حرت وحار معي جميع مشاهدي القنوات الفضائية من متابعة هذا الكم الهائل من المسلسلات الرمضانية التي جاوزت الستين خلال الشهر، ولم أدر كيف أنتقي بضعة منها وأوزعها على أوقات الفراغ المتيسرة لي بعد الإفطار. ولكني إهتديت الى حل وسط بأن أطيل السهر حتى ساحات السحور، فما أطال النوم عمرا، ولا قصر في الأعمار طول السهر، على حد قول الشاعر..
ولعل من محاسن القنوات الفضائية أنها تعيد عرض تلك المسلسلات في وقت متأخر بعد منتصف الليل، ومع ذلك فلم ألحق سوى بمطاردة حلقات بعض تلك المسلسلات، وفاتني الكثير منها، فلم أتمكن سوى من متابعة مسلسل ( أبو جعفر المنصور) الذي كان مسلسلا رائعا لولا تلك الإضافة غير الضرورية لسياق المسلسل بشتم الشعب الكردي على لسان المهرج ( ابو دلامة )،عند تمثيله لدور أبو مسلم الخراساني الذي قتله الخليفة العباسي المنصور غدرا بعد أن قامت الدولة العباسية على أكتافه، والذي يقول فيها:
أبا مجرم ما غير الله نعمة على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدرة ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
وأبو مسلم بالمناسبة ليس كرديا، بل نسب زورا الى الشعب الكردي من قبل مؤرخي الدولة العباسية، وما أدراك من هم مؤرخو تلك الدولة من المزورين والكذابين وكتبة السلطان، وكان بالإمكان حذف تلك العبارات المشينة التي أطلقها هذا المهرج إحتراما لمشاعر الملايين من أبناء الشعب الكردي، وليس من أجلي أنا أحد المناصرين للتعايش الأخوي والمصيري بين الشعبين الكردي والعربي، وكتاباتي تؤكد على ذلك.
وتابعت أيضا مسلس ( ناصر) الذي وثق بدوره لفترة تاريخية عصيبة في حياة مصر، وكان بدوره مسلسلا ناجحا، ولكني أخذت عليه ايضا تلك المبالغة في إظهار الجوانب الإنسانية المفرطة من حياة هذا الزعيم الكبير،ومحاولة تبرئة فترة حكمه من النهج الدكتاتوري، وقد إمتلاءت سجونه بالمعارضين لنظامه، وإستفرد بالحكم دكتاتورا مانعا لنشاط معظم الأحزاب المصرية خلال تلك الفترة.
كما تابعت المسلسل العراقي ( الباشا) الذي يوثق لأول مرة لحياة أحد أبرز زعماء العهد الملكي وهو السياسي المخضرم نوري السعيد الذي طبعت شخصيته كل فترة الحكم الملكي في العراق قبل تشكيل المملكة العراقية الى حين سقوطها في ثورة 14 تموز.
ويعتبر هذا المسلسل الكبير أحد أهم الأعمال الدرامية العراقية بنظري، ولعله يكون أكبرها ضخامة من خلال حشد هذا الكادر الفني له، وهذا يبشر بخير وفير على الدراما العراقية التي كانت تعيش خلال العهد الدكتاتوري السابق في الحضيض، بإستثناء بعض المسلسلات القليلة التي كان مؤلفوها يحذرون جدا من الإقتراب من تمجيد الرموز العراقية خوفا على رقابهم، فمصادرة حق التعبير، وكبت الحريات بكافة جوانبها الإنسانية والفنية والإعلامية التي طبعت فترة حكم الدكتاتورية، حالت دون خروج الطاقات العراقية الفنية من مكامنها، فكان العراق في ذيل قائمة الدراما العربية بسبب إفتقاده الى عنصر حرية التعبير في العمل الفني، على عكس سوريا التي كانت تحكمها أيضا طغمة دكتاتورية بعثية، ولكن أعمال دريد لحام ومحمد الماغوط كانت تنفس عن الكثير من هموم ليس الشعب السوري فحسب بل الشعوب العربية برمتها.
أنا لست ناقدا فنيا لأبين مكامن النجاح والفشل في مسلسل الباشا العراقي، ولست أيضا بمعرض تقييم المسلسل ككل، لأن ذلك خارج عن إختصاصي ككاتب، ولكني أعتقد أن لي الحق في إبداء بعض الملاحظات على قصة المسلسل والمصادر التي إعتمد عليها المؤلف، لأنني أعتقد بأن كاتب المسلسل تغافل عن الكثير من الأحداث المهمة التي وقعت أثناء الفترة التي عرضها المسلسل، وهي فترة تاريخية مهمة لأنها شهدت مخاضات نشوء الدولة العراقية الحديثة، ومن ثم سقوط الملكية وتأسيس الجمهورية، ولا أدري هل أن المؤلف تعمد المرور عليها بالكرام، أم أن مصادره لم تسعفه في توثيق تلك الأحداث؟.
ففي الحلقات الأولى روى المسلسل تفاصيل إلحاق ولاية الموصل بالعراق،وكانت معاهدة ( لوزان) تنص على تحويل قضية ولاية الموصل الى عصبة الأمم لإتخاذ قرار حول تحديد مصيرها، وكان الملك ونوري السعيد يبذلان جهودا جبارة لضمان ضم تلك الولاية بالعراق، وشاهدنا في المسلسل أن نوري السعيد حاول كثيرا إستمالة أبناء الولاية لصالح الإنضمام الى الدولة العراقية الجديدة، ولكن كاتب المسلسل أغفل دورا محوريا بالغ الأثر لأحدى الشخصيات الكردية الكبيرة في كردستان وهو المفتي الكبير الملا أفندي الذي كان أبرز الزعماء الدينيين في كردستان ويمتد نفوذه الى دول الجوار والمنطقة لمكانة عائلته المعروفة في تاريخ المنطقة، فقد لعب هذا الرجل الدور المحوري والأبرز في ضم ولاية الموصل بالدولة العراقية، ولولاه لما تحققت تلك النسبة الكبيرة من قبول سكان الولاية بالإنضمام الى العراق، فهو الذي بذل جهدا كبيرا مع وجهاء كردستان وأبناء الشعب لإقناعهم بالإنضمام الى العراق.
ويروي الكاتب الكردي إحسان المفتي في مقال له بجريدة ( بدرخان ) الكرديةquot; أن الملك فيصل الأول زار في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني من عام 1924 الملا أفندي في مدينة أربيل، ورغم أن الزيارة كانت في ظاهرها، زيارة مجاملة وتجديد للعلاقة بين الأسرة الملكية وأسرة المفتي في أربيل،ولكنها في الجانب الآخر لم تخل بالطبع من أهداف سياسية.
فكما هو معروف فإن الإنكليز كانوا قد سيطروا على ولاية الموصل من دون أي قتال، فعندما وصلت طلائع قواتهم الى قرب حمام العليل، كان الجيش التركي على وشك إستكمال إنسحابه من الموصل تماما،وبذلك فقد إنفرد الأنكليز بالولاية، ومدوا حدودها نحو سلسلة جبال حمرين ومكحول، ولكن معاهدة لوزان نصت بعد ذلك بأن تحول قضية الموصل الى عصبة الأمم لإتخاذ قرار بشأن تحديد مصيرها.وهكذا تشكلت لجنة من عصبة الأمم للتحقق من رغبة سكان الولاية تمهيدا لإتخاذ القرار المناسب بشأن تحديد مصيرها. وطرحت اللجنة أمام جماهير كردستان خيارين، إما الإبقاء على ولاية الموصل ضمن السيادة التركية، أو إلحاقها بالدولة العراقية الجديدة؟. وجاءت هذا اللجنة الى كردستان في بداية عام 1925، ومكثت فيها لأكثر من ثلاثة أشهر للتحقق من رغبة السكان. لذلك إكتسبت زيارة الملك فيصل الى أربيل أهمية خاصة وبالغة الأثر، لأنها جاءت قبل وصول الوفد الأممي الى كردستان في مسعى منه لإقناع الشعب الكردي باللحاق بالعراق.وقد تحقق ذلك بعد لقاء الملك بالملا أفندي، فقد صوت الكثير من رؤساء العشائر وسكان المدن والمناطق الكردستانية تحت تأثير نفوذ الملا أفندي لصالح الإنضمام الى العراقquot;.
وأثناء عرض المسلسل لإحداث مايس عام 1941المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، عندما طلب الكيلاني في جلسة للبرلمان العراقي تنحية الوصي عبدالاله خال الملك فيصل الثاني عن الوصاية، لم يكن يرغب في قتل الملك فيصل وعائلته، لذلك أرسلهم جميعا الى أربيل تحت حماية عسكرية مكثفة.
ويروى عزالدين الملا أفندي في جزء من مذكراتهquot; أن رشيد عالي الكيلاني إتصل بوالدي قبل يوم ليوضح له أسباب إرسال العائلة المالكة إليه، وأبلغه أنه سيتصل بقائد حامية أربيل ومتصرف اللواء ليكونوا تحت إمرة الملا أفندي وإرشاداته عند تعاملهم مع الملك فيصل الثاني وعائلته. وهكذا وصلت العائلة الملكية يوم 28 /5/1941 الى كركوك عن طريق القطار، ومن هناك إستقلوا السيارات الى أربيلquot;.وقبل وصولهم أخلى الملا أفندي قصره في باداوة لإقامة العائلة السامية، وأبقى فقط على عدد من الأشخاص لخدمتهم. وإحتد الملا أفندي بشدة على آمر حامية أربيل عندما أراد أن ينقل العائلة الماكة الى داخل معسكر أربيل.
ويتحدث عزالدين الملا أفندي عن قلق العائلة المالكة أول الأمر ويقول quot;بعد وصول العائلة الملكية الى أربيل، توجهوا الى قصر باداوة عبر طريق ترابي غير معبد، وشعروا بقلق بالغ على حياة الملك الصبي فيصل الثاني من محاولة غادرة لقتله، فقد كانت الأجواء مشحونة في تلك الفترة بالعراق.وكانت العائلة الملكية التى وصلت الى باداوة مؤلفة من، الملكة عالية ونجلها فيصل الثاني، والملكة الأم نفيسة، وشقيقات الملكة عالية والأميرات عابدة ومليحة وجليلة، وخالة الأميرة صالحة، ومرافقهم عبدالوهاب عبداللطيف السامرائي، وكذلك المقدم صالح زكي الذي أشرف على موكب العائلة الملكية في سفرها الى أربيل، بالإضافة الى مجموعة من الخدم المرافقين للعائلة.ورغم مشروعية قلق الأم الملكة على إبنها الوحيد، ولكن لم يكن أحد ليجرؤ في تلك الفترة من الإقتراب من الملك فيصل، أو مس شعرة منه، لأنهم كانوا تحت حماية الملا أفندي، وما أدراك من هو الملا أفندي بشخصيته القوية والنافذة ليس في أربيل وحدها بل بالمنطقة عموماquot;.
ويستطردquot; أمضت العائلة اسبوعا كاملا في قصر الملا أفندي بقرية باداوة آمنة مطمئنة، وكانت الأخبار تأتيهم عبر الراديو فقط. وبعد إخماد حركة الكيلاني وهروبه هو وقادة الحركة الى خارج العراق، وعودة الوصي عبدالاله الى بغداد، إتصل الوصي هاتفيا بالعائلة المالكة وأبلغها بالبشرى. وكانت الأسرة الملكية طيلة وجودها في قصر الملا أفندي تتشح السواد، ولكن بعد أن زف الوصي البشرى إليهم إرتدوا الملابس الزاهية الملونةquot;.
أما عن شخصية نوري السعيد في المسلسل فأعتقد أن المؤلف بالغ كثيرا في تصويره على الهيئة التي شاهدناها في المسلسل، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هوquot; إذا كان الباشا مخلصا للعراق الى هذا الحد الخيالي، وإذا كان سيادته كالحمل الوديع والملاك الطاهر الذي يرفض حتى التوسط لإبنه صباح في مركز للشرطة، فلماذا قطعه العراقيون إربا إربا بسحله في شوارع بغداد، ولماذا كانوا يصفونه بالعميل للإنكليز؟..ولا أدري ما سبب إغفال أحداث نشوء حلف بغداد على يد نوري السعيد، وهو الحلف الذي هدد وأرعب الكثير من البلدان العربية؟؟!!.
أنا عن نفسي أحترم هذه الشخصية السياسية الكبيرة الذي ترك بصماته الواضحة على تاريخ العراق، ولعلي أصل معه الى درجة الإعجاب به، لنزاهته وطهارة يده وبساطته، حتى أنني سمعت أنه كان في الصباح الباكر يقف في طابور المخبز في محلته مرتديا بيجامته المقلمة ليشتري بعض الأرغفة لعائلته، وهناك الكثير والكثير من محاسن هذا الرجل يروى هنا وهناك، ولكن الباشا أيضا كان إنسانا، يخطيء ويصيب،وقد كان في كثير من الأحيان محتدا برأيه منفردا في حكمه، معروفا بألاعيبه السياسية، خصوصا تدخلاته في ترشيح الوزراء وفرض النواب، وهذا طبعا سمة من سمات الدكتاتورية التي تبغضها الشعوب.
كما أنه من المعروف أن نوري باشا بدأ حياته السياسية من داخل الجيش،وهذا يعني أنه لم يكن مبرئا من التسلط على الآخرين بل وقمع آرائهم، ولكننا رأينا في المسلسل قائدا عسكريا يحكم العراق بكل شفافية وديمقراطية وإحترام لسيادة القانون، وهذا لا يوافق بإعتقادي مع ما نعرفه وخبرناه عن القادة العسكريين عندما يحكمون البلدان الشرقية؟؟!!.
المهم يبقى أن المسلسل حقق نجاحا كبيرا في المتابعة، وسيشكل نقطة تحول مهمة في تاريخ الدراما العراقية الذي نأمل أن يستمر في تحقيق نجاحات تالية، فهناك الكثير من الشخصيات السياسية والثقافية التي تشكل رموزا للعراق يجب أن توثق سيرهم بعد حرمان العراقيين لسنوات طويلة تحت ظل الدكتاتورية من التعبير عن تقديرهم وإحترامهم لعطاءات تلك الشخصيات التي تركت بصماتها الواضحة ليس على تاريخ العراق فحسب بل وعلى تاريخ المنطقة أيضا.
شيرزاد شيخاني
التعليقات