توقيع الاتفاقية واعادة الكرة الى ملاعب اللاعبين الكبار والصغار واحراجهم معا.

واذا كان لي ان احشر ايضا موضوع الاقليات في هذا المقال، بأعتباره النتاج الابرز لما ظهر الى الان مما وراء اجمة دوكان فأني لن استغرب تباكي الكتل السياسة الكبيرة على هذا التفريط بحقوق الاقليات المزعومة هذه، فأن خلافها سيعني انهم فشلوا في تكريس المحاصصة الطائفية والاثنية بأستحكام ادق حلقاتها، ولكني استغرب موقف الكتاب والمثقفين العراقين المتضامن لاول مرة مع النخبة السياسة العراقية، مع اختلاف النوايا بالطبع.

واذا كنت متفقا مع كل الاراء التي اشارت الى ان غالبية الاقليات العراقية هم الجذر التأريخي للانسان على هذه الارض، فأن ضمان حقوقهم لن يتأتي ابدا عبر (كوتة ) تعزز نفوذ ممثليهم الهش في كل الاحوال، ولن يحرر العراق من تركيبة (الديمقراطية التوافقية ) التي اثبتت فشلها الذريع في عمر البلاد السياسي بعد عام 2003، واضاعت حقوق الاكثريات العراقية قبل اقلياته، ما لم تكن استعبدتها بتكريس سطوة ونفوذ امراء الطوائف والاثنيات.


ولو كان امراء الطوائف والاثنيات جادين في الحفاظ على حقوق الاقليات، لخصصوا (كوتات ) لا ( كوتة ) واحدة ضمن قوائم مرشيحهم للانتخابات، او منوا ببعض ما بين ايدهم من الوظائف ( السيادية ) المتأتية بطريق المحاصصة لافراد الاقليات، واغلبهم من حملة الشهادات العليا والاختصاصات النادرة، وكانوا الاجدر عبر تأريخ الدولة بملئ الحقائب التي شغلوها.

فلا اعتقد خلاصا للعراق بغير دولة المواطنة المبنية على نظام ديمقراطي نسبي ( عددي ) يتساوى فيها الجميع، دون افساح ادنى مجال للترويج لثقافة ( المكونات ) كبرت او صغرت، وعلى هذا فأنا اول من يضع قلمي وصوتي لخدمة اقليات العراق بسعينا لبناء الكيان العراقي الذ بنوه قبل ان يأتيهم اجدادي من جزيرة العرب بالسيف والهدى.

ابراهيم الصميدعي

[email protected]