إذا كانت الأعمال الفنية التاريخية تحظى بإهتمام من قبل النخب الثقافية و حتى الشعبية في ظل حالة المراجعة التاريخية الشاملة التي تمر بها شعوبنا العربية، فإن تناول الأحداث و الشخصيات القريبة من تاريخنا المعاصر تظل ذات أهمية إستثنائية كبرى نظرا للدور التنويري و التحديثي و التاريخي الكبير لتلك الشخصيات في تحديد معالم النهضة و التطور الحديث رغم الهزائم و النكسات و الإخفاقات، فمسلسل تلفزيوني من طراز مسلسل ( الباشا ) مثلا الذي يتناول سيرة حياة رئيس الوزراء العراقي السابق المرحوم الجنرال نوري السعيد كان بمثابة إنقلاب فكري وذهني في عقلية المواطن العراقي و لربما العربي أيضا لأن ذلك الرجل أي ( نوري السعيد ) قد تعرض لحالات فظيعة من الغبن و التشويه التاريخي من خلال المناهج التثقيفية و الدراسية حتى أن شتمه في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ إنقلاب 14 تموز الدموي عام 1958 قد أضحت فريضة محكمة و سنة متبعة!! حتى نشأت أجيال عراقية كاملة لا تعرف عن نوري السعيد سوى كونه ( خائن و عميل بريطاني )!! أو كما أسموه (ثعلب السياسة البريطانية في الشرق الأوسط )! رغم أن الحقيقة التاريخية تقول أنه كان واحدا من أعظم القادة الوطنيين الذين أنجبهم العراق في تاريخه الطويل و المعقد و الحافل بكل صور الغدر و التآمر و الفجيعة و أنهار الدماء.
وهنالك العديد من الشخصيات السياسية العربية لعبت أدوار مؤثرة في تاريخ شعوبها و ظلت ذكراها و إنجازاتها مغيبة في كتب التاريخ في ظل حالة الفوضى الفكرية و الخوف اللامبرر له من فتح الملفات التاريخية أو إستعراض النزاعات و الخلافات التي حدثت بين قيادات المنطقة أو قبائلها وهي أمور إعتيادية حدثت في مختلف شعوب العالم، فها هي أوروبا و إلى فترة قريبة لا تتجاوز الستين عاما مضت كانت تعيش تداعيات و خلافات و عداوات دموية مروعة تسببت في حربين كونيتين أكلت الأخضر و اليابس خلال القرن العشرين المنصرم وحده دون أن ننسى أن القرون القليلة الماضية قد شهدت صراعات دموية مرعبة أنتجت في النهاية التقسيمات السياسية السائدة، و لكن تلكم الصراعات البنيوية و التكوينية المرعبة لا يعاني الجيل الأوروبي المعاصر من إشكالياتها فقد أصبحت في ذمة التاريخ و هي جزء من الماضي ليس له أي تأثير على الواقع المعاصر، فهتلر أو موسوليني أو سالازار أو تشاوسيسكو ليسوا سوى رموز من الماضي لا أكثر و لا أقل و قد ضمتهم متاحف الشمع و التاريخ ليس إلا..! و باتوا من إختصاص أهل البحث التاريخي فقط؟ و العالم العربي ليس إستثناءا فالصراعات القبلية و الحزبية و السياسية التي أدت لنشوء الشرق الأوسط بتكويناته الحديثة قد إنتهى أمرها منذ زمن طويل و هي صراعات إن لم تكن حتمية فهي كانت من طبائع الأمور لأن حالات الصراع المجتمعي مسألة حتمية من أجل ولادة حالة جديدة، وقد شهدت الجزيرة العربية على وجه الخصوص موجات عارمة و طويلة من الصراعات القبلية و الفئوية أدت في النهاية لقيام الكيانات الحديثة بعد موجات من المخاضات الدموية و الإجتماعية، و لكن يبدو أن الأمور في شرقنا العربي التعيس تسير بصورة سلحفاتية مغرقة في البطيء إذ أن ذكريات تلكم الصراعات لم تزل تثير في نفوس البعض حساسيات و أمراض و عقد نفسية لا مبرر لها كما لاحظنا ذلك في بعض المسلسلات التلفزية التي وصلت لحد المنع عن العرض في رمضان كما كان الحال مع مسلسل ( سعدون العواجي ) مثلا على خلفية الخشية من إثارة النزاعات العشائرية القديمة و التي يتخوف البعض من إحتمال عودتها!!
وهي في رأيي مجرد سفسطة و أوهام لا تعبر عن حقيقة حياتية معاشة فإحتمال تجدد مثل تلك الصراعات مسألة مستحيلة فما حصل قد حصل و لا مجال للعودة للماضي، فالأعمال التاريخية في السينما أو التلفزيون ذات مضامين حضارية و فكرية مهمة للغاية و هي تصلح لأخذ العبرة و العظة لا أكثر و لا أقل فمسلسل تاريخي رائع مثل ( أبو جعفر المنصور ) قد إستحضر حقبة تاريخية مهمة و ربط بين أحوال صراعات قومية لا نزال نراها شاخصة حتى اليوم بدرجة أو أخرى و هو يستعرض تلك الحقبة المبكرة من التاريخ الإسلامي التي تقاطعت فيها كل الصراعات الثقافية و الحضارية و القومية و التمازج الحضاري بين شعوب الشرق، و لعل أكثر مظلومية وقعت على عمل من الأعمال الفنية ذات البعد التاريخي قد تجسدت في مصير مسلسل تاريخي كويتي ضخم و كبير بعنوان ( أسد الجزيرة) الذي يتناول سيرة حياة و صراع المؤسس الفعلي للكويت الحديثة الشيخ ( مبارك الصباح ) الذي حكم الكويت خلال أعقد فترة من فترات الصراع الإقليمي و الدولي وهي الفترة التي شهدت ولادة الشرق الأوسط الحديث و المخاضات التي أنتجتها تلك الفترة و الشيخ مبارك رجل تاريخي بكل معنى الكلمة و هو من طراز الرجال و القادة الذين صنعوا التاريخ و صاغوا الكثير من مفرداته و أحداثه و في هذا الرجل بالذات قد تتباين الآراء و التقويمات و لكن أهميته و دوره الإستثنائي في تاريخ الكويت و الخليج العربي لا يختلف عليه إثنان، و كان هو و الملك عبد العزيز آل سعود و الشيخ خزعل الكعبي شيخ المحمرة و الأهواز و السيد طالب النقيب في البصرة من رموز التاريخ لحقبة نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و لن نضيف جديدا فيما لو تذكرنا أن الشيخ مبارك و أصدقائه خزعل في المحمرة و طالب النقيب في البصرة كانوا قد أسسوا لمشروع إئتلاف وحدوي كبير يضم الكيانات الثلاث عام 1909 لو تحقق لكان قد حقق ثورة تنموية كبرى و لقامت دولة نفطية و زراعية في شمال الخليج قد تتحول لقوة مهمة و فاعلة وهي الدولة التي كانت ستضم الأحواز و الكويت والبصرة و التي خريطتها على شكل حدوة حصان!!
و لكن للأسف أجهض الأنكليز الحلم العربي الخليجي الكبير بسبب خطط الصراع الدولي على المنطقة و محاولات تقسيمها فالبصرة ألحقت بالعراق الجديد الذي قرر البريطانيون إنشائه تحت رعاية التاج الهاشمي و المحمرة و الأهواز ضاعت بعد أن تم تسليمها لنظام رضا بهلوي الشاهاني عام 1925، فيما بقيت الكويت وحدها تصارع الأنواء و تلاطم التيارات و تقاوم الضغوط الإقليمية و الدولية الشديدة من أجل إعلان لحظة الميلاد و القيامة الوطنية، و الحديث عن مبارك الصباح و عهده يعني الحديث عن قصة طموح كبرى بما واجهتها من صراعات كبرى بين الخصوم المحليين و الإقليميين فهو قد نجح في صقل الصورة المستقلة للكويت و إنتزاع مشروع الدولة الكويتية المستقلة من أفواه مفترسة كالعثمانيين و الإنجليز و بقية الفرقاء الإقليميين كما أنه دخل في تحالفات و معارك مهمة مع أطراف قبائلية وقتذاك و ساهم في بشكل فاعل في إعادة إحياء الدولة السعودية من خلال دعم عبد العزيز آل سعود في فتح الرياض عام 1902 كما دخل في صراعات مع المعارضة الداخلية المدعومة من العثمانيين أو القبائل الأخرى، أي أن فترة حكمه كانت حافلة بالصراعات التي لا بد منها من أجل تشكيل أي دولة و قد هزم أحيانا و أنتصر في أحايين كثيرة و الحرب مراحل و سجال و لكنه في النهاية رحل لربه بعد أن أسس الأساس المكين للدولة الكويتية الحديثة التي رعاها أبنائه و أحفاده من بعده بدءا من العهد القصير للشيخ جابر المبارك ثم الحكم العاصف و المليء بالتحدي للشيخ سالم المبارك الذي حدثت في عهده ( معركة الجهراء ) التاريخية في العاشر من أكتوبر 1920 و التي يمكن إعتبارها كمحطة مركزية من محطات الولادة الكويتية المعاصرة و هي ولادة صعبة و متعسرة مليئة بكل صور المعاناة و الصبر و تحدي الأقدار، ثم جاء عهد الشيخ أحمد الجابر الطويل نسبيا ( 1921 / 1950 ) و هي مرحلة مهمة تحددت خلالها معالم الكويت بحدودها الجغرافية و التي تعرضت للغبن التاريخي من خلال مؤتمر العقير في نوفمبر 1922 و التي أنهت إتفاق عام 1913 مع الدولة العثمانية لتخسر الكويت 160 ميلا من حدودها البرية الجنوبية مع ما أتبع ذلك من حصار إقتصادي و معاناة طويلة و صراعات داخلية لم تنته إرهاصاتها إلا بعد الحرب الكونية الثانية و إستثمار الثروة البترولية التي غيرت وجه الحياة في المنطقة بشكل عام، و بعيدا عن الإيغال في التاريخ و تفاصيله فإن مسلسل أسد الجزيرة و الذي أبدع الممثل الكويتي المعروف محمد المنصور فيه في تجسيد شخصية الشيخ مبارك الصباح قد تم منعه من العرض لأسباب لم تعرف بشكل واضح و معلن للجميع و لربما هي أسباب لا تختلف عن أسباب منع مسلسل ( سعدون العواجي )!
أي الخوف من حساسيات الصراعات القديمة التي أضحت من الماضي و لم تعد لها حاليا أية جذور أو متعلقات !، وقصة المسلسل كتبها الكاتب الكويتي شريدة المعوشرجي و أخرج العمل المخرج السوري باسل الخطيب في ملحمة تاريخية رائعة كانت ستطرز الشاشة الفضية العربية لو قدر لها العرض وهي ملحمة فنية كانت ستتفوق على الكثير من المسلسلات التاريخية الرتيبة فما تسرب من لقطات أعلانية و دعائية توضح أن العمل كان ملحميا و كان من الممكن التخلي عن الحساسية وعرض المسلسل للجمهور ثم البدء بسلسلة من النقاشات و التصحيحات للأخطاء التاريخية إن وجدت!! فالدور الذي لعبه الفنان الكويتي العريق و المقتدر محمد المنصور كان رائعا في تجسيده و تقريبه للصورة الشكلية و الجسمانية للشيخ مبارك الصباح و لطموحاته الكبرى التي قدر لها فيما بعد أن تكون أساس إنطلاقة الكويت الحديثة، لقد كان عملا فنيا متميزا و رائعا و لكن للأسف تم قبر العمل و إجهاض كل الجهود الكبيرة و المصاريف الهائلة خوفا من تداعيات لا قيمة لها ميدانيا، فذلك العمل حرام أن يكون حبيس المستودعات بينما تعرض أعمال فنية عربية و خليجية سقيمة و رديئة تتحدث عن السحر الأسود أو زواج المتعة أو البطولات الفارغة!! أو السهر في المزارع و الشاليهات، هنالك خلل كبير في العقلية الإعلامية العربية التي لم تستطع أن تكون حيادية و موضوعية بل تناهشتها الروح القبلية و الفئوية المدمرة، فتاريخ الشعب الكويتي و الشعوب الخليجية حافل بكل صور التحدي و المقاومة و البطولة.. إنه المسلسل المظلوم في زمن ( الواوا ) التلفزيوني..... فمتى سيفرج عن مسلسل ( أسد الجزيرة ) المؤود لنرى الإبداع في أروع حالاته و معانيه.
داود البصري
التعليقات