ما أورده الكاتب البريطاني المعروف و الخبير في الشؤون العربية ( روبرت فيسك ) عن الإعدامات السرية في سجن الكاظمية ليس بالشيء الجديد كما أنه بالقطع لا يمكن إعتباره ( خبطة صحفية ) أو أي نوع من أنواع السبق الصحفي المعتاد، فالقتل و الموت و الإرهاب الشامل كان منذ عام 1958 و بداية تسلط العسكر و الفاشست و العصابات الإجرامية على السلطة في العراق هو العنوان الواضح و البرنامج الشامل لسياسات السلطة في العراق، لربما تكون هنالك إستثناءات قليلة في شهور قليلة كما حدث في عهد الرئيس العراقي الراحل عبد الرحمن عارف الذي شهد هدنة نسبية خلال الفترة من نيسان 1966 و حتى تموز 1968 لم تحدث خلالها إنتهاكات واسعة لحقوق الإنسان العراقي رغم كثرة و تعدد المحاولات الإنقلابية العسكرية التي كان يقف خلفها آنذاك ( الناصريون و القوميون ) جماعة المرحوم عارف عبد الرزاق الذي فشل في القيام بالإنقلاب رغم أنه كان رئيسا للوزراء، و إذا كانت العصابات الطائفية الموجودة في السلطة العراقية اليوم بفضل الإحتلال الأمريكي قد تدربت جيدا على القتل و التعذيب و الإغتيال في مدارس المخابرات الإيرانية و السورية خلال عقود العمل و التواجد و التخادم هناك و لا يمكن فصل ممارسات العصابات الطائفية الصفوية المتسلطة عن تاريخ السلطة الدموي في العراق أو عن المزاج الشعبي العام أو عن طبيعة إدارة السلطة و الروح الإنتقامية التي تحرك صانع القرار و منفذه في العراق، فالميليشيات الطائفية التي أرتدت زي الدولة و تسلحت بقوتها و أنتحلت هويتها فهي إنما تمارس ثقافة سلطوية سائدة لا تقيم وزنا لحقوق الإنسان و لا تعترف بالآخر و تحركها نوازع و أطماع و شهوات قد تكون فردية و قد تكون طائفية أو نفعية و لكن الثابت في كل الأمور هو منهجية القمع و سهولة القتل و التلذذ بالتعذيب وهي حالة نفسية مريضة تستوجب علاجا نفسيا شاملا يسبق أية تشريعات قانونية فالإسلام يرفض بصراحة كل شكل من أشكال التعذيب أو إنتهاك الكرامة الإنسانية كقولة الرسول الكريم ( ص) لا تمثلوا و لو بالكلب العقور، و لكن ممارسات أهل الأحزاب الدينية تختلف بالكامل و تتقاطع بالمطلق مع تعاليم الإسلام السمحاء، و الأحزاب الدينية و الطائفية في العراق قد رضعت التطرف و الحقد و شهوة الدم مع الحليب التكويني لمناهجها، دون أن نتجاهل أن غالبية من يحمل لواء الطائفية اليوم كانوا في الماضي القريب من أتباع النظام السابق سواءا أولئك الذين يقفون اليوم على قمة هرم السلطة و أجهزتها التنفيذية في الدولة أو أولئك الأتباع من عناصر الميليشيات، فنظام البعث السابق لم يكن يحكم العراق بمخلوقات فضائية!!

و جيش القدس ذو الملايين السبعة هو نفسه جيوش ( المهدي ) و ( الصحابة ) و ( الراشدين ) و ( بدر ) و ( فتيان الجنة ) و غيرها من المسميات و العناوين التي أضحت عنوان المرحلة الراهنة، و مخطأ كل الخطأ من يهاجم إجرام العصابات السلطوية الحالي و يتجاهل أو يغفر لإرهاب و جرائم السلطة السابقة فالإرهاب و الأجرام لا ينفصل و هو ذو طبيعة واحدة، و أعتقد أن ذكريات و أسماء السجون و المعتقلات السرية و العلنية التي بناها نظام البعث السابق و معامله التعذيبية ينبغي أن تؤخذ بنظر الإعتبار حين مناقشة مثل هذه الأمور، و لعل التحول الكبير في عمليات التعذيب في العراق قد جاءت بعد إنقلاب 1958 و إنفلات الحقد بين الجماعات اليسارية و القومية حتى سقوط نظام عبد الكريم قاسم و مجيء حكم البعث بحلته الأولى في فبراير 1963 و الذي شهد إنتعاش التعذيب في مقرات اللجان التحقيقية البعثية الخاصة التي كانت معدة لتصفية الشيوعيين العراقيين و الإنتقام منهم وقد قتل القائد الشيوعي العراقي المعروف حسين أحمد الرضي ( سلام عادل ) كما قتلت تقريبا القيادة الشيوعية بوسائل تعذيبية مبتكرة إبتكرتها عقول شيطانية ( مبدعة ) في عوالم التعذيب و الأقبية السرية كالمدعو ( ناظم كزار لازم ) الجلاد المعروف الذي أشتهر و تفنن في جلد الشيوعيين و تعذيبهم حتى الموت و كان من الرفاق المقربين جدا للرفيق ( صدام حسين ) و الذي قتله بنفسه فيما بعد ضمن سلسلة تآمر الرفاق و صراع الذئاب عام 1973!!، و بعد إنهيار سلطة البعث الأولى في نوفمبر 1963 على يد المرحوم الرئيس عبد السلام عارف و جماعته، تهيأت الظروف الدولية لعودة البعث للسلطة مرة أخرى في تموز 1968 لتنتعش من جديد حكاية التعذيب بعد أن تم إتخاذ القصر الملكي السابق ( قصر الرحاب ) المعروف ب( قصر النهاية ) مقرا قياديا و سياديا لإمبراطورية التعذيب و القتل و الإعدام بالجملة البعثية و عادت نفس الوجوه القديمة بسواطيرها و كرابيجها الجديدة ووسائلها التعذيبية الشيطانية لتشن حملات الإبادة ضد مخالفيها و لتنتهك الكرامات الإنسانية ببشاعة و كانت مجزرة ليلة ( الهرير ) المنسية تاريخيا في مساء يوم 21/ يناير ( كانون الثاني ) عام 1970 عنوانا للقتل الشامل حينما تم إعدام عشرات العراقيين من مدنيين و عسكريين على خلفية إتهامات بمؤامرة وهمية و كانت القيادة القطرية لحزب البعث وقتها مجتمعة بأكملها في قصر النهاية تمارس التعذيب و تصدر قرارات الموت الشامل الإعتباطية و من دون توفير حق الدفاع و كان قادة للنظام كصدام حسين و طه الجزراوي و سعدون شاكر و عبد الكريم الشيخلي و برزان التكريتي، و غيرهم هم من يمارس عمليات القتل بالجملة و المفرق دون أن يرف لهم جفن أو يهتز شارب!!

و أستمر نظام البعث بحملاته ألأمنية و خططه التعذيبية و أنشأ جمهورية الرعب الشامل و الإبادة التي خرجت إجيال كثيرة من الجلادين و المتعودين على ممارسة طقوس الموت و التعذيب و إنتهاك الحقوق البشرية و يطول الكلام ليمتد حتى مرحلة الثمانينيات التي شهدت عمليات إعدام رهيبة و شاملة أقرب لمرحلة الإبادة البشرية ثم جاءت الحرب مع إيران لتؤسس لثقافة الدم و الموت البعثية الشاملة و التي أنتجت مجتمعا معسكرا مدربا على السلاح أسس فيما بعد لحالة الفوضى الشاملة التي عصفت بالعراق بعد سقوط النظام تحت وطأة القوة العسكرية الأميركية، فتحول الجلادون و أرتدوا حلل أخرى طائفية أو دينية و لكن ظلت ممارسات القتل هي نفسها فكل نظام سياسي له مبرراته و أسبابه و دفاعه و تبريراته لما يجري من إنتهاكات، و لعل سجن الكاظمية الذي أعدم فيه صدام حسين و كان مكرسا لمتابعة القوى الدينية في السابق قد تحول اليوم لمسلخ جديد ( من إستل سيف البغي قتل به )!! و تدور الأيام لتنكشف الفضائح بدءا من فضيحة معتقل ( الجادرية ) السري على أيام وزارة الرفيق باقر صولاغ للداخلية!! و مرورا بأحداث أبو غريب ووصولا للإعدامات الجماعية الأخيرة و التي تكرس حالة دائمة و مستمرة في العراق الحديث، للسلطة قوانينها و إرهابها و تجارب التاريخ قد علمتنا أن حديث المباديء يصلح في أيام الإستضعاف و المعارضة فقط أما بعد إستلام السلطة فإن كل الغرائز المتوحشة تستيقظ مرة واحدة ليكون الدفاع عن القمع دفاع عن السلطة و الحكم..!! إنه العراق النازف دائما و أبدا و أنه الحقد التاريخي الذي لم تنطفأ نيرانه حتى اليوم..!

داود البصري


[email protected]