ما يملأ فضاء الخطاب السياسي اليوم هو تنادي من يصفون أنفسهم باليساريين إلى الوحدة أو الإتحاد في جبهة عريضة واحدة تناضل من أجل.. quot; الدولة المدنية الديموقراطية العلمانية، دولة الحق والقانون والعدالة الإجتماعية quot;. يرتفع صوت هؤلاء quot; اليساريين quot; اليوم في مختلف البلدان العربية وربما أيضاً في البلدان غير العربية التي يتعذر علي متابعة خطاباتها. فلماذا يكون ذلك؟

ما كنت لأتعرض لكل هذه الأصوات لو أنني لمست نصيباً لها من الواقعية أو المصداقية. من واجبي في معمان هذا الزعيق المتعالي أن أرفع الصوت بالمقابل مؤكداً أن هؤلاء اليساريين لو امتلكوا قولاً آخر غير هذا لما انحدروا إلى ما هم عليه اليوم من إفلاس. نداؤهم الوحدوي quot; اليساري quot; اليوم إنما هو تعبير جليٌٌ وواضح عن إفلاسهم المطلق التام بعد أن تبيّن لهم الغياب التام لشبح الإشتراكية يحوم في الآفاق.

كنا قد دعونا قبل عدة سنوات لاتحاد الماركسيين والشيوعيين في اتحاد واحد، وليس في حزب، ينغمس كليّاً في همّ ٍواحد وحيد هو الإجابة على التساؤل الأكبر.. quot; أين هي الشيوعية اليوم؟ quot; التي كان كارل ماركس قد رأى شبحها يحوم في سماء أوروبا قبل مائة وستين عاماً ؛ لقد غابت عن الأفق القريب والبعيد ولم تعد في مدى الرؤية والإبصار. لم يتقبل هؤلاء اليساريون دعوتنا وليس من سبب لذلك سوى أنهم لم يعودوا يثقون بصدقية النظرية الماركسية بعد انهيار مشروع لينين في الثورة الإشتراكية المتجسد بالإتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الإشتراكية. لهذا فقط شلح هؤلاء أرديتهم الحمراء ولبسوا بدلاً عنها أردية مبرقعة لا تعلن عن هويتهم السياسية وأخذوا يصفون أنفسهم باليساريين فلا يميزهم الرائي فيما إذا كانوا هم ماركسيين لينينيين أو تروتسكيين أو قوميين عرب أو حتى بعثيين يمينيين أم غير هؤلاء جميعاً. اليسار مروحة عريضة جداً يشغل طيفها الأول الفوضويون وأما الأخير فيشغله، بلا عجب، البعثيون الفاشست من مثل ميشال عفلق وصدام حسين وأمين الحافظ.

كما يتوجب الإيضاح في هذا السياق أن شكوك هؤلاء اليساريين في صدقية النظرية الماركسية إنما هي ناجمة عن اندفاعهم في تأييد انحراف خروشتشوف (1954 ـ 1964) وقد صفقوا له عالياً دون أن يدركوا أنه إنما هو مرتد عن الماركسية. كان الإتحاد السوفياتي والثورة الإشتراكية العالمية في أفضل الأحوال في العام 1954 بعد أقل من عشر سنوات من تكبد الإتحاد السوفياتي أفظع خسائر نجمت عن أفظع الحروب في التاريخ ولم يكن هناك أدنى دواعي لأي نقد إيجابي عداك عن الهدام الذي جأر به خروشتشوف. التراجعات سواء على صعيد التنمية الإشتراكية في سائر الدول الإشتراكية وفي الإتحاد السوفياتي بشكل خاص حتى وصول الكارثة التي انتهى إليها مشروع خروشتشوف quot; إصلاح الأراضي البكر والبور quot; ووصلت خسائرها إلى ثلاثين ملياراً من الدولارات ومن مثل الفشل الذريع الذي انتهى إليه مشروعه التنموي السباعي وليس الخماسي كما المشاريع السابقة، أو على صعيد الثورة الإشتراكية العالمية وقد دخلت في جزر شديد، مثل تلك التراجعات كان لها أن تؤكد صدقية الماركسية وفشل انحرافات خروشتشوف بالمقابل. لكن رفاقنا الذين تحمسوا بتهوّر شديد لتأييد خروشتشوف دون داعي وقعوا في خطأ قاتل لم يتعافوا منه حتى اليوم. ما زالوا لأسفنا البالغ ينسبون إنهيار مشروع لينين لخلل في النظرية الماركسية وليس لانحراف خروشتشوف وخلفائه من بعده كما هو الواقع.

لأنهم لم يعوا علة انهيار مشروع لينين فإنهم لن يجدوا السبيل لإحيائه، بل ولن يفلحوا أيضاً في بناء مشروع مماثل أو بديل ؛ إنهم لن يستطيعوا ترسيم مشروع ثورة اشتراكية التي لا وجود لها اليوم في كل الأحوال، كما لن يستطيعوا أيضاً رسم طريق للتقدم الإجتماعي مهما كان محدوداً. لقد فقدوا ماركس عندما هرعوا يؤيدون انحراف خروشتشوف دون مبرر ـ هذا إذا لم نشك في ولاءاتهم الطبقية وأصولهم البورجوازية. هذا هو اليسار الذي ينادي اليوم للوحدة.

يتنادى هؤلاء اليساريون ـ غير الماركسيين بالطبع أو الذين فقدوا ماركسيتهم ـ لهدف واحد وحيد هو إقامة دولة الحق والقانون، الدولة المدنية العلمانية الديموقراطية، دولة العدالة الإجتماعية. بمثل هذا الهدف يؤكد هؤلاء اليساريون أن ليس لهم أدنى علاقة بماركس الذي سخر من كل هذه العناوين المنسوبة للدولة، إذ ليس هناك من دولة حق طالما أن كل الحقوق هي في النهاية حقوق طبقية وأن كل القوانين إنما هي أحكام لحماية الحقوق الطبقية ؛ وليس هناك من دولة ديموقراطية طالما أنها منظمة قمع طبقية ؛ وسخر ماركس كثيراً من مقولة العدالة الإجتماعية طالما أن المفهوم الأولي للعدالة هو أن يعطى كل ذي حق حقه وثروة المجتمع جميعها من إنتاج الطبقة العاملة وحقها إذّاك ليس أقل من امتلاك كل الثروة ؛ وليس هناك من دولة غير علمانية ليطالب اليساريون بها فيقعوا في شرك رجال الإكليروس الداعين لدولة دينية مزعومة. يدعي المتأسلمون أن دولتهم هي دولة دينية تحكم بأحكام الشرع والدين. يزعمون أنهم يحكمون لصالح الله والأمة لكن إله المسلمين لا يأكل اللحم المشوي ويشرب النبيذ كما هو إله اليهود، ولا يتقاضى فلساً واحداً من أموال الزكاة أو الخراج. أقوال هؤلاء المتأسلمين لا تختلف عن دعاوى المرأة الحديدية (مسز ثاتشر) التي جندت قوى الدولة لتحطيم نقابات العمال وكانت تدعي مع ذلك أنها تمثل كل الأمة. الدولة لا تتطهر من طينتها الطبقية حتى لو أمرت كل أفراد قواتها المسلحة والشرطة بارتداء العمائم الغليظة. الدولة المحمدية التي أقامها النبي محمد في المدينة في العام 628 م كانت دولة علمانية بمعنى أنها دولة بطريركية قرشية رغم أن رسالة النبي قامت أساساً على تحقيق العدالة وإطعام الفقراء الجياع. إن مطالبة اليسار بالعلمانية هي اعتراف مباشر بصدقية رجال الإكليروس أن دولتهم تمثل الله على الأرض وهي بالتالي غير طبقية. ليس ثمة من دولة دينية حتى وإن جاءت تطبق كل النصوص الدينية حرفياً طالما أن وظيفتها في النهاية هي توزيع السلطة والثروة على الطبقات المختلفة في مجتمعها. وهذا أمر دنيوي خالص.

لكن كل هذا ليس هو بيت القصيد. الديموقراطية والعدالة والعلمانية كما الحق والقانون ليست جميعها إلا أسلوباً للحكم. بيت القصيد هو الغاية، غاية الحكم ؛ ما الذي تهدف الدولة إلى تحقيقه على الأرض؟ كيف ستوزع الثروة وكيف ستوزع السلطة من خلال ديموقراطيتها وعدالتها وقانونها وعلمانيتها وحتى يساريتها؟ اليسار المنادي بالوحدة ينادي للتوحد حول منظومة من القيم لكنه لا يمتلك الأساس المادي الذي ستقوم عليه مثل هذه القيم. كل هذه القيم دون استثناء لا تخص اليسار وحده فالحزب الجمهوري في أميركا وحزب المحافظين في بريطانيا وهما من أقصى اليمين يعلنان دائماً تمسكهما بكل هذه القيم. فهل يشارك اليسار العربي المحافظين الإنكليز والجمهوريين الأمريكان بذات القيم؟! المسألة الخلافية هي كيف ستوزع دولة اليسار العتيدة الثروة على طبقات المجتمع؟ المحافظون في بريطانيا والجمهوريون في أميركا يتفوهون بالعدالة الإجتماعية ومع ذلك هناك الملايين في البلدين من الذين لا يجدون المأوى ولا الرغيف!! كيف سيوفر اليسار العربي المأوى والرغيف لملايين الفقراء العرب، هذا هو بيت القصيد. لا الديموقراطية ولا العلمانية ولا العدالة ستوفر المأوى أو الرغيف لهؤلاء الفقراء، ما سيوفره هو التنمية، والتنمية فقط التي تغيب تماماً في دعوة اليسار الحالية للوحدة الأمر الذي لا يثير الدهشة فقط بل والشكوك أيضاً، إذ كيف لدولة أن تقوم دون أن ترتكز على نمط معين من أنماط التنمية؟ والسؤال الجوهري الآخر الذي على اليسار الإجابة عليه قبل الدعوة للوحدة هو.. على أي نمط ستكون التنمية التي ستتقدم بها دولة اليسار العتيدة، أهي تنمية رأسمالية أم تنمية إشتراكية؟

تحديد نمط التنمية هو فقط ما سيعطي معنى لدعوة الوحدة التي يطلقها اليسار العربي اليوم. عن وعي أو بدونه وجه اليساريون دعوتهم إلى الوحدة والتي أشبه ما تكون بالدعوة على تناول الغداء بدون أي طعام على الإطلاق. افتقاد مائدتهم لأي نوع من أنواع الطعام إنما جاء تعبيراً عن أن أياً من النمطين المعروفين للتنمية، الرأسمالية والإشتراكية، لم يعد موجوداً عند هذا المقطع الإستثنائي المقحم على مسار التاريخ، حيث نمط الإنتاج الرأسمالي قد انكمش بل انهار حتى في مراكز الرأسمالية بعد أن تم افتراسه بوحشية فظيعة من قبل منتجي الخدمات من الطبقة الوسطى، مثلما جرى في النمط الإشتراكي في الإتحاد السوفياتي، الأمر الذي انتهى إلى ضعف بنيوي في طبقة البروليتاريا التي هي الباني الوحيد للإشتراكية. إذاً العالم اليوم يعبر مقطعاً تاريخياً شاذاً كان أول مؤتمر للكبار الخمسة (G5) في رامبوييه 1975 قد أقحمه عنوة على مسار التاريخ كيما يسود فيه نمط الإنتاج الفردي غير الرأسمالي وتتعذر في ظله التنمية الحقيقية بنمطيها الرأسمالي والإشتراكي. لذلك خلت دعوة اليساريين من أي معنى.

فات اليساريين أن هناك نمطاً من التنمية لا هو بالرأسمالي ولا هو بالاشتراكي ؛ إنه quot; الديموقراطية الشعبية quot;. تلو الحرب العالمية الثانية وتحرير الجيش الأحمر دول أوروبا الشرقية من الإحتلال النازي، رأى ستالين أن تلك الدول لم تكن على مستوى في التنمية يؤهلها للقيام بثورة اشتراكية فترتب عليها إذّاك أن تقوم بتنمية تتأسس على شراكة شعبية بين طبقات ثلاث هي العمال والرأسماليون والفلاحون. تكتب هذه الطبقات الرئيسة الثلاث ميثاقاً وطنياً يؤسس لحقوق متساوية بينها ويتم ذلك من خلال اقتسام السلطة بينها بالتساوي. لفلول الرأسماليين والعمال مصلحة مشتركة في تحالف وثيق اليوم يحد من وحشية منتجي الخدمات من الطبقة الوسطى ويحول دون نهب الإنتاج الرأسمالي السلعي بتبديله بالخدمات بعيداً عن السوق بأضعاف قيمتها الرأسمالية. وعلى تحالف الرأسماليين والعمال أن يمنح امتيازات ذات مردود للفلاحين، كونهم منتجي غذاء الشعب، يغريهم بالإنسلاخ عن طبقتهم الوسطى والإنضمام إلى تحالف الرأسماليين والعمال. ليس لدي أدنى شك بأن أي مشروع وطني أو إجتماعي لا يقوم على دولة الديموقراطية الشعبية لن يكون له أي نصيب من النجاح. بل إن مشروع دولة الديموقراطية الشعبية لا يزيد عن كونه محاولة إنقاذية هي الوحيدة التي قد تفلح في وقف التدهور الإجتماعي الذي تدفع به الطبقة الوسطى في كافة المجتمعات نحو الهاوية الكارثية.

عبثاً يدعو اليسار للوحدة طالما أن دعوته لا ترتكز أساساً على دولة الديموقراطية الشعبية التي تقوم على تنمية مختلطة الهوية من شأنها أن تحسّن من أحوال الشعب وتسهل في عملية الإنتقال إلى التنمية الإشتركية حينما يحين وقتها في الأمد غير المنظور. دعوة الديموقراطية الشعبية هي أهم دعوة يطلقها اليساريون من غير الماركسيين والشيوعيين. واجب الماركسيين والشيوعيين الأكثر إلحاحاً ليس هو تحسين الأحوال المعيشية للناس من حولهم بل هو تغيير الناس من حولهم وفي العالم كله. صحيح أن الراية المتقدمة في الثورة الإشتراكية هي راية تحرير البروليتاريا من قيد الرأسمالية إلا أنه ثمة رايات كثيرة وراء الراية البروليتارية ذات ألوان مختلفة كثيرة تعلن عن تغيير نوعي للإنسان يطهره تماماً من كل آثار الوحشية التي تحدّرت إليه عبر ملايين السنين من أصوله السحيقة. لن يدرك الفرق النوعي بين إنسان المجتمع الطبقي ونظيره في المجتمع الشيوعي من لم يدرس الماركسية دراسة عميقة ويتمثلها تمثلاً شاملاً وكاملاً. الواجب الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى الماركسيين والشيوعيين هو متابعة مسيرة ماركس ـ إنجلز ـ لينين ـ ستالين بعد أن ضاع أثر مسارها تحت مخلفات الطبقة الوسطى النتنة. واجب الماركسيين والشيوعيين الأولي والأكثر إلحاحاً هو إعادة رسم مسار الآباء الأوائل للشيوعية. لن يتم ذلك إلا من خلال اتحاد فدرالي لكافة الماركسيين والشيوعيين، إتحاد محلي بداية ثم إقليمي من بعد ثم عالمي يتوظف أولاً وأخيراً في النظر الطويل والعميق في كيفية انتقال العالم إلى الحياة الشيوعية من خلال الثورة الإشتراكية بالطبع. إذا لم يفلح الماركسيون والشيوعيون من توليد وريث شرعي أصيل للمشروع اللينيني فعليهم عندئذٍ، كما أرى شخصياً، أن يقعدوا ساكتين ليطرحهم التاريخ خلفه بدون شواهد قبور.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01