بعد أن غزى جيش صدام الكويت قبل ما يقرب من عشرين عاما، وبدلا من (اعادة الفرع الى الأصل ) كما قال القائد الضرورة، فقد تسبب فى مجيء القوات الأمريكية الى المنطقة. ثم انسحبت قواته انسحابا مهينا، تطاردها الطائرات الأمريكية التى دمرتها تدميرا مريعا وفقد الجيش العراقي عشرات الآلاف من جنوده الذين سيقوا الى المعركة الغير متكافئة، فكانت نكسة للجيش العراقي لم يسبق لها مثيل منذ تأسيسه فى العشرينات من القرن الماضي. خربت الغارات الجوية الأمريكية البنية التحتية للعراق، وكما توعد بوش الأب فقد عاد البلد الى العصر الحجري بفضل عناد وغطرسة حارس البوابة الشرقية سيف العرب والمسلمين المهيب الركن صدام حسين ( وهو الذى لم يخدم فى الجيش ولا دخل كلية عسكرية)، وبفضل دعاء شيخنا المبجل القرضاوي فهو الآن فى جنات النعيم محاطا بالحور العين والغلمان المخلدين، ويبارك له انتصاراته العظيمة من سبقه الى الجنة من المنتصرين من امثال جمال عبد الناصر وهتلر وموسوليني ونابليون، ويستعد جميع هؤلاء لاستقبال آخر الأبطال: مؤسس (اسراطين)!.

تعطلت الأعمال وتفشت البطالة وانهارت العملة العراقية، وبعد أن كان الدينارالعراقي يعادل أكثر من ثلاثة دولارات أصبح الدولار يعادل ثلاثة آلاف دينار عراقي. و نشطت الرشوة واستشرى الفساد فى كل مرافق الدولة، ولم تعد الدولة قادرة على دفع رواتب موظفيها، فابتدع البعثيون ما سموه ب(التمويل الذاتي) أي: ان على الدوائر الحكومية، بدون استثناء، أن تقوم باستيفاء رواتب منتسبيها من المواطنين الذين يحتاجون لخدمات تلك الدوائر. وهكذا قام جهاز الشرطة (فى خدمة الشعب) بابتزاز كل من يضعه سوء حظه بين ايديهم سواء كان مشتكيا أو مشتكى عليه. وامتد الفساد الى المصالح الرسمية وشبه الرسمية مثل البنوك والمصارف الأهلية التى قام موظفوها بفرض عمولات باهضة لا تدخل فى السجلات، على أية عملية تجارية مهما كانت بسيطة، وغالطوا فى عد النقود وسرقوا من الساحب والمودع معا. واستمر الحال على هذا المنوال حتى أصبحت الرشاوى والسرقات من الأمور اليومية العادية، والشعب المسكين قد هصره الحصار، وأصابه الجوع والعطش، بينما انشغل رئيسه (حفظه الله ورعاه) وصحبه الميامين فى بناء القصور وتهريب الأموال الى خارج العراق حيث استثمروها هناك، بينما ازداد عدد وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية وندرة الماء الصالح للشرب أضعافا مضاعفة.

وسقط حكم البعث وهرب الرئيس الذى لم يطلق اطلاقة واحدة - وهو الذى كان يستمتع باطلاق الرصاص على رؤوس معارضيه-، وتوقعنا أن تتحسن الأحوال وتعود الأمور الى نصابها، ولكن حصل ما لم يكن فى الحسبان، وانقسم الناس بين متسنن ومتشيع، وجلهم لم يصلى يوما واحدا فى حياته، وانتهز المعممون الفرصة التى كانوا يحلمون بها بعد ان استطاع أحدهم قبل حوالى ربع قرن من الوصول الى حكم ايران، فبات كل واحد منهم يتسائل فى داخله ترى مالذى ينقصه عن الخميني لكي يصبح مرشدا روحيا للعراق؟


ومع أن جلهم كانوا خارج الحدود ولم يعودوا الى العراق الا بعد دخول القوات الأمريكية وسقوط النظام، الا أنهم اعتبروا أنفسهم القادة الجدد للبلد. وأصبح المعمم الذى كان متواضعا يقصد فى مشيه ويغضض من صوته، أصبح يسير فى الأرض مرحا منتفخا يمد يده للجهلاء ليقبلوها ويتبركون بلمس عباءته ولحيته. وظهرت عند بعضهم موهبة تهريب النفط، فأصبحوا من أصحاب الملايين بين ليلة وضحاها. وبرز من بينهم من التف حوله الجهلاء ورجال الأمن والبعثيون القدماء والمجرمون الذين أطلق صدام سراحهم عندما شعر باقتراب نهاية حكمه، وأقنعوه بأنه أولى بالزعامة من غيره، فقط لأن أباه الذى قتله صدام كان انسانا شريفا و بطلا عراقيا حقيقيا.

وانطلق مقتدى الصدر وملأ الدنيا ضجيجا وظن أنه قد أصبح الحاكم بأمره وانه سيخرج الجيش الأمريكي ليس من العراق فقط بل من الشرق الأوسط كله!!. وبدأ هو و (تياره) بأعمال القتل والخطف والابتزاز التى أرعبت العراقيين كافة. واحتضنته الجارة ايران نكاية بأمريكا، وزودته ومعممين آخرين بالمال والسلاح والمتفجرات. ولسبب غير واضح فقد غير مقتدى من سياسته ومنع أتباعه من استعمال العنف، فانشق عليه بعضهم ndash;وهم قلة لحسن الحظ- وواصلوا أعمالهم التخريبية.

وردا على ذلك فقد قام بعض رجال الدين السنة بالاتصال مع اخوانهم فى المذهب خارج الحدود وأدخلوا فى روعهم بأن العراق سيصبح شيعيا تحت وصاية ايران وان الشيعة سيقتلون السنة. فثارت حميتهم وقاموا بتزويدهم بالأموال الطائلة والمجرمين الانتحاريين. وحدث الصدام المريع بين العراقيين، وبدأت التفجيرات تحصد أرواح الناس حصدا وتدك بيوت الله دكا، وراح ضحية ذلك الجنون الطائفي عشرات الآلاف من العراقيين، وهجر البلد الملايين من أهله وانتشروا فى كافة بقاع الأرض يبحثون عن الأمن والأمان، وخلفوا وراءهم ما يملكون من بيوت وعمارات سكنية سرعان ما احتلها المعممون وقادة العصابات. وأقولها بأسف : لولا وجود الأمريكان فى البلد لتناقص تعداد نفوس سكان العراق الى أقل من ثلاثة ملايين وهو عددهم عند انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الحكم العثماني.

من الرابح من كل ماحصل؟ انهم فقط الذين يسمون أنفسهم زورا وبهتانا (رجال الدين)، وهم ليسوا من العراقيين فقط، بل أن قسما منهم من بلدان اسلامية أخرى أخذوا يرسلون الانتحاريين لقتل العراقيين تحت غطاء قتل الأمريكيين، وبحجة اقامة دولة اسلامية ارهابية متزمتة فى العراق، منهم من استقروا فى العراق وتزوجوا من عراقيات ومنهم من فجروا أنفسهم فى الأسواق ودور العبادة. بعثهم سكان كهوف أفغانستان الذين امتد سرطانهم الى كل مكان على هذا الكوكب، وصار من الصعب جدا ان لم يكن من المستحيل السيطرة عليهم حتى من قبل الذين احتضنوهم قبل قرنين من الزمن. فعلينا أن نحذرهؤلاء الوافدين الينا كما نحذر الأمراض الوافدة وننبذهم، ونخبرالسلطات الأمنية بأماكن وجودهم، فهم الذين فرقونا وألبوا بعضنا على البعض الآخر. اننى لا أتهم كل رجال الدين أو المعممين، فان بعضهم من أطيب الناس، ويسعون الى جمع الشمل بدلا من التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، ولكنهم للآسف الشديد أندر من العملة النادرة.

وبسبب تلك المصائب التى حلت بالعراق فقد تغيرت نفسيات الكثيرين من العراقيين الطيبين وأصبح قتل البشر عندهم لا يختلف عن قتل البعوض، وتعودوا على السرقة والرشوة والأغتصاب، وغيرها من الأعمال المشينة التى لا يرضاها دين ولا ضمير. انقطع الكثيرون من الأطفال عن الدراسة، بسبب مقتل أولياء أمورهم وعدم وجود من يستطيع الانفاق عليهم. فنزلوا الى الشوارع للتسول والسرقة، أو للبحث عن الطعام فى النفايات، ومن يذهب منهم الى المدرسة يطالبهم المعلمون والمعلمات بدفع النقود لكي ينجحوا فى الأمتحانات، وانني أتساءل بمرارة : كيف سينشأ الطفل الذى يرى معلميه يأخذون الرشوة منه؟ لقد حصل ارتفاع كبير جدا فى رواتب الموظفين (ومن ضمنهم المعلمين) ولكن الكثيرين منهم ما زالوا يمارسون (التموين الذاتي)، متى تستيقظ ضمائرهم رحمة بهؤلاء الأطفال المحرومين من حنان الأم ورعاية الأب، ويعانون من قسوة المجتمع ويعانون أشد أنواع الحرمان وهم يعبرون مرحلة طفولتهم التاعسة؟ متى نراهم يلعبون ويمرحون كما يفعل باقى الأطفال فى العالم؟

طريق الاصلاح شاق وطويل، ويحتاج الى تكاتف وتعاون الجميع كل حسب اختصاصه ومركزه.
ان البنى التحتية والمبانى والجسور وغيرها التى دمرت بسبب الحروب وأعمال التخريب تحتاج الى بعض الوقت لأعادة بنائها، ولكننا نحتاج الى عشرات السنين لتوعية الشعب وتثقيفه وانتشاله من الهوة التى تدهور اليها منذ بداية الحرب الجنونية مع ايران قبل ما يقرب من ثلاثين عاما.


علينا أن نبدأ باصلاح أنفسنا، وعلينا أن نتذكر أولا وقبل كل شيء أن لكل انسان حسناته وسيئاته، فيجب ان نكون متسامحين مع كل أبناء شعبنا، فنذكر حسناتهم ونغض النظر عن سيئاتهم وهفواتهم، ليعود السلام والوئام والصفاء بين أفراد شعبنا المسكين المعذب، ليأخذ مكانته اللائقة تحت الشمس.

عاطف العزي

كندا