يقول أحدهم: quot;العلم بحر فلماذا لا ينشغل علمائنا بما هو أهم بدلاً من مواضيع ميكي ماوس!quot;.. ويقول الأخر: quot;لماذا يهتم العلماء بالجزئيات وينشغلوا عن الكليات!quot;.. وهذان القولان وغيرهما تتردد على ألسنة كثير من الناس حتى إذا سمع أحدهم أو سمعت إحداهن عالماً يطرق باباً من الأبواب أو يتكلم في حاجات الناس ألجموه بهذه العبارات وقصفوه بها وكأن لسان أحوالهم يقول للعلماء: quot;هذه مناطق نفوذكم ومجال تحركاتكم فلا تقربوا ما ليس لكم!!quot;.. وينسى هؤلاء أنّ العلماء مؤتمنون على طرق أحوال الناس والإجابة على تساؤلاتهم وشرح مسائلهم صغيرة كانت أم كبيرة، إذ لا مجال لتصريف المسائل الصغيرة والتركيز فقط على تلك المسائل الكبيرة التي يقصدها أولئك القوم!!.

وجدلاً، لو افترضنا صحة الأقوال التي تُحرّم على العلماء طرق المسائل الصغرى والتركيز على المسائل الكبرى والأهم!!، فما هو الضابط لهذه المسألة؟.. بمعنى ماهي حدود المسائل الصغرى وتلك المسائل الكبرى؟.. وما هي ضوابط هذا التصنيف وأسسه حتى يفهمها العلماء ويلتزموا بها، وحتى نفهمها نحن عامة الناس فلا نُشغل أوقات العلماء بطرقها أو بذكرها احتراماً لمشاعر تلك النخبة من المعترضين والمُتحفظين؟.. وهل يمكن تصنيف نجاسة الفأرة على أنها من المسائل الصغرى والصلاة على أنها من المسائل الكبرى؟.. نظرياً وعملياً نعم فلا مجال للمقارنة بين المسألتين، فالصلاة عماد الدين ومن دونها لا تقبل بقية الأعمال.. ولكن مهلاً.. ومن يفي بحاجات الناس حين يسألون عن نجاسة الفأر؟.. وما هي الجمعية أو الجمعيات ndash; المحلية أو الأممية ndash; التي يمكن توجيه الناس لها للتعامل مع المسائل الصغرى؟.. إننا حينما نلتزم هذا المنهج فكأننا نُخاطب أيضاً الأطباء ونقول لهم لا تهتموا بتلك الأمراض الصغيرة والتافهة فأوقاتكم أثمن منها، وعليكم بأمراض القلب والسرطان والكلى وغيرها والتي تأتي في مرتبة أعلى وأجلّ!!.


لا مجال للتهميش في المسائل الشرعية ndash; كما هي المسائل الطبية ndash; وحين نسأل عالماً من العلماء عن مسألة شرعية صغيرة كانت أم كبيرة فلا مجال لهذا العالم إلاّ التعامل معها والإجابة عليها لأنها تتناسب وأخلاقيات العالم الذي يملك العلم الشرعي ويوضحه للناس للتسهيل عليهم في أمور دينهم ودنياهم.. وحينما يرفض عالم من التعامل مع هذه النوعية من المسائل التي نحسبها صغيرة أو تافهة فإنه في منزلة الطبيب الذي يرفض التعامل مع الأنفلونزا أو الكحة أو غيرهما من الأمراض البسيطة!!..

يجب أن نُدرك أنّ الناس يتفاوتون في حاجاتهم وفي همومهم وأمزجتهم.. فهناك من يسأل عن أحكام الصلاة وشروطها، وهناك من يهتم بالكسب الحلال ومجالاته، وهناك من يسأل عن نجاسة الكلب والخنزير، ورابع يستفسر عن شروط المسح على الخفين.. وهكذا هي الفتاوى.. إنها تُلامس حاجات الناس اليومية وتتلمس مشاكلهم وتتعامل معها بغض النظر عن تصنيفاتها أو درجات استيعابها من عامة الناس ومثقفيهم.. ولا يليق أبداً أن نحجر على العلماء ونُلزمهم بطرق مجالات معينة بدعوى أهميتها وتنجب مجالات أخرى أقل!!.

نعم يمكن توعية الناس على ضرورة تجنب طرح المسائل الافتراضية التي من الصعب أن تحدث في واقع الحياة، وهي مسائل شبيهة بسيناريوهات بعض المسلسلات العربية التي من أن يبدأ المسلسل وحتى ينتهي والفكرة من وراءه لم تصل!!، أو أن يكون في تفاصيل هذا المسلسل أحداث خيالية نادرة الوقوع!.. وأعجبتني قصة سمعتها عن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ndash; أو غيره لا أذكر ndash; حينما كان يجلس للإفتاء في الحرم في شهر رمضان، وكان الناس يتدافعون للسؤال.. فكان رحمه الله حين يسأله سائل في مجلسه مسألة فقهية فيها تعقيدات أو تشعبات قد تستهلك وقتاً البعض أحوج إليه، كان يسال هذا السائل هل وقعت لك هذه المسألة أو أنك تعانيها؟.. وحين يكون الجواب بالنفي، يطلب منه الشيخ الانصراف فإذا وقعت تلك المسالة الافتراضية فيمكنه وقتها سؤال الشيخ أو غيره عنها.. وهذا من حكمة العالم وتقديره لظروف الناس من حوله ومراعاة حاجاتهم وأوقاتهم.

أختم مقالي بضرورة احترام العلماء وتقديرهم واحترام تخصصاتهم كما نحترم غيرهم من شخصيات المجتمع ومثقفيه كالأطباء والأدباء والمهندسين والوزراء ونحترم تخصصاتهم.. فهم يحملون رسالة وأمانة.. ولا يجوز التعدي على أقوالهم أو اختصارها أو استقطاعها للنيل منهم وتجريمهم.. فالعلم الشرعي تخصص كغيره من التخصصات له مكانته وله علومه التي تحتاج إلى دراسة ودراية وفهم.. وأعجب من البعض حين لا يملكون الجرأة لتجاوز أقوال الأطباء، والوقوف عندها احتراماً لها وتقديساً لأصحابها، ولكنهم يتجرءون على العلم الشرعي ويقفزون أسواره ويتجهمون أسراره دون فهم أو وعي أو احترام لما قال الله أو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقبل الله صيامنا وصيامكم.. وكل عام وأنتم بخير

الدكتور خليل اليحيا

المشرف العام على الملتقى السعودي في أمريكا
[email protected]