1-
قلما ارتعدت فرائص الإنسان العربي، سليل القبائل الأصيلة والأعراق الصافية النقيّة، وسليل الحضارات الفينيقية والبابلية والآشورية، إنه-الفرد العربي- خلاصة الجنس البشري وعروقه الصافية البيضاء كالثلج فهو لا يمكن أن يصاب بالخوف، ذلك أنهم منذ بدء الخليقة هم الأشجع والأقدر والأصدق، وكل ما يروى ndash;حتى في تاريخهم- عن كذبهم هو بهتان مزوّر وضعه موسى بن ميمون أو ابن المقفّع، أو ابن لهيعة. أما أن تثبت قصة تُروى عنهم بأن أحداً منهم رفّ له جفن من عدوّ فهذا ما لم يؤمن به أحد منهم، فهم لم ينجبوا أبداً -على طول تاريخهم- أي طاغية.


ونحن مثلاً لدينا رسائل دكتوراه صادرة من جامعات معروفةتثبت أن الحجاج بن يوسف كان ممن نصر الله بهم quot;العقيدةquot;، وأن الذبح والسلخ الذي كان في التاريخ هو شجار quot;غامضquot; واستثنائي ولا يجوز الحديث عنه! وكم أنا متعطش لنتاج أبحاث أحفاد تلك السلالات وهم يبحثون في جامعات العالم في جوانب من quot;الدراسات الإسلاميةquot; إنني متعطش لقراءة أبحاثهم، وقراءة نتائجهم الأكاديمية، لأرى تلك العقول والعبقريات الاستثنائية كيف تفكر، متعطش جداً لمطالعة عناوين أبحاثهم ورسائلهم، أتعطش لمعرفة كيف يمكن لتلك السلالات العربية أن تفكّر، خاصةً وأن بعضهم يظنّ أن عقله المرتجّ الرخو، أمتن وأرسخ من عقل مستشرق هو من أعمق من درس تاريخنا العربي والإسلامي وأعني به لويس ما سنيون، يظنّ البعض أن رسالته الأكاديمية التي تشبه quot;دفتر الواجباتquot; ستحرج أكاديميات العالم، وأنه سيعود باكتشاف يزلزل تاريخ العلم الحديث.


2-
لا يمكن للعربي أن ترتعد فرائصه وهو الذي لم يثبت على طول تاريخه أن مارس quot;الارتزاقquot; أو quot;الرشوةquot; وحاشا فهو سليل قوم إذا مات منهم سيد قام سيد، قؤول لما قال الكرام فعول! وإذا جهل أحد عليهم جهلوا فوق جهل الجاهلينا، وهو من قوم لا توسط عندهم لهم الصدر دون العالمين أو القبر، لذا لا يمكن التنبؤ بارتعاد فرائص أي إنسان عربي، خاصةً وأن العربي اكتشف أخيراً quot;هويتهquot; وذلك قبل عقود طويلة، حينما أسس روح quot;القوميةquot; العربية وهي الرابطة التي أحرجت إسرائيل، خاصةً وأن لدينا ألف ديوان شعري مخصص عن فلسطين، ولدينا ألف قصيدة عن حركة حماس، وعن حزب الله، والآن بعضهم ينظم قصائد تتغزل بمعبر رفح.


إذن لا يمكن لأحد يمتلك كل هذا التاريخ المشرق أن يخاف. أما عن أعمق اكتشاف اكتشفته القومية العربية المعاصرة فهو لم يأت من محمد حسين هيكل الذي جلس مع كل زعماء من الإنس والجن، والذي لم يتم لقاء بين زعيم عربي وزعيم آخر إلا كان هو ثالثهما، لقد كان هو quot;الشيطانquot; في كل لقاءٍ بين اثنين، فهذا العربي القحّ هيكل لم يكن هو مكتشف النظرية التي سأسوقها الآن، إن مكتشفها هو جمال عبد الناصر حينما اكتشف مواهب أخرى لسلالة القبائل والحضارات العريقة حينما طلب من كل عربي أن يبصق بصقة واحدة على إسرائيل بغية تسريع غرقها، ولكن اكتشاف عبد الناصر لم يتم لظروف لم يكشفها بعد محمد هيكل الذي حنّطته الجزيرة مؤخراً خاصةً وأنه ضرب رقماً قياسياً في quot;إعلان الاعتزالquot; بشكلٍ لم يسبقه إليه لويس فيغو أو العجوز ريفالدو.

3-
لم يرد في تاريخنا أي أخبارٍ عن الحقد، فلدينا ألف جريدة عربية، كل افتتاحياتها مطرّزة بالصدق والحب، وذم الكذب، ومدججة بأشرس الحجج عن ضرورة الوفاء بالوعد، ونبذ الخيانة، لدينا في كل جريدة 100 كاتب -أي أن لدينا في العالم العربي أكثر من 100 ألف كاتب وكاتبة- يتحدثون كل لحظة و في كل يوم في زواياهم عن الحب، والصدق والوفاء والإخاء، عن حسن الظن، عن التسامح ، عن الليبرالية ، والعلمانية والديمقراطية ، ووسطية الإسلام، لدينا 100 ألف كاتب يكتبون بشكلٍ أسبوعي عن عملية السلام وعن العلاقات الزوجية والتفكك الأسري والحب والأخلاق، لدينا كلمات كثيرة جداً بإمكانها ردم محيط بأكمله كلها تبجّل الأخلاق، كلهم يتحدثون عن التسامح والمواطنة ونبذ التعصب القبلي والإخلاص للدين والإنسانية، والعقلانية والتفكير والتعليم والأدب الملتزم وغير الملتزم.


يا للكارثة: لدينا أضخم احتياطي لفظي حول الأخلاق والحب والليبرالية والتسامح والوسطية وسماحة الإسلام ونبذ الإرهاب، لكن لدينا أضخم ملحمة تباغض وتحاسد وتقاتل في التاريخ، لدينا مسالخ نفسية يومياً تتلاعن، في الدين والثقافة والسياسة، لدينا أضخم أعمدة كهربائية وشعرية في العالم لكن لدينا أكبر مستودع كذب بشري عرفه التاريخ، لدينا ألف افتتاحية عن الحب والتصالح ولدينا أضخم مؤامرات الاغتيال النفسي والجسدي والأخلاقي، لدينا أبشع المقابر الجماعية، لدينا أضخم مكائن إنتاج الابتسامات في العالم ولدينا أعنف وأقبح أنواع الحقد إنه الحقد الأزرق الدفين الخفي. تلك هي السلالة إنها سلالات لفظية وشكلية وكرتونية، سلالات بطولاتها ومعاركها موجودة في الخرائط وأعمدة الشعر وافتتاحيات الصحف ومقالات الكتاب الرخيصة التي تباع بعدد الكلمات من صحف حكومية تافهة وسطحية تلفّ بها الساندوتشات الصباحية والخضروات.

4-
لكن للأسف رغم كل التاريخ الماضي المزعوم عن تماسك الأمة، وعن تحالفها ضد جنكيز خان وهولاكو وأبرهة، تهدّم بالأمس القريب كل ذلك التاريخ! حينما قرر قادة العالم الاجتماع من أجل حوار الأديان، وخاف ndash;لأول مرة في التاريخ- بعض سلاحف القومية الذين خرجوا من جحورهم لسب إسرائيل والسعودية متحدثة-تلك الأصوات- عن إسرائيل وإجرام شمعون بيريز. ومع أنني معترف بجرائم بيريز كأي متابع آخر في العالم لكنني لا أعتبره السفاح الوحيد في العالم العربي، ولئن كان قد ذبح الآلاف ممن يختلف معهم سياسياً، فإن بعض الطواغيت في تاريخنا العربي القديم والحديث من أسس مقابر جماعية من عظام الشعوب، وهذا ما لم يفعله حاكم إسرائيلي مع شعبه. إنه يسفك دماء أعدائه بكل إجرام بالفعل وهذا معروف. لكن تاريخنا مليء بسفك دماء الشعوب المحكومة المغلوبة على أمرها وتربي دماء الشعوب العدوّة. هناك طغاة ضد شعبهم وهناك طغاة من أجل شعبهم. هذا هو الفرق.


إن تلك الهياكل التي خرجت من مخابئها بعد طول تحنّط لم تتحدث عن أن quot;رموز القوميينquot; هم أبرز أسباب ضياع قضية فلسطين. ثم من جهةٍ أخرى، إلى متى الرعب من دولة أخرى بهذا الشكل المخجل؟ (انظر مقالة الدكتور تركي الحمد quot;أما آن لنا أن نتخلص من عقدة إسرائيلquot; الشرق الأوسط 16-11-2008) على طول التاريخ لم يتسبب بإجهاض كل الأحلام والطموحات العربية مثل quot;الحرس القديمquot; أو ما يمكن تسميتهم بالديناصورات القومية القديمة المتهالكة. لكن تيار quot;الاعتدال السياسيquot; المتمثل حالياً بالسعودية والأردن ومصر هو التيار الذي يمكن للإنسان أن يتفاءل به، بدل الحديث عن بلاعيم quot;الانتصار الإلهيquot; أو خربشات quot;لاءات الخرطوم الثلاثquot; التي لا رابع لها.

فهد الشقيران
كاتب سعودي