quot;إن العمليَّة انتهت بنجاح، وتمَّ سحب القوات بالكامل. وإن هدفها كان القضاء على 300 من عناصر العمال الكردستاني، المتمركزين في وادي الزاب وحوله. وقتل 240 منهم، وهرب الباقون. وإن الجيش التركي، لم يواجه أيَّة مقاومة في تلك المنطقة، ما جعل القيادة العسكريَّة تقرر الانسحاب، تفادياً لهجمات انتقامية، في ذلك المكانquot;. هذا ما كان قد جاء في البيان الصادر عن هيئة الأركان التركيَّة العامَّة، المنشور على موقعها الالكتروني يوم 28/2/2008، والذي أعلن فيها انسحابه من أراضي الإقليم الفيدرالي الكردي العراقي، عقب اجتياحه له يوم 20/2/2008، بحجة تصفية معاقل حزب العمال الكردستاني. وأكد البيان المذكور، أن الانسحاب لم يكن نتيجة أيَّة ضغوط. وأن العمليات العسكريَّة ستستمر ضدَّ الكردستاني، وأن quot;عيون الجيش ستبقى مفتوحةquot; على تلك المناطق. quot;إن حزب العمال الكردستاني على وشك الانهيارquot;. وهذا ما قاله الجنرال إلكر باشبوغ، قبل أسبوعين، أثناء زيارته لمدينة ديار بكر، كبرى المدن الكرديّة، جنوب شرق تركيا، بعد استلامه لمنصبه الجديد كقائد لهيئة الأركان العامّة التركيّة.
ما لا يقبل الجدل، أن حشد أكثر من 100 ألف جندي على الحدود التركيَّة _ العراقيَّة في تموز 2007، وكل الجولات التركيَّة، والمساعدة الأمريكيَّة _ الإسرائيليَّة للاجتياح التركي السابق، والموافقة الضمنيَّة الكرديَّة والعربيَّة العراقيتين عليه، لم يكن لأجل القضاء على 300 مقاتل كردي، متحصِّنين في وادي زاب، بحسب بيان هيئة الأركان التركيَّة ذاك. وإن أخذنا هذا الكلام على محمل الجد، فهذا يعني أن هذه الحرب المشتركة، المدعومة بأسلحة حديثة وتقنيَّة عاليَّة، ربما كانت للقضاء على 300 مقاتل من العفاريت والمردة!، وقد تكللت بـquot;الظفر والنجاحquot;!. بدليل، ارتفاع وتيرة الاشتباكات بين مقاتلي الكردستاني والجيش التركي ضمن الأراضي التركيَّة، لتشمل كافة مناطق كردستان تركيا، لتصل حتى مناطق البحر الأسود. وآخرها، الهجوم الصاعق الذي شنّه مقاتلوا الكردستاني على ثكنة عسكريَّة في قرية (بيزاليه/ آكتوتون)، تضمّ أكثر من 300 جندي وضابط تركي، في منطقة شمذينان في محافظة هكاري، في المثلث الحدودي التركي _ العراقي _ الإيراني، يوم 3/10/2008.
وبحسب بيان هيئة الأركان التركيَّة، فقد قتل 15 جندي تركي، وجرح 20 آخرين، إلى جانب فقدان 23 مقاتل كردي لحياته. على الطرف الآخر، جاء بيان قوات الدفاع الشعبي الكردستاني HPG (الجناح العسكري للعمال الكردستاني)، مناقضاًَ لما ذكرته هيئة الأركان التركيَّة، حيث جاء فيه: quot;أن المقاتلين الكرد سيطروا على التلال المحيطة بالثكنة، وقتلوا الجنود المتحصنين عليها. ثمّ بدأوا الهجوم على الثكنة. وتمّ قتل أكثر من 62 جندي وضابط تركي، وجرح 30 جندي. وإصابة حوَّامة عسكريَّة تركيَّة. وأن بعض الجنود الأتراك قتلوا بنيران تركيّة، عن طريق الخطأ، نتيجة حالة الارتباك الحاصلة وضراوة الاشتباك. وتمّ تدمير الأسلحة الثقيلة الموجودة في الثكنة، وأخذ البعض منها. وسقط 9 من المقاتلين الكرد في هذا الهجومquot;. وذكر الكردستاني في بيانه: quot;أنه صوّر هذا الهجوم كاملاً عن طريق كاميرات فيديو. وسينشر الصور لاحقاًquot;. في حين لم تنشر السلطات التركيَّة صور الـ23 مقاتل الذين قضوا في هذا الاشتباك!. ومع ورود معلومات تشير إلى وجود 9 جثامين فقط في مشفى شمذينان (شمنديلي)، إلى جانب حجم الهيجان والغضب التركيين، يتضح أن بيان العمال الكردستاني هو الأقرب للتصديق من بيان هيئة الأركان التركيَّة.
والجدير بالذكر هنا، أن هذا الهجوم، هو الخامس من نوعه على هذه الثكنة. وكان الهجوم الأول في 12/9/1992، قتل فيه 22 جندي تركي. وفي المرّة الثانية كان في 5/6/2000، وقتها، لم يعترف الجيش التركي عن سقوط ضحايا. والهجوم الثالث كان في 22/7/2007، واعترف الجيش التركي بمقتل جندي واحد فقط. والهجوم الرابع كان في أيار الماضي. وصوَّر المقاتلون الكرد هذا الهجوم، وقتل فيه، بحسب بيان الكردستاني 29 جندي تركي، واعترف الجيش بمقتل 6 جنود فقط. أمَّا الهجوم الخامس الذي دمّر الثكنة، فكان في 3/10/2008.
الإعلام التركي، جنَّ جنونه لهذا الهجوم، وبدأ يعزف على الوتر القومي، وتشحين الشارع التركي باتجاه النزوع العنصري ومعاداة الكرد في تركيا، والمطالبة بالثأر والانتقام من الأكراد والكردستاني. وجاءت تصريحات المسؤولين العسكريين والسياسيين الأتراك، تتوعّد بالويل والثبور، والردّ القوي والشديد على هجوم العمال الكردستاني.
تحالف باشبوغ _ اردوغان، كان عاقداً العزم على المضي في الحلول العسكريّة للملفّ الكردي في تركيا. وعليه، فتعاطي أردوعان مع الملف الكردي وفق قرار العسكر، كان أحد أبرز الصفقة التي تمّت بينه وبين الجنرالات. كما ان البرلمان التركي، كان يتجه نحو التصويت على إعادة منح التفويض للجيش التركي بغية القيام بعمليات عسكريَّة داخل كردستان العراق. وعليه، فهجوم الكردستاني، لم يكن السبب في إعادة إطلاق الحكومة يد الجيش التركي في الإقليم الكردي. على العكس من ذلك، هجوم الكردستاني، وضع الحكومة والجيش التركي في حرج كبير، وأظهر زيف ادعاءتهم حول نجاح العمليات العسكريَّة ضدّ الكردستاني. فرغم الاجتياح السابق، وحملات القصف الجوّي القويّة المستمرّة، والدعم الأمريكي _ الإسرائيلي الاستخباراتي، والمساندة الإيرانيّة والعراقيّة، وغضّ الطرف الكردي العراقي...، رغم كل ذلك، فأن هجوم الكردستاني، أثبت فشل وإفلاس الحلول العسكريَّة. بالنتيجة، كل التحليلات والتقييمات التي تناولت الاجتياح التركي السابق لكردستان العراق، أفضت إلى نتيجة مؤداها: لم يكن له أن يتحقق، لولا الدعم والتأييد والموافقة المفاجئة للإدارة الأمريكيَّة، التي أتت بعد مساعي تركيَّة مضنية وشاقَّة وحثيثة، عبر سلسلة زيارات سياسيَّة وعسكريَّة تركيَّة متلاحقة لواشنطن. فجورج بوش، الذي مانع الاجتياح التركي للمنطقة الكرديَّة العراقيَّة، منذ 2003، ولغاية 5/11/2007، تاريخ لقائه بأردوغان في البيت الأبيض، فهم الأتراك اعتباره للكردستاني quot;عدوَّاً مشتركاquot; لتركيا وأمريكا والعراق، على أنه الضوء الأخضر لبدء العمليَّة العسكريَّة في الأراضي العراقيَّة، هو نفسه الذي أشار على الأتراك بضرورة الانسحاب، فاستجاب الأتراك لذلك.
كما اعتبر العمال الكردستاني الانسحاب التركي ذاك، بأنه quot;الهزيمة الأكبر للجيش التركي، خلال الأربع والعشرين السنة الماضيَّةquot;، معتبراً أن الحرب لم تنتهِ بعد، وربما يكون هذا الانسحاب مناورة تكتيكيَّة، داعياً عناصره لـquot;اليقظة والحذر وعدم التراخيquot;. فيما حاولت بعض الأطراف الكرديَّة العراقيَّة، تبرئة نفسها من أيَّة شراكة في الاجتياح التركي لكردستان العراق. وبعض الأطراف الكرديَّة الأخرى شكرت تركيا على انسحابها، وكأنَّها قد قامت بصنيع جليل بحقِّ الأكراد، ومنَّت على الإقليم الكردي بالفضل والكرم!. واعتبرت هذه الأطراف، أن الانسحاب التركي جاء ترجمة لـquot;الصمود الكردي، والدبلوماسيَّة الكرديَّة العراقيَّةquot;، ولم تنسَ دعوة العمال الكردستاني إلى quot;التخلي عن الممارسات التي تسيء للقضيَّة الكرديَّةquot;. وكأنَّ الدفاع عن النفس في مواجهة الآلة العسكريَّة التركيَّة هو إساءة للقضيَّة الكرديَّة، فيما مساعدة الجنود الأتراك، والتعاون معهم في جمع جثثهم من أرض المعركة، والسماح لهم بإقامة قواعد عسكريَّة في quot;دهوكquot; وquot;السليمانيَّةquot; منذ 10 سنوات، واتهام النضال الكردي في تركيا بالإرهاب...، والتسويق لسياسات حزب العدالة والتنمية المخادعة للأكراد، عبر توظيف الدين في السياسة...، كل هذا، هو من مستلزمات ومقتضيات وضرورات الدفاع عن القضيَّة الكرديَّة!.
المقاومة الضارية لمقاتلي الكردستاني، أكَّدت القوَّة العسكريَّة الضاربة له. وهذه القوَّة، أطاحت بكل الرهانات الكرديَّة والتركيَّة والإقليميَّة والأمريكيَّة التي كانت تشير إلى خفوتها، بعد كل هذه المدَّة، وبعد طوق العزلة المشدَّدة عليها، والقصف الجنوني لمناطق تواجد الكردستاني. وليس من المجازفة القول: إن الأمريكيين والإيرانيين وحتى السوريين، ربما يراجعون حساباتهم في التعاطي مع حزب العمال، بعد نتائج فشل الآلة العسكريَّة التركيَّة، وتصاعد نوعيَّة المعليات الأخيرة للكردستاني. ويجب على تركيا أن تعي خطورة ذلك، وتسارع إلى قراءة عقلانيَّة للتبعات السياسيَّة لإفلاس وفشل الآلة العسكريَّة وذهنيتها اتجاه الأكراد، حتى تجنِّب نفسها المزيد من التبعية العمياء للأمريكيين، وإنقاذ نفسها من مخاطر سقوط قوَّة الكردستاني في يد أعداءها. وذلك، بعدم الانصياع للذهنيَّة الطوارنيَّة _ الأتاتوركيَّة التي ما برحت تجرُّ تركيا نحو الخراب.
الاجتياح السابق، أعاد للكردستاني حيويته، وزاد من حجم التضامن الكردي معه بين الأكراد في تركيا والعراق، وكل مكان. وأيّ اجتياح جديد، سيفاقم من قوّة الكردستاني، لدرجة ربما تخرج عن السيطرة، ولا يمكن مسايرتها. لذا، ربما يحاول البعض من قادة أكراد، بشكل أو بآخر، وعبر بعض الأبواق المهزوزة والمأجورة، التي دأبها التزلُّف والتملُّق من قيادة كردستان العراق، ستحاول هذه الأبواق، التقليل من انتصار الكردستاني في هذه الجولة، أو الطعن فيه، أو إفراغه من محتواه العسكري والسياسي والمعنوي، وتحميله وحده، مسؤولية العنف الدائر في تركيا. إلى جانب تحميل الكردستاني مسؤولية الحقد والكره الذين تكنُّه الطغمة التركيَّة السياسيَّة _ العسكريَّة، لكل ما هو كردي، في كردستان العراق وخارجها!. ولا شكّ أن الكثير من الأخوة العرب، المفتتنين بتركيا وإسلامها السياسي quot;المعتدلquot;، سيسعى للترافع عن أردوغان وتحالفه مع الجنرالات ضد المسعى التحرري الكردي، والنظر إلى المشهد الكردي في تركيا بعين تركيَّة.
مآل القول، إن غطرسة وعنجهية تركيا هي أهم روافد تغذية العمال الكردستاني. وبتبنِّي تركيا الحلول السلميَّة، وترك الخيار العسكري، ستضمن تفكيك الكردستاني بمنتهى البساطة، بحيث لا تبقي لديه أيَّة حجَّة تشرعن استمرار حمله للسلاح. فلقد سعى الكردستاني لإلقاء خطوات عديدة نحو الحل السلمي، لكشف حقيقة زيف ادعاء الحكومات التركيَّة، بأن ليس لها مشروع حل سلمي للقضيَّة الكرديَّة. وبقي أن تجرِّب تركيا ولو لمرَّة واحدة الحل السلمي، حتى تختبر جديَّة الكردستاني في دعواته السلميَّة. وحال إعلان تركيا لعفو عام، وإلقاء خطوات جادة وجريئة نحو الحل السلمي، تكون قد أعلنت بداية نهاية العمال الكردستاني كحركة مسلَّحة، فتنجز عملاً خلال شهور، فشلت في إنجازه خلال 25 سنة من الحرب والدمار والقتل والخسائر الماديَّة والمعنويَّة التي استنزفت وأنهكت وتنهك تركيا، وجعلتها ذليلة أمام العواصم الأوروبيَّة، وأمام تل أبيب وواشنطن، تستجدي العون والمساعدة العسكريَّة والاستخباريَّة، غير المجَّانيَّة، للقضاء الكردستاني.
الدعوة إلى إقامة شريط حدودي عازل، سيكون خدمة كبرى يقدمها الأتراك للكردستاني، لإن إسرائيل وبكل جبروتها وترسانتها، فشلت في تجربة الشريط الأمني العازل في جنوب لبنان، فكيف لتركيا ان تنجح في ذلك؟!. ناهيك عن صعوبة وطول المناطق الحدوديَّة العراقيّة _ التركيّة، قياساً بجنوب لبنان. هذا الشريط، فضلاً عن إلغائه للحدود بين جنوب وشمال كردستان، وتوحيده للكرد في كل مكان إلى جانب الكردستاني ضد تركيا، سيجعل من جنود الجيش التركي فريسة سهلة لمقاتلي للكردستاني، الذي أعاد انتشاره في العمق التركي والمدن التركيّة. بذا، تكون تركيا قد جنت على نفسها، إن ازدادت مضياً في الحلول العسكريَّة. وآن لها ان تجرِّب لغة الحوار والتفاوض بدلاً من لغة البنادق والقصف والاجتياحات والتمشيطات العسكرية التي أثبتت فشلها على مدى ربع قرن.
فمن استطاع إقناع العسكر التركي بتبنّي الخيار السلمي في حلق القضيّة الكرديّة، لن يكون من العسير عليه إقناع الكردستاني في إلقاء السلاح. وهذا ما ينبغي على رئيس حكومة إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني إبلاغه لحكَّام أنقرة من العسكر قبل الساسة. وعليه أيضاً أن يعي تماماً، أنه، لولا العمال الكردستاني ونضاله، لما وطئت قدماه البساط الأحمر الذي ستفرشه تركيا له أثناء زيارته لأنقرة بدعوة رسميَّة من الحكومة التركيَّة.
هوشنك أوسي
كاتب في الشؤون الكرديّة
[email protected]
التعليقات