فوزالليبرالي بوريس تاديتش في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في صربيا كان مفاجئا بعض الشئ على خلفية نتائج الجولة الاولى، والموقف المتردد لشركاء حزبه الديمقراطي في التحالف الحكومي، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة فويسلاف كوشتونيتسا الذي اشترط عليه مقابل منحه اصوات انصارهم، ربط اتفاق الشراكة و الاستقرار مع الاتحاد الاوروبي ببقاء كوسوفوضمن الدولة الصربية.


وكان منافس تاديتش القومي المتشدد نيكوليتش تقدم عليه في الجولة الاولى بحوالي 200 الف صوت،وهو ما جعل المحللين وانصارالتوجهات الاوروبية في اوساط المجتمع يعتقدون ان الفوز سيكون حليفه في الجولة الثانية، وبالتالي حدوث اختراق تأريخي لصالح التيارات المتشددة التي لم تخف خططها لادخال البلاد في مدار جيوبوليتيكي آخر، اي في فضاء المصالح الروسية المباشرة.


وبالتأكيد ان الانتخابات مثلت استفتاءا شعبيا متميزا حولquot; مع او ضد الاتحاد الاوروبي، حقق فيه الانتصارالاتجاه الاوروبي، الا انه ومع ذلك لم يقدم اجابة قطعية حول quot; مع او ضد بروكسيلquot;، لان النسبة الضيئلة التي تفصل بين توجه المتنافسين تاديتش و نيكوليتش رسمت صورة صربيا منقسمة على نفسها،في سياق تجاذب دولي سافربين روسيا و الغرب جعل من الانتخابات قضية خارجية اكثر مما هي شأن داخلي في حالة مماثلة للوضع اللبناني الذي تحولت فيه الانتخابات الرئاسية الى اكثر من حرب اقليمية و دولية.


وفي الحقيقة ان مرشح المتشددين نيكوليتش راهن خلال الحملة الانتخابية على روابطه بروسيا في مواجهة العلاقات مع الغرب، ولكنه في الايام الاخيرة منها، كرر لاكثر من مرة بانه لا يعارض انضمام بلاده للاوروبي ولكن بشروط مقبولة، محاولا ان يزايد على خصمه الليبرالي تاديتش الذي اظهر في بعض الاجتماعات مع انصاره مواقف اكثر تشددا منه فيما يخص استقلال كوسوفو.


وفي الاشهر الاخيرة كان شعار quot; كوسوفوداخل صربيا وهما معا في الاتحاد الاوروبي quot; قد تحول الى برنامج لكل الاحزاب السياسية الصربية و حتى قبل ان تبدأ الحملات الانتخابية، اذ اصدر البرلمان بيانا عكس اجماع الاحزاب الليبرالية و القومية المتشددة على وحدة اراضي البلاد و سيادتها و استقلالها و حدودها الدولية الراهنة، ولعل السؤال الاكبر الان هو هل سيتمكن تاديتش من التملص من هذا البرنامج - الميثاق الوطني؟


ومن المنطقي اذا ما نظرنا الى الانتخابات الرئاسية الصربية خارج الصورة النمطية للحالة العامة و متطلباتها السياسية و الاجتماعية، فاننا نستطيع ان نعتبرها خطوة تكتيكية، ارادت من خلالها بلغراد ان تحافظ على امكانية استمرار حوارها مع المجتمع الدولي، وفي نفس اظهارمسار الاحداث لو تعرضت التوجهات الاوروبية للكارثة، والقضية الان في محورها الاساسي، هي من هو اكثر حاجة للاخر الاتحاد الاوروبي لصربيا ؟ ام صربيا للاتحاد الاوروبي ؟.
وليس هناك ادنى شك بان الاتحاد الاوروبي بعد فوز مرشحة تاديتش سيرفع من وتيرة حماسته لتوقيع اتفاق الشراكة و الاستقرار مع صربيا، الا ان المسالة المثيرة للجدل هي ليست الاتفاقية ذاتها، وانما موقف الاوروبيين من كوسوفو!.


ولعل من المهم الاشارة الى ان بلغراد تعي حقيقة انها لا تمتلك اية ادوات تستطيع بواسطتها ان توقف تسونامي الاعلان من طرف واحد عن استقلال الاقليم،وما سيعسكه عليها سياسيا واجتماعيا و شعبيا، وهي تجاهد من اجل ان لايحظى هذا الاستقلال باعتراف دولي واسع وشرعية دولية.
ولعل الشئ الغريب و النقيض في الحالة الناشئة هو ان فوز تاديتش يتجه الى تحويل ازمة كوسوفو وبدرجة كبيرة الى قضية تولد داخل الاتحاد الاوروبي، خلافات اكثر مما اجماعا يتيح شرعنة انفصال الاقليم عن الدولة الصربية.


ومثلما لا يستطيع احد ان يدعي ان فوز تاديتش تحقق بفضل المباركة الصامته للراديكاليين، فان النسبة التي حصل عليها نيكوليتش تعكس تناميا للمتشددين في المجتمع الصربي، الى درجة انه لا يمكن رسم سياسية خارجية للدولة بدون هذا الحزب الذي يمتلك الاغلبية النيابية في الوقت الحاضر و بمقدوره ان يحبط اي مخطط للرئيس او الحكومة اذا لم يكن متجاوبا مع توجهاته، مستفيدا من التناقضات و التعارضات بين احزاب التحالف الحاكم نفسه التي يشعر اكبرها quot; حزب كوشتونيتساquot; بالمرارة من الغرب نتيجة موقفه من كوسوفو.


هذا كله يؤشر حالة مرتقبة في نهج الحكومة التي ستبقي حوارا تها المتناسقة و المستمرة مع كل من الاتحاد الاوروبي وروسيا و الولايات المتحدة.
يتفق المحللون على ان الكوسوفيين الالبان سوف لن يعيدوا النظر بمشروعهم الاستقلالي ولن يتراجعوا عن طموحهم التأريخي في الانفصال، وربما تكون الفرصة الاخيرة المتبقية امام الاتحاد الاوروبي هي المبادرة لطرح صيغة لذلك توفق بين المصالح الصربية وتحمي الكرامة الوطنية للشعب الصربي،وبين الطموحات الالبانية في اقامة دولة مستقلة.


واذا ما اعترفنا بانه لم يتبق الا القليل من الوقت لفعل ذلك، فيجب عدم نسيان انه تتوفر ايضا الكثير من المسارا ت الحضارية للحل، لاسيما وان طموحات الصرب و كذلك الكوسوفيين في نهاية المطاف ستجتمع يوما ما عند محطة واحدة هي الاتحاد الاوروبي الموسع، ولكي يحدث مثل هذا التطور ينبغي ان تكون للاوروبي رؤيا واضحة، وان يعتمد الحوارالمستمر مع الطرفين الصربي و الالباني، مهما كان ذلك صعبا على خلفية نزعات التشدد المتصاعدة لدى الطرفين.


ان العديد من المحللين ومنذ وقت طويل يعقدون المقارنات بين التعقيدات المرتبطة بكوسوفو وبين تعقيدات ازمة الشرق الاوسط، وهو امر يحمل عناصر منطقية، ولكن ايضا يوجد شيئ اخر يمكن تسميته quot; الهرم المقلوب quot; اذ في الوقت الذي تتجه فيه المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيلين و تتركز حول انشاء دولة فلسطينية مستقلة من خلال تحسين العلاقات و خلق اجواء من القبول و التسامح المتبادل بين الطرفين، فان مثل هذه العلاقات و القبول المتبادل بين الطرفين الصربي و الالباني لا يتوقع ان يحصل الا في المستقبل البعيد ربما و بعد اعلان الدولة الكوسوفية المستقلة، هذا اذا ما اعترفنا بان الثانية فرصها اكثر بكثير من الاولى، لان البلقان يقع في منطقة الاتحاد الاوروبي الساعي للتوسع وهو امر ينعدم وجوده في الشرق الاوسط حيث افق الانغلاق هو السائد.


الحقيقة هي انه مهما طال الحوار البلقاني في الزمن واستمر لعشرات السنوات، فان الافق امامه يظل جليا وواضحا وهو الاندماج الاوروبي، ومن هنا فان فوز تاديتش ليس فقط نصرا سياسيا وفوزا بموقع رسمي، وانما ايضا امكانية للحفاظ على حوار حضاري على طريق هدف سام.

محمد خلف