قبيل عيد الفطر المبارك إجتمع السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كُردستان، برهطٍ من إعلاميي كُردستان، في لقاء يحمل دلالات واضحة، حول شعور القيادة الكُردية بخطورة الوضع، الذي هو صنيعها، وهي المسئولة عنه.
في رسالتي المفتوحة والتي نُشرت على quot;إيلافquot; قبل أشهر، إلى السيد مسعود بارزاني وضعت الإصبع على الجرح دون لف أو دوران. الرسالة نالت قبول وإستحسان شرائح واسعة، من الكُرد، حتى قامت مواقع كثيرة بإعادة نشرها.
الكاتب الصادق يجب أن ينقل صدق الكلام، وينشر الكلمة الأقرب إلى الوجدان، وليس اللجوء إلى الإحتياط (خط رجعة)، ليقول بعض الحق مغلّفاً بالزيف والتملق والإنحناء، لأهداف شخصية ومؤقتة!


لقد قام بعض الكتاب الكُرد الشجعان، مشكورين، بنشر مقالات كثيرة حول الفساد في كُردستان. ومن ضمن ذلك رسائل موجهة إلى هذا القيادي أو ذاك، يشرحون فيها بالأدلة، الفساد والظلم الكبيرين داخل سلطة أهملت الشعب، حتى سارت في مسارٍ معاكسٍ لمسرى الشعب، فأمست المسافة بينهما بعيدة إلى حيث أدرك السيد مسعود بارزاني أخيراً، أن هذه المسافة شاسعة وخطيرة!
هل أدَلُّ على ذلك من إمتناع الشعب في الإقليم من تسجيل أسمائهم للإنتخابات، سوى بضعة آلاف تحت التهديد والوعيد؟!

بدا السيد مسعود بارزاني حزيناً، وقلقاً في الإجتماع المذكور. لذلك فإن المحصلة في ما ذهب، كانت عدة مطالب من الإعلاميين، إقتصرت في جلّها على:
أولاً الإمتناع عن نشر ما يسئ للسلطة الكُردية، خصوصاً بغير اللغة الكُردية، كما أشار السيد بارزاني، أن quot;الأعداء في راحة بال لأن كتّاباً كُرد يتولون مهمة تشويه السلطة الكُرديةquot;!
ثانياً أن يقوم الإعلامييون بعملية المصالحة بين الشعب والسلطة. كيف؟
ربما بتغيير الهجوم إلى الولاء والتصفيق، والكف عن نشر الغسيل الحزبي والسلطوي!
ثالثاً في معرض الحديث عن الفساد، وعد السيد رئيس الإقليم، بتشكيل لجنة للبت في ملفات الفاسدين، وإحالتهم على القضاء، حتى لو كانوا من أقربائه، كما صرّح لأول مرّة بهكذا تصريح!!
أنا على يقين أن السيد بارزاني على علمٍ تام بالفساد ومنبعه ومسئوليه. ولكن للإطمئنان نقول له بقول الشعب والشارع الكُردي:
من فضلكم، ومن أجل التعرف على الفساد، أنظروا إلى مكتبكم، ثم ابتعدوا قليلاً إلى خارج قصر الضيافة، وأنعِم النظر قليلاً في المبنى، ثم على بعد أمتار التفتوا إلى كراج سياراتكم الفارهة، ومن ثم على بعد مئات الأمتار إلى قصوركم المزدانة التي تكتسي بها منطقتي سَري رَش، وصلاح الدين من على الجبال المطلة على سهل مدينة أربيل.


ومن ثم إذا كان في الإمكان أن تخطفوا سويعات من الوقت الرئاسي، وفي موكبكم الفخم، أن تطلوا بالنظر إلى قصور وفنادق وشركات أتباعكم، على طول الخط من القصر الرئاسي وإلى مدينة أربيل، مروراَ بمصيف سَري رَش وصلاح الدين وخانزاد.
بعد ذلك إذا كان في إمكانكم، أو إذا رغبتم القيام بالتجوال في أحياء ومناطق أربيل، لتروا البؤس والحرمان والفقر والجوع!
قد يكون مقبولاً أن تمتلكوا القصور والسيارات الفارهة وأموالاً كثيرة، ولكن أن يبلغ الأمر إختلاس معظم الميزانية، في وقت يتضور الشعب جوعاً، ففي ذلك نظرٌ كثير!


لأن المسئولية هنا ليست مرحلية، أو آنية، بل تتعدى إلى مسئولية تأريخية تمتد إلى الأجيال المستقبلية.

ليس من الإنصاف تحميل السيد مسعود بارزاني معظم المسئولية، ولا حتى جلّها. فالسلطة في كُردستان في الإطار العام تنقسم إلى قسمين، أحدهما بإدارة الإتحاد الوطني الكُردستاني، والآخر مقيّد في يد الحزب الديموقراطي الكُردستاني.

داخل الحزب، السلطةُ منقسمةٌ بين كتلٍ في عمليةِ توازنٍ متشابكة ومعقدة. إذن حتى هنا فإن السيد مسعود بارزاني لا يملك سلطات مطلقة!


والسبب أن السيد بارزاني في سلطته إعتمد على الحاشية، وهي بدورها منقسمة الولاءات بين الشخصيات في العائلة والحزب، ومراكز القوى في العشيرة.
والعلة هنا في تورط السيد مسعود بارزاني وعجزه في آن، في حل هذه الأزمات والمعضلات المتراكمة، هي عدم إعتماده على الشعب، وإنما على مراكز القوى الصغيرة التي انضوت تحت لواءٍ واحد، وفق توازن في المصالح. وبالطبع نعرف أن التوازنات تفرض المساومات، وحلول الوسط لإرضاء الأطراف. ومن هنا يصبح الشعب الضحية الكبرى.
تمر الأيام وتتراكم المآسي، وتتسع الهوة بين الشعب والسلطة في عملية تجاذب مريض ومزمن، في ظل سلطة الكُتل والأجنحة وتقاسم الخيرات!

قد يسأل سائل كيف لا يدرك شخصٌ مثل السيد مسعود بارزاني، وهو سليل عائلة مناضلة لمدة قرن، هذه المعادلات، لتجنُّب الوقوع في المحظور فالهلاك؟!
الجواب في رأيي المتواضع، يكمن في ثلاثة مسائل:
أولاً: عدم قراءة التأريخ، ودراسة أوضاع السلطات والممالك الماضية، لإستنتاج الدروس والعبر. أي كما قلنا سابقاً في مقالات كثيرة، غلبة الإرتجال والعفو في إدارة الحكم ودفة السلطة.
ثانياً: شهوة السلطة. فالسلطة عمياء تبدو أول وهلة كفتاة جميلة تجذب الأنظار، ما إن بدا وجهها الحيقي حتى كانت عجوزاً شمطاء. هذا هو واقع حال اللاهثين وراء بريق السلطة!
ثالثاً: إهمال الشعب الذي هو مصدر السلطات. إن التعامل مع الشعب معاملة فوقانية أمرٌ خاطئ، عمل به جميع السلطات الفاشلة في التأريخ. قد تطول مدة هذه السلطة أو تلك، لكن حتفها وخيمٌ حين تهمل الشعب وتجعله رقماً معطلاً في حسابات الإدارة والسلطة.
هذا النوع من الحكم، كما هو معروف، حكم هرمي، وإستبدادي مشين. ومن طبائعه النفاق الذي يستحكم بعمود فقره منذ البداية. فالطبقات الدنيا تتعامل مع التي تعلوها بالخوف والكذب. أي أنها تزيّف الحقيقة وتقدم المشهد بطريقة كاذبة. أما الطبقات العليا، فبدورها تتعامل مع التي تدنو منها بالخوف من إنقلاب ولائها. لذلك تفتح باب العطاء بوجهها، بل وتتغاضى عما ترتكب من ظلمٍ وفحش بحق الشعب والوطن!

وكلما مضت الأيام والسنين، أمسى المرض أكثر استعصاءا على العلاج. وخير دليل على ذلك هو واقع كُردستان.
فقول السيد رئيس الإقليم بتشكيل لجنة، للتحقيق مع الفاسدين، قولٌ جميل ولكن هل يملك المصداقية على أرض الواقع؟!
بالطبع فالشك هنا ليس عائداً إلى صدق نية السيد بارزاني، بقدر ما هو إثارة السؤال والإستفسار عن إمكانية هذا الأمر بشكل حيوي في الواقع.

إن أي لجنة مهما كانت قوية، لن تبلغ سلطتها سلطة السيد مسعود بارزاني نفسه. لذلك ففي أي تحقيق أو محاولة عليها العودة إلى سلطة عليا وقوية، تقدر على تطبيق الفرمان القانوني.
القضاء في كُردستان ليس في طاقته إجراء ذلك، لأن المجتمع ليس مدنياً تحكمه سلطة ديموقراطية وقانونية.
هناك أيادي، ومراكز، وشخصيات متنفذة وذات دعم قوي من قبل جهات كثيرة. هناك طبعاً كتل داخل الحزب، وأجنحة عائدة لشخصيات قوية، وقبائل وعشائر ودوائر مختلفة!
إن السيد بارزاني اليوم يدفع ضريبة سبعة عشر عاماً من الإهمال، والسياسة الخاطئة!
إن السلطة المحكومة بالرؤى والأهداف الإستراتيجية للشعب، لا تعتمد على الشلل الإنتهازية والجاهلة!
إن السمة البارزة للحزب الديموقراطي، التي تتحدث عنها الدوائر الثقافية والشعبية في كُردستان، هي وجود مستشارين جهلاء ومستغِلين، حول هذا القيادي أو ذاك!
وفوق ذلك وجود طبقة مسئولة، يقف الجهل أمامها بدهشة، لأنها تخطته!
إن قول السيد رئيس الإقليم، أنه لم يقرأ حتى الآن مقالاً يضع الإصبع على فساد ما، ويطرح الحل، قولٌ غريب جداً، وثقيلٌ على الهضم.
هنا يجب أن نسأل: أوَصلَ الأمرُ إلى هذا الحد، أن لا ينتبه رئيس سلطة عما تكتب صحافة بلده؟!
شخصياً قرأت مئات المقالات باللغة الكُردية في صحف هاولاتي، ميديا، آوينه، روداو، التي تبت في قضايا عامة وخاصة، خطيرة وحيوية، لكنها لم تلق أي إستجابة من لدن سلطة الإقليم.
قرأت الكثير في صحف أخرى ومواقع مشهورة مثل كوردستانبوست، ولكن هل قامت السلطة بتقصي الحقائق؟!
إذا كان السيد مسعود بارزاني يريد القضاء على الفساد، ينبغي أن لا يبحث عن المصالحة مع الشعب، والبحث عن الوسطاء. فهذا زيفٌ ومضيعة للوقت!
إن الطريق الوحيد لذلك، هو أن يأتي بنفسه ويختار صف الشعب ويقف على رأسه، ثم يواجه عائلته وعشيرته وحزبه، ويبدأ بمحاسبتهم!


بهذا لن يخسر السيد بارزاني عائلته أو حزبه، بل يكسبهما معاً، بحكمة وعقلانية. ولكن لا مفر من إجراء عملية كبرى. فالمرض الخبيث يجب إستئصاله، وإلا سيقض على البدن كلّه!
إن الشعب الذي كان يكنّ له ولعائلته المحبة والإخلاص، قبل عام 1991، لن يخذله إذا اختار السيد مسعود بارزاني صفه وآلامه ومطاليبه!


وليست بين هتين الضفتين منطقة وسطى، إلا الضياع والإستمرار في الإنحدار نحو السقوط!
إذا أردتم إنقاذ الوضع، وتسجيل صفحة مشرقة للمستقبل، فعليكم إختيار الشعب، وترك حاشية السلطة!
لأن الشعب الذي ناضل لعقود طويلة، وقاوم الموت المحقق والظلم والمآسي، يقدر أن يصنع مئات الحواشي للسلطة إن كانت في خدمته!
وفي التأريخ دروسٌ وعبر!

علي سيريني