ما لبلاد ما بين النهرين مهد الحضارة والتنوير، ما للعراق منشأ العلم ومنبع المعرفة المتشظية وصولاً إلى أقاصي المعمورة ومن ضمنها البلد الشامخ، ما للعراق أم شرائع حمورابي، ما للعراق مرتع النوابغ والمفكرين والشعراء، ما له وأن يتحول إلى موضوع تنافسي أو لكرة حامية، يتقاذفها مرشحون الرئاسة الأميركية بين منبرين! أم أن العالم نسي والشعب الأميركي الأصيل التواق للعدالة والمساواة ولكل القيم الإنسانية والديمقراطية أولاً، نسي بأن العراق ليس فقط أرضاً نفطية، بل هو اليوم بلد جريح، وأرض مجّت الدماء والدموع، وشعب مشتت ومهجر يعاني الأمرين؟
في كل الأحوال وبما أن العراق زج في هذا السباق المحموم، لا بد من التطلع إلى ما جاء على لسان المرشحين الرئاسيين حوله ضمن المناظرة الأخيرة التي جمعتهما بتاريخ 26 أيلول(سبتمبر)في جامعة ميسيسيبي،وإلى ما وردد بعدها في المناظرة التي تواجه فيها المرشحين لمنصب نيابة الرئاسة ساره بالين وجو بايدن، وذلك بهدف استشراف ما يمكن أن ينتظر العراق في السنين المقبلة. وبادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى اللهجتين المختلفتين والتي ميزت خطاب كل من المرشحين الرئاسيين. ففي حين طبعت مواقف أوباما اللهجة الأكاديمية الهادئة والمهادنة، تميزت لهجة ماكين بالفوقية وصولاً إلى الهجومية في بعض محطات الحوار. ومنها على سبيل المثال قوله:quot;نحن ننتصر في العراق، وسوف نعود إلى بلادنا منتصرين، كما انتصرنا في أوقات أخرى ومناطق أخرى من العالم، وعدنا غير خاسرين quot;. وهنا لا بد من التساؤل حول الجهة التي انتصر عليها جورج بوش في غزوه للعراق، وحول طبيعة هذا الانتصار الذي التزم بالترويج له والتفاخر به السيناتور ماكين من بعده. هل هو انتصار على الشعب العراقي؟ وهل الشعب العراقي مسؤول عن تصرفات القاعدة وعن أحداث 11 أيلول حتى يعاقب ويتحمل تبعات وتداعيات حروب انتقامية ليس له فيها لا ناقة ولا جمل؟ أما إذا كان يعني بكلامه هذا انتصاراً على الإرهاب؟ هل هو يعني تنظيم القاعدة الذي اقتلعته سياسة جورج بوش من أساسه وأزالته عن خارطة الشرق الأوسط........؟! أم هو انتصار في التمكن من نشر الفوضى الخلاقة كما يرى بعض المنظرين؟ أولا يدرك المرشح ماكين مدى الدمار والخراب الحاصل في العراق؟ وهلا تصله تقارير عن عدد الضحايا التي تسقط كل يوم بسبب التفجيرات الإرهابية؟ أولا يعرف أن العراق يفرغ من مثقفيه وعلمائه وأن الأطباء في هذا البلد الجريح هم مضطرون لحمل السلاح في وضح النهار،حتى لا تطالهم يد الغدر في ظل استكمال مسلسل تفريغ العراق وتجريده من كل عناصره الثقافية والعلمية؟ عن أي انتصار يتكلم وعن أية أخطار يعتبر أنه يتفاداها عندما يقول بان القوات الأميركية بتواجدها تحد من إرهاب القاعدة وتمنع التمدد الإيراني؟ أوليس العكس هو الحاصل؟ أوليس غزو العراق وتشتيت جيشه وقواه المسلحة، هو الذي مهد وسهل الطريق أمام المد الإيراني كما قال أوباماquot;؟....... اوليس واضحاً أمام العالم أجمع بأن الهيمنة الإيرانية على العراق باتت بحكم الأمر الواقع، وبأن الحرس الثوري الإيراني وبواسطة خلاياه وأنشطته المزروعة في كافة أنحاء العراق أصبح ممسكاً بكل مفاصل الدولة وبصناعة القرار.
وعندما يقول ماكين بأن العمليات الإرهابية قد تدنت نسبتها في العراق بعد سنة 2007، قد نضم صوتنا إلى صوت المرشح أوباما الذي ذكره بأن الحرب على العراق لم تبدأ بهذا التاريخ، وبأن مقاومة التواجد الأميركي بدأ من اليوم الأول في العراق وأن عدد الجنود الأميركيين الذين قتلوا قبل هذا التاريخ يفوق الأربعة الآلف. ونسأل مع أوباما أين هو الانتصار يا ترى؟
وليس من باب التحيز لجانب المرشح أوباما ولكنه عندما يقول: quot;بأنني ومنذ ستة سنوات وقفت وقلت أنا ضد هذه الحرب، وكنت أتمنى أن أكون مخطئاً لمصلحة البلاد(الولايات المتحدة الأميركية)، وأن يكون معهم حق (إدارة بوش)، ولكن الوضع لم يكن على هذا الشكلquot; أو عندما يقول أيضاً: quot;لما بدأت الحرب قلتم إنها سوف تكون سريعة وسهلة، وقلتم نعرف مكان تواجد أسلحة الدمار الشامل، ولكنكم كنتم على خطأ. قلتم أننا ذاهبون كمحررين للعراقيين وكنتم على خطأ. وقلتم أنه لا يوجد تاريخ من العداء بين السنة والشيعة وكنتم على خطاء.وبدل أن تلاحقوا أسامة بن لادن المسؤول عن أحداث سبتمبر، في جبال تورا بورا، وفي أدغال حدود باكستان، شنيتوا الحرب على العراق، ونسيتوا أمر بن لادن، في وقت كان هو يعيد تشكيل أرضيته وأدواته وشبكاته. لهذا السبب القاعدة في أفغانستان اليوم هي أقوى من أي وقت آخر ومنذ سنة 2001quot;.أمام هذه المواقف الواضحة والواقعية، لا بد لنا من التسليم وفي حال صدقت النوايا، بأن الرجل هو على صواب فيما يقوله.
أما بالنسبة للموضوع الأهم وهو تاريخ خروج القوات الأميركية من العراق، فلقد تباينت أوجه النظر بين الخصمين. ومقابل إعلان أوباما بأنه:quot; في حال انتخبت رئيساً سوف أؤيد سحب القوات الأميركية من العراق، حتى نتمكن من ملاحقة مصدر الإرهاب الحقيقي أي تنظيم quot;القاعدةquot; في أفغانستان، مثلما كان علينا أن نعمل منذ البدءquot;، جاء موقف المرشح الجمهوري ماكين معاكساً إذ أعلن:quot;يا أصدقائي إذا ما خرجنا من العراق لن يقيم تنظيم quot;القاعدةquot; قاعدة واحدة له في العراق، ولكنه سوف يخطف كل البلاد، ولن أدع ذلك يحصل، ولن أتخلى وأتراجع أمام تهديد quot;القاعدةquot;،وأضاف quot;أن أي انسحاب هو بمثابة رفع الرايات البيض أمام الإرهاب.quot; قد تعطي هذه المواقف فكرة أولية عن النوايا المستقبلية للإدارة الأميركية المقبلة حيال العراق على المدى القريب. يبقى أن مصير العراق سوف يظل معلقاً، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، وإلى حين تشكيل واكتمال الإدارة الجديدة.
مهى عون
[email protected]
التعليقات