ذات يوم، قال المبدع الفرنسي لويس أراغون، quot;مجنون إلزاquot;، المعروف بعشقه للحرية وبإنسانيته، في معرض حديثه عن علاقة المثقف بالحزب: quot;أستقيل من الحزب. كل مساء، وأجدد انضمامي إليه في الصباح.quot; كان يقصد الحزب الشيوعي وكان له، يومها، هيبته وكلمته في قضايا المجتمع والشغيلة. ولعل في عباراته هذه ما يعكس قمة الشعور بالغبن الذي يجتاح كل مثقف حقيقي وأصيل يعشق الحرية ولا يرغب في التفريط فيها ولكنه بحكم نزوعه الجماعي ونبل المشاعر التي يحملها بين جنباته يرغب في اقتسام الآمال العريضة وفي استمداد القوة من الناس/ الجماهير/منتجي الخيرات في المجتمعات.. حتى يمنح نفسه أفقا أوسع من أفق الذات وحتى لا يشعر بمجانية عمله، وبالعزلة في وسط مجتمع ظالم يعرف كيف يزحف على مناطق الضوء القليلة التي تؤثث حياة الفرد الواحد.. ويعدمها ضوءا ضوءا.. فتهيمن عليه الذات ويشعر بمطلق العجز والإحباط واليأس والبؤس فيفكر في مسار التخلص من كل الآلام فيلجأ إلى وضع ذاته خارج نبض الحياة، فينتحر كما فعل آرثر كوستلر، أو يحاول أن ينتحر مثلما فعل كل من أراغون وجورج لوكاتش..


لقد كان الحزب بالنسبة للمثقف (وللمواطن) هو الساحة التي قد يسمع فيها أصداء شعبه وعذاباته وتمكنه من تحويلها إبداعا، يحترم كل شروط الإبداع، يظل quot;وثيقة تاريخيةquot;، quot;شهادة حيةquot;، quot;تحفة فنيةquot;.. تعكس، فنيا وجماليا، تحول المجتمع، مصائر الناس والمناضلين والقادة والحكام، صيرورة الأحزاب.. من خلال نماذج تمثل شرائح مختلفة تقدم عينات للطائفة/الطبقة/النخبةhellip; المراد وضعها تحت مجهر الإبداع.. ويمكن أن نذكر نصوصا من مثل quot;الفلاحونquot; لبلزاك، وquot;الأحمر والأسودquot; لستندال، وquot;دروب الجوعquot;، وquot;فارس الأملquot; وquot;سراديب الحريةquot; لجورج أمادو، quot;سيادة الرئيسquot; لأستورياس، quot;القاهرة الجديدةquot; لنجيب محفوظ، quot;خماسية مدن الملحquot; لعبد الرحمان منيف، وquot;وفاة وكيل متجولquot; لآرثر ميلر..


عندما نحصي عدد المناضلين الحقيقيين، ونضع أمامهم عدد المناضلين غير الحقيقيين، أي الممثلين، المؤدين لدور النضال في انتظار المناداة عليهم (الممثلين) لتقليدهم مناصب علانية أو إفشاء أخبار عن مناصبهم غير العلانية يتبين كأن الحزب هو الامتحان الذي تنزله الدولة بالمنتمين إلى الأحزاب/المناضلين؟ لتسند لهم، فيما بعد، وظيفة تظليل المواطنين، توريط المناضلين، محاصرة الآمال الكبرى، تحويل الأحلام كوابيس... لتخفف الضغط والعمل الشاق على المخابرات المكلفة بشم رائحة المعارضين أو الراغبين في الإصلاح أو التغيير.. فالتقارير الأشد دقة هي تلك التي تحرر في مكاتب الأحزاب، وتلك التي يحررها متحزبون عن زملاء لهم، أو رفاق من طائفتهم.. هل تذكرون قادة أحزاب ورطوا مناضلين، رفاق لهم، ربطتهم بهم علاقة عمر ونضال وربما اعتقال.. والدايم الله.. والرأس التي لا تدور أو تتغير كدية؟!


قد يكون الحزب كان دربا نحو تلقين الوطنية، على أيام الاستعمار، وتلك نعمة استعمارية تندرج ضمن ما سماه صاحب quot;الرأسمالquot; بالتناقض الداخلي للنظام الرأسمالي.. لكن الحزب أصبح، فيما بعد، آلة لإنتاج الخيبات، ومدرسة لتلقين الخضوع، ودرجا يصعده الزعيم، بتعدد العبارات المؤدية للمعنى ذاته، وبطانته ومنها لفيف من المثقفين، نحو سطح المجتمع..


لكن، رغم كل ذلك، كم مثقفا جرؤ على الاستقالة إخلاصا للمبادئ، للوطن!، للذين قضوا نحبهم وآخرون ينتظرون لقاء السيدة التي ارتُكِبَت باسمها مئات الآثام (الحرية)، والسيد المهدي المنتظر الذي يُدعى المساواة.. وغيرهما من المبادئ التي أصبحت تندرج ضمن مبادئ التقية.. أو تم تجاوزها، تماما، لأنها جزء من الماضي!! الذي لا يدر بَصلَة على صاحبه..
لعل المثقف الجديد/الحالي أشد ذكاء من السياسي المناور في انتظار المقابل.. فالمثقف يعلم أن لكل عمل أجر.. وأن خضوعه تكتيكي، استراتيجي..
هل تلك حالنا حقا؟


عبد العزيز جدير