عندما كرست جانبا كبيرا من مقالاتي لكشف الأزمات المعيشية التي يعاني منها أبناء شعبي في ظل السلطة الحالية في كردستان، وأعلنتها حربا لا هوادة فيها ضد ظاهرة الفساد الذي يضرب بأطنابه على أرض كردستان منذ خمس سنوات، كان هدفي الأساسي في كل ما كتبت هو أن أقوم ما أعوج من أداء هذه السلطة خصوصا مع إنهمار كل هذه المليارات من الدولارات التي إغترت بها السلطة الكردية، فإنغمست معها في فساد مقيت حتى كادت أن تحول هذا الكيان الصغير المتحرر بدماء غزيرة سالت من جسد هذا الشعب المسكين الى دكتاتورية قمعية مستبدة تعض بها على كرسي الحكم بالنواجذ؟!.

ورغم ما واجهته من الكثيرين من أرباب السلطة وأقلامها المأجورة من إتهامات تارة بالعمالة، وتارة بالتخوين والإصطفاف الى جانب أعداء الكرد وكردستان، وهذه إتهامات جاهزة يسوقونها ضد كل من يخالفهم الرأي أو يفضح أساليبهم وتلاعبهم بمصير هذا الشعب، ولكني أعتقد بأنني أرحت ضميري بإصطفافي الى جانب شعبي المقهور والمسلوب الإرادة، ولم يرعبني سيف السلطان أو محاكمها القروسطية، لأننا نحن معشر الكتاب والصحفيين الكرد نعيش اليوم في ظل هذا الفساد الفظيع وسط حقل كبير من الألغام، ولا أغالي إن قلت أن الكثيرين من أصحاب الأقلام الشريفة والضمائر الحية من الكتاب المتصدين للفساد في كردستان إنما هم برسم الأموات وهم يمشون على الأرض. فهذه السلطة لا تتوانى عن إغتيال الكلمة فحسب، بل أنها لا تتردد عن قطع رقبة قائلها، وهناك شواهد كثيرة على ذلك..

عندما كنت أرى في الشارع الكردي ذلك الوجوم على وجوه الشيوخ والعجائز، وأفتقد البسمة على وجوه أطفالنا، والحسرة في قلوب بناتنا، وضيق ذات اليد للبيشمركة الذي ضحى من أجل قضية شعبه، لم أحتمل سكوت القيادة الكردية وترددها العجيب عن تحرك جدي وفاعل للقضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تفتك بكل المكاسب المتحققة لشعبي، وتشوه كل منظر جميل في كردستان، وتتنكر لكل القيم الإنسانية والثورية التي ناضلت من أجلها تلك القيادات خلال سنوات نضالها الطويل بجبال كردستان، تلك القيادات التي كانت تعتبر نفسها راعية لليتامى، حانية على الثكالى ثائرة لشرف العذارى، فإذا بها اليوم تتحول بفعل الفساد المستشري الى هاتكة للأعراض بإستغلال المال والسلطان، سارقة لأقوات اليتامى والأطفال، مهينة لكرامة الإنسان؟؟!!.

قبل أيام ترددت أنباء عن تشكيل لجنة للقضاء على الفساد في كردستان، وكم كانت خيبتي كبيرة بعد هذا الإنتظار الطويل لتحرك فعلي وخطوة شجاعة للقضاء على هذه الظاهرة المفتكة، عندما قرأت الخبر وهو يقول quot; أن حكومة الإقليم شكلت لجنة لدراسة سبل القضاء على الفساد أو على الأقل تحجيمهquot;؟!. تذكرت حينها نكتة سمعتها من قبل وتقول:
quot; كانت هناك قرية فيها حفرة كبيرة تتسبب بوقوع العديد من الحوادث اليومية لسكانها، فاجتمع كبار رجالات القرية ليضعوا حداً لهذه الحوادث المتكررة، فاقترح أحدهم شراء سيارة إسعاف وإيقافها قرب الحفرة لنقل الجرحى فورا الى المستشفى. ولكن بعد أيام لاحظوا أنه كلما نقلت السيارة أحدهم الى المستشفى، كان هناك آخرون يقعون في الحفرة؟. فإجتمعوا مرة أخرى لتدارس الوضع، وإقترح أحدهم بناء مستشفى قرب الحفرة؟!. فرد عليه المختار قائلاquot; ولماذا كل هذا التبذير فعندنا مستشفى قرب مدخل القرية، ولا داعي لبناء أخرى، تعالوا نردم هذه الحفرة ونحفر واحدة أخرى قرب المستشفى، فهذا أفضل وأوفر للمالquot;؟؟؟!!.

أعتقد بأن مصير تلك اللجنة التي شكلتها حكومة الإقليم ستكون نفس مصير حفرة القرية التي عجز كبار القوم عن معالجتها، فالحكومة هي بالأساس أصل الداء وليس الشارع العام حتى تردم حفرها بلجان أو زيارات ميدانية وتنتهي المسألة؟!. وأنا على يقين بأن هذه اللجنة إن تشكلت فإنها ستضم بكل تأكيد كبار القوم الغارقين أصلا في الفساد البغيض؟!.

الفساد لا يعالج بتشكيل لجنة حكومية، ولا حتى بتأسيس هيئة للنزاهة في كردستان، وبالمناسبة فإن كردستان ليس بها لحد اليوم هيئة نزاهة مماثلة لما موجود في بغداد، وأعتقد أن تشكيلها ينتظر شبع المسؤولين من أموال السحت الحرام، ولكني أعتقد أنه حتى لو شبع نوح من الموت، فلن يشبع مسؤولو كردستان من سرقة المال الحرام، عليه فإن أمر هذه الهيئة سيبقى مؤجلا بإنتظار الجودو، ولا أدري هل أن جودو سيعود ذات يوم، أم سيكون مصيره مثل مهدينا المنتظر الغائب داخل السرداب منذ ألف سنة مما يعدون؟!.

إذا كانت القيادة الكردية جادة فعلا في إستئصال الفساد ( بعد الشبع طبعا )، فإن عليها أن تسن قانونا لذلك. قانونا يجيز للبرلمان إستدعاء الوزراء وإستجوابهم، قانونا يحقق إستقلالية كاملة للقضاء ويضعه فوق الجميع من دون إستثناء، قانونا يتيح سؤال الوزير والنائب ( من أين لك هذا )؟. فظاهرة خطيرة بمثل هذا الحجم لا تعالج بلجنة واحدة أو مثنى وثلاث ورباع، بل تعالج بقانون خاص يسن لقلع جذورهذه النبتة الخبيثة،القانون وحده هو الضمان وليس تقارير اللجان أو تصريحات فلان وعلان. وبالقانون وحده نستطيع أن نشيع ثقافة إجتماعية جديدة ترتكز على الشفافية والمساءلة والتحقيق في كيفية التصرف بأموال الشعب التي هي أمانة في أيدي الحكام، وبه سندشن لمجتمع مدني حقيقي يوفر لقمة العيش الكريم للمواطن ويضمن مستقبله ومستقبل أجياله..

شيرزاد شيخاني

[email protected]