لعل واحد من اهم ملفات إدارة الصراع الإقليمي و متعلقاته هو ذلك الملف المؤجل عن موضوع تعويضات الحرب التي يطالب بها النظام الإيراني الدولة العراقية بعد إنهيار نظام صدام حسين الذي شن الحرب رسميا على إيران يوم 22/9/1980 رغم أن النظام السابق كان يعتبر إن النظام الإيراني هو من بدأ الحرب في الرابع من أيلول/ سبتمبر من نفس العام!

و ليس سرا أن ملفات تلك الحرب الماراثونية الشرسة و المنسية لم تفتح كل سجلاتها بعد للباحثين و المتعمقين في أسرار و أصول النزاعات الإقليمية و لكن يمكن القول أن جوانبا عديدة من خفايا و زوايا تلك الحرب قد باتت معروفة، فتلك الحرب كانت أحد أهم الترتيبات الدولية التي رافقت صعود الفاشية في العراق و التغيير الثوري العنيف في إيران و الذي زلزل الواقع الجيوبولتيكي للمنطقة و أفرز قوى الإسلام السياسي بتياراته المتلاطمة و المتطاحنة و التي أثارت ما أثارت في العالم العربي و العالم بشكل عام، و تلك الحرب لم تكن ضرورية و لا حتمية كما أنها لم تكن قدرا لا يمكن تجنبه بل على العكس تماما فقد هيأ النظامان العراقي البعثي الفاشي و الإيراني الديني المتحفز لتثبيت سلطة رجال الدين و من ثم البدء بتصدير ( سلعة الثورة و شعاراتها ) كل أسباب الصدام و التوتر المؤدي لإشعال فتيل الموقف، النظام العراقي بزعامته الصدامية كان يعاني من العقدة الإيرانية و تنازل نظامه عن حقوق العراق التاريخية في نهر شط العرب كثمن لإنهاء التمرد الكردي في عام 1975 وهو تنازل أضر كثيرا بسمعة ومكانة حزب البعث القومية لكون القوة العراقية لا يمكن لها أن تواجه القوة العسكرية الإيرانية في زمن الشاه الراحل و إرتباطاته القوية وقتذاك بالغرب و تصور النظام العراقي وقتذاك بأن الفرصة قد حانت مع إنهيار نظام الشاه و تحلل المؤسسة العسكرية الإمبراطورية الضخمة و المدججة بأحدث أنواع الأسلحة الغربية المتطورة إضافة للقدرة الإقتصادية و التنظيمية للنظام الشاهاني و التي كانت ستجعل العراق لقمة سائغة مع المخاطر الكبيرة الناجمة عن ذلك! و بدون شك فإنه لو قدر لنظام الشاه الإستمرار ما فكر النظام العراقي أبدا بفكرة الحرب و لتغير وجه الصراع و إدارته في المنطقة و لحقنت دماء و حفظت أموال و لتغيرت بالكامل صورة الشرق الأوسط، المهم إن إرادات دولية و إقليمية و محلية عديدة قد إلتقت جميعها لتأجيج نيران صراع كانت كل عوامله و أسبابه كامنة و لا تنتظر سوى المحفزات لإيقاظها من جديد و قد حدث ذلك فعلا بدءا من قيام النظام الثوري الإيراني الجديد بتنشيط خلاياه السرية في العراق و تقديم الدعم المفتوح للأحزاب الدينية المرتبطة بمشروعه الديني و الطائفي كحزب الدعوة و بقية التنظيمات الدينية الأخرى التي نشطت في الساحة العراقية يقابلها عنف مشدد و مبالغ به من قبل النظام العراقي الذي إتبع سياسة الإستئصال العنيفة و الإستخدام المفرط للقوة و القمع و أخذ الأخضر باليابس فضلا عن القيام بإجراءات تطهير ديموغرافية و طائفية إتسمت بالعدوانية المفرطة كانت قمتها حملات التهجير الجماعية الظالمة و الهادفة لتجفيف المنابع التمويلية للأحزاب الشيعية في قراءة غبية و غير واعية لطبيعة المجتمع العراقي المختلفة بالكامل عن طبيعة المجتمع الإيراني و قرن ذلك بحملة دعائية كاذبة لإستغلال قضية الشعب الأهوازي التحررية من أجل ذر الرماد في العيون، فإنطلقت الحرب في أيلول 1980 تحت شعارات كبرى من الجانب العراقي أهمها تحرير الأرض و المياه و البحث عن الحقوق المضافة و أجتاحت الجحافل العراقية إقليم عربستان مطبقة أسلوب الهجوم الصاعق و المباغت ووفقا لنظرية الحرب الخاطفة التي لا يمكن لها أن تنجح مع دولة مثل إيران الشاسعة الواسعة و التي حدد الخميني الراحل بنفسه خطها الستراتيجي بقولته الشهيرة عند سماعه لأنباء الدخول العرقي : الخير فيما وقع!!!

أي أنه كان يقصد بوضوح من أن نيران الحرب و غبارها ستحقق فرصة تاريخية للنظام الإيراني الجديد المتوتر و المتصارع مع ذاته و الآخرين لأن يدعم جبهته الداخلية و يرتب أموره السلطوية و يصفي معارضيه مع إعتماد أسلوب حرب الإستنزاف في جبهة الحرب وهي نقطة قوية تحسب لصالحه نظرا للكثافة السكانية و لأسلوب التوجيه المعنوي الديني للمجاميع البشرية التي تقوم بفتح حقول الألغام العراقية بأجسادها و تشن الحملات التعرضية العسكرية التي سببت خسائر بشرية كبرى للقوات العراقية غير المتعودة على مثل ذلك النمط من المعارك و بدون الدخول في التفاصيل و الجزئيات فإن نهاية الجهد العسكري العراقي الهجومي قد إستنفذ مع نهاية السنة ألأولى من الحرب و بدء إيران بحملاتها المضادة التي بدأت بفك حصار ميناء عبدان النفطي شمال الخليج العربي في أيلول / سبتمبر 1981 و تصاعدت مع عمليات ديزفول في ربيع 1982 و أنتهت بإعادة السيطرة على المحمرة في مايو 1982 و الذي أعقبه إنسحاب القوات العراقية للحدود الدولية و إنتهاء شعار ( تحرير عربستان ) في حزيران / يونيو 1982 ليبدأ فصل جديد من الحرب إتبارا من ليلة 13- 14 تموز/ يوليو 1982 بالإندفاع العسكري الإيراني في عمق الأراضي العراقية و رفع شعار إسقاط النظام العراقي كثمن لإنهاء الحرب و التي لن تتوقف إلا عند ( فتح كربلاء )!! كما كان التوجيه الستراتيجي الإيراني يؤكد..

و كما هو معلوم فقد دارت الحرب سجالا و أستمرت لستة أعوام بعد ذلك التاريخ تكبد خلالها البلدان و الشعبان خسائر جسيمة لا تحصى فضلا عن الأضرار النفسية الهائلة و الدمار الشامل الذي أحاق بالعراق و إيران و حتى المنطقة، لقد تسبب النظام العراقي السابق دون شك ببدء إشعال الحرب ميدانيا و لمدة عامين كاملين فيما يتحمل النظام الإيراني مسؤولية إستمرارها لستة أعوام مضافة ينبغي أن تؤخذ بنظر الإعتبار في حال فتح ملف التعويضات بشكل فاعل و حاسم، و رغم أن القوى السياسية العراقية الحاكمة اليوم لها إرتباطات وثيقة بالنظام الإيراني و بعضها من صنع النظام الإيراني ذاته كالمجلس الأعلى للثورة الإيرانية في العراق و الذي هو في البدء و النهاية مؤسسة إيرانية خالصة، لذلك لم نستغرب حين أعلن قبل سنوات أحد قادة المجلس المذكور عن إعتقاده بأن إيران تستحق تعويضات بقيمة 100 مليار دولار على العراق دفعها!!

و هو تبرع من لا يملك أعطاه لمن لا يستحق!!، و إذا كانت العدالة هي المعيار في تصنيف الأمور فينبغي حسبان إطالة النظام الإيراني لأمد الحرب ضمن موازين التعويضات و ساعتها قد يضطر النظام الإيراني لدفع المتوجب عليه من التعويضات لصالح العراق، لأن الشعارات الإيرانية لم تسقط النظام العراقي أبدا بل أن ما أسقطه بعد خمسة عشر عاما على نهاية تلك الحرب هو ( الشيطان الأمريكي الأكبر ) على حد تعبير النظام الإيراني!! و تلك لعمري واحدة من أغرب المفارقات التاريخية...!

داود البصري

[email protected]