نموذج المنطقة العربية

المقدمة:
عاش المسلمون الشيعة في أوطانهم بسلام وآمان مع كافة التكوينات الاجتماعية الأخرى التي تشكل مجتمعات دولهم، حيث كان الاندماج والتعايش السلمي والعيش المشترك سائد بين جميع المواطنين متمثلاً في علاقات متماسكة وروابط اجتماعية قوية ومصالح متبادلة، في ظل الاختلافات المذهبية والاتجاهات السياسية والفكرية المتنوعة، وبالرغم من سياسات السلطات الحكومية في دولهم الموسومة بالتمييز والتهميش اتجاههم. تميز الشيعة بفعالياتهم الايجابية في بناء أوطانهم، متبنين قضايا أمتهم، ومنخرطين في الدفاع عنها في مختلف ساحات المواجهة وخلال الأزمنة المتعاقبة. لذلك أود أن أنبه إلى حساسية الموضوع من الوجهة المذهبية والطائفية التي تمس الشعور الديني عند الفرد المسلم، وأهمية الابتعاد عن التصورات والمواقف المسبقة، مقابل الالتزام الموضوعي باختيارهم لبحث الانتخابات عند التيار الشيعي في الإسلام السياسي، كي لا ندخل في مزايدات أو مشادات كلامية ذات طابع تشنجي عاطفي، تبعدنا عن روح النقاش العلمي الهادف، ولاستخلاص الدروس والتجارب الناضجة من التيارات الإسلامية الأخرى ومدى تفاعلها مع الانتخابات باعتبارها أحد ركائز الديمقراطية.

بناءاً على ما تقدم سوف استعيض عن مصطلحي السنة والشيعة الذين أصبحا ذات طابع مثير للحزازات والتفرقة في المرحلة الراهنة بمصطلح quot; مدرستي الخلافة والإمامةquot;، كتوصيف للحالة الراهنة. والمثير للعجب والاندهاش طول فترة الصراع بين المدرستين، حسب إطلاعي لا يوجد في التاريخ الإنساني خلافات بين مذهبين ينتميان إلى أصل ومنبع واحد، استغرق أكثر من 1400 سنة، تخلل الخلاف حروب دموية، ذهب ضحيتها ما لا يستطيع أحد إحصائه وتبيان فداحة الخسائر الهائلة. والملفت للنظر استدعاء تلك الخلافات والصراعات الدموية من عمق التاريخ واستحضارها في الوقت الحاضر، لتخدم أهداف وتطلعات سياسية للأطراف المتصارعة، كلما لاحت بوادر لرأب الخلاف وإحلال التفاهم والبدء في تجنب الافتراق والتطاحن، والسعي لتحقيق منهج جديد يقوم على التقريب والتفاهم والحوار بين أتباع المدرستين.

منشئ الخلاف دار بعد وفاة النبي محمد(ص) حول كيفية إدارة مسألة الحكم الإسلامي، هل يدار بواسطة الشورى، أو بالتعيين والنص من النبي(ص)، وهذا ما خلص إليه جمع من الباحثين إلى أن طبيعة الصراع كان سياسي. والآن اتجهت المدرستين بعد سلسلة من التطورات الفكرية في إعادة قراءة النص الديني، للقبول بالآليات الديمقراطية لإدارة مسألة الحكم، إلا أن الاقتراب من بعضهما سياسياً لم يتحقق بالمستوى المطلوب، فبدلاً من التفاهم المنشود والعيش المشترك ضمن مفهوم المواطنة في الدولة، دار صراع دموي، وتقاتل على الهوية وقطع الرؤوس في العراق، بينما حل وئام وتفاهم في مناطق أخرى، وتشهد أماكن ثالثة توتر سياسي يفسر عند بعض المراقبين انطلاقه من بعد طائفي تخندقت فيه الأطراف المتنازعة سياسياً.

أولاً - التأسيس الديني/الفقهي لعملية الانتخاب

انطلقت فكرة التوجه للمشاركة السياسية عند مدرسة الإمامة منذ أوائل القرن العشرين على أثر اندلاع الحركة الدستورية، والمسماة أيضاً (المشروطة) على أيدي رواد الإصلاح الديني عند المسلمين الشيعة، مثال آية الله العظمى الأخوند ملا كاظم الخراساني (توفي في عام 1911)، وآية الله العظمى الشيخ النائيني(1860-1936) والعلامة السيد هبة الدين الشهرستاني، والمرجع السيد محسن الأمين العاملي وغيرهم، أملاً في تشكيل حكوماتهم عبر صناديق الانتخاب. مقابل مجموعة عارضة التوجهات الدستورية تضم جمع من علماء الدين على رأسهم المرجع الديني آية الله العظمى السيد كاظم اليزدي(ت1919م) تسمىquot; المستبدة quot;. كان للمشروطين والمستبدين فقهاء ومفكرون، هؤلاء ينظرون وأولئك يفتون ويحشدون الأتباع حولهم، وبطيعة الحال كانت العامة تلتف حول المستبدة، لأن الإقناع بالتغيير أو التجديد له متطلباته الثقافية والحضارية. أما المحافظة على السائد فلا تكلف غير تقوية الوازع الديني، لذا تجد أن أغلب أتباع المشروطية كانوا من المتنورين من أدباء وشعراء ومتمردين على الاستبدادquot; إضافة الى من ذكرت أسمائهم انضم الشعراء أمثال صالح الجعفري والشاعر علي الشرقي وغيرهم.

يعد كتاب quot;تنبيه الأمة وتنزيه الملةquot;، quot; أول كتاب في الفقه السياسي يعالج مسائل الحكم والدولة بخلفية سياسية وأرضية فقهية قوية ونظرة جديد، فهو يؤسس لقيام حكومة إسلامية شرعية تعتمد القانون أو الدستور أساساً لعملها، فيؤصل لمبانيها ويرى مشروعيتها من خلال استدلالاتها الفقهية. ويرى النائيني أن النظام السياسي البرلماني الذي يعتمد على أراء الشعب، والمشابه للنظام البرلماني الغربي، هو أفضل نظام حكم يمكن تعقله. وأن قبوله بصلاحيات السلطان غير المشرعة في نظام ملكي دستوري هو تضحية من أجل تحقيق الأمل الإسلامي في تحقيق العدالة والمساواة.quot;

تسارع تأثير حركة المشروطة في منطقة الشرق الاسلامي بصورة واسعة غير مكترثه بالحدود الجديدة للدولة القطرية المؤسسة حديثاً في تلك المرحلة الزمنية، فالدين (أي دين كان أو أي عقيدة روحية) بطبيعته وتأثير قياداته المرجعية العليا عابر للحدود، يمتلك وزعمائه الروحيون (بغض النظر عن جنسياتهم) قدرة فائقة على تحريك الشعوب من خلال إثارة العصب الديني عبر التوجيه أو الفتوى صاحبتا التأثير السحري على تحريك وتعبئة الجماهير بالاتجاه الذي يريدونه.

يختلف النائيني عن الآخرين في تناوله لقضايا الفقه السياسي الاسلامي خصوصاً قضية بناء الدولة، التي ركب بنائها على شرعية مشاركة رعايا الدولة في نظامهم السياسي. فكل الذين كتبوا في شرعية الحكم عند مدرستي الإمامة والخلافة، كالأحكام السلطانية للماوردي أو منظري حكم الخلافة القائمة عند المسلمين، وكذلك مبدأ ولاية الفقيه عند قسم من الإمامية، وغيرها من الدراسات الدينية السياسية، كلها تتناول بالبحث طريقة تولي الحكم، ومدى شرعيته، وصفات الحاكم وصلاحياته، من دون التطرق إلى دور المسلمين، وموقفهم ودورهم في اختيار النظام والحاكم، وليس الاقتصار على قيام المسلمين بتقديم البيعة والسمع والطاعة. فجاءت أطروحة الشيخ النائيني لتتحدث عن أهمية مشاركة الناس في بناء الدولة، واختيار السلطة وتقيد الحاكم بدستور يكتبه الأعضاء المنتخبون، بمعنى quot;ولاية الأمة على نفسهاquot;، وهي النظرية التي طرحها وطورها الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، فيما بعد في مقابل نظرية ولاية الفقيه .

والأطروحة استندت عبر التأسيس على المسلمات العقلية، وهي دليل واضح على العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والسياسة، لاسيما في الانطلاق من ضرورة النظام ثم تحديد النظام الأفضل، وضرورة وجود الرابطة السياسية، باعتبارها مدخلاً موضوعياً لتطوير الإنسان، وتنمية الفضائل، وحفظ النوع الإنساني، هذه الرابطة التي تقوم على أساس رؤية فلسفية للكون والوجود والإنسان، باعتباره أيضاً المالك للذكاء والعقل، والمؤهل للارتقاء وتسخير الكون، واكتساب الفضائل والمعارف quot;.

يتحدث المؤلف في كتابه quot; تنبيه الأمة وتنزيه الملةquot; عن بناء الهيكل الدستوري للنظام السياسي للدولة الدستورية في أطروحته، منطلقاً من تحكيم العقل الإنساني القاضي بأهمية وجود الدولة الناظمة للاجتماع الإنساني، كما جاء في مقدمة رسالته حيث ينطلق النائيني من العقل الإنساني بصورة عامة، دون التركيز على البعد الديني حين يقرر أهمية وجود الدولة لدى كل الشعوب والأمم quot; ثمة مسلمة توافق عليها جميع الأمم، وأقرها جميع عقلاء العالم، مفادها أن استقامة النظام العام، وانتظام حياة البشر، مرهون بوجود الدولة ذات السلطة القادرة على فرض النظامquot; .

تواجه الأطروحة إشكالية مهمة ومرتكز في الفكر السياسي الشيعي، هي غصبية الدولة(عدم شرعيتها) في عصر غيبة الإمام المنتظر. ولحل الإشكالية أعاد إنتاج ما توصل إليه فقهاء التأسيس الشيعي الأثنى عشري الأوائل، شيخ الطائفة المفيد(ت 1022م)، ونقيب الطالبيين السيد المرتضى(ت1044م)، وشيخ الطائفة الطوسي، بعد غيبة الإمام المنتظر في عام 329هـ، لإعطاء شرعية من نوع ٍ ما لحكم آل بويه الموالي للشيعية، وهي التفريق والقسمة والتمييز بين حقين، حق الله الديني، وحق الناس المدني الاجتماعي السياسي، فالناس ترجع الى الفقهاء في الحقل الديني، وترجع في أمورها المدنية الى السلطة القائمة. وأكد التوجه المذكور العلامة ابن إدريس الحلي من كبار علماء المسلمين الشيعة هذا التقسيم في كتابه السرائر. quot; أما عند النائيني فيرى، حق الناس أن يحكموا دستورياً، وحق الإمام في الإمامة الإلهية، وهذا التفريق بين الحقين يمهد لفك التلازم بين الإمامة والسلطة في عصرنا الحاضر وهو زمان غيبة الإمام الغائب المنتظر. ويفترض النائيني بناءاً على تلك القسمة، أمكانية التخفيف من حدة الطبيعة الغصبية للسلطة، وإحالة السلطة من الملكية (= السلطان الشخصي القهري الإستبدادي) الى الولاية (= السلطان الدستوري المقيد التمثيلي)quot;.

كما جاء في رسالة النائيني تنظيراً فقهياً لشرعية الانتخاب حين أعتبره عقداً من العقود كما في عقد البيع مثلاً المتضمن شروط نفاذ العقد وفسخه، فالانتخاب هو عقد بين الناخب والمرشح على تنفيذ وعوده أو برنامجه الانتخابي. وهي بذلك شرعت للديمقراطية، quot; ومن دون أن يجعل مصنفها وهو من مراجع الدين الكبار الذكورة شرطاً من شروط دخول البرلمان والحكم بشكل عام، كتصويت أو الترشيح. كذلك لم يجعل الهيئة التشريعية محتكرة لدين أو مذهب، وجعل التعليم هدف الدولة المنتخبة الأول، وجعل العدالة والمساواة والحرية أصول مقدسة quot;.

النائيني أبتعد قليلاً عن خصوصيات التراث الشيعي، لم يركز على تأكيد الإمامة، ونيابة الإمام الغائب أو ولاية الفقيه، عندما تبنى فكرة تقييد سلطة الحاكم وتوسيع السلطة الشعبية. بل يقدم أطروحة إسلامية شاملة بعيدة عن الخصوصية المذهبية، أطروحة تعتمد على التراث الإسلامي ككل دون الاستغراق في الخصوصية الشيعية، متفادياً السجال العنيف بين الإمامة والخلافة.
فالنائيني يبني أطروحته على قاعدة الشورى، ليؤسس دولة إسلامية دستورية برلمانية. لقد تجاوز الحاجز المذهبي عندما يستشهد بسيرة الخليفة عمر بن الخطاب عندما اعترض بعض المسلمين عليه لأنه ارتدى ملابس غالية. ثم يستنتج النائيني (نستطيع الإدعاء بأن الخليفة، شأنه شأن بقية الحضور، قد داخله السرور، حينما سمع هذا الجواب(إذن لقومناك بالسيف)، لما ينطوي عليه من تأكيد على استقامة الأمة ووعيها بمضامين العلاقة بينها وبين الحاكم، وتمسكها بحقها الثابت في الرقابة على الوالي ومحاسبته على سياسته). وكذلك يشير في رسالته للعديد من الاستشهادات برأي مدرسة الخلافة، كما في دحض مبررات السلطة الاستبدادية quot; أن أهل السنة لا يعتبرون التنصيب الإلهي ولا العصمة في ولي الأمر بل أقاموا الولاية على انعقاد بيعة أهل الحل والعقد لشخص معين. فان الولاية عندهم مشروطة بعدم تجاوز حدود ما أقره الكتاب المجيد والسنة المطهرة، بل اعتبروا ذكر الشرط لازماً في عقد البيعة ذاته quot; . إضافة الى ذلك يستشهد برأي مدرسة الخلافة في مشروعية مجلس الشورى .

كتب العديد من الباحثين دراسات وبحوث وبلغات متعددة عن رسالة الغروي النائيني: منهم على سبيل المثال، الدكتور توفيق السيف في كتابه quot;ضد الاستبدادquot;، وبذل الباحث الدكتور فالح عبد الجبار جهداً كبيراً في تقديم الأطروحة للقارئ في العديد من الدراسات وضمّنها في كتابه quot;الحركة الشيعية في العراقquot; وله بحث في مجلة quot;الثقافة الجديدةquot; العراقية العدد 296. تحت عنوان quot; النظرية السياسية للتيارات الشيعية الراديكالية في القرن العشرينquot;. وكتب أيضاً الدكتور إسحاق النقاش في كتابه quot;شيعة العراقquot;، والنقاش باحث متخصص في الدراسات الشيعية ومدرس التاريخ الحديث في الشرق الأوسط في العديد من الجامعات الأمريكية . وإشارة الأستاذ فهمي هويدي للرسالة في كتابه quot;إيران من الداخلquot;. أصبح مؤلف تنبيه الأمة وتنزيه الملة، مصدراً مهماً في كتاب عالم الدين الشيخ محسن كديفر في كتابه quot;نظريات الحكم في الفقه الشيعيquot; والمتضمن نقد علمي لمبدأ ولاية الفقيه الحاكمة في إيران ، ولا يسع المجال لسرد تفاصيل عشرات المقالات والبحوث حول الأطروحة الدستورية الإسلامية، خصوصاً ما تم تناوله في الذكرى المئوية لإصدارها عام 2006 في العديد من الجامعات الأمريكية والأوربية، باعتبارها نموذجاً إسلامياً للحكم الديمقراطي.

ثانياً- التأسيس السياسي للانتخاب

جرى التأسيس السياسي على ضرورة المشاركة الشعبية في الانتخابات عند مدرسة الإمامة، مبنياً على الممارسات القمعية والتهميش والحرمان التي انتهجتها الدولة العربية الحديثة ضد التكوينات الدينية والاجتماعية والاتجاهات السياسية المعارضة لمعاهدة سايس- بيكو. وبالتالي ضد الحكومات التي تأسست بموجبها، وأستمرت على نهجها تلك الأنظمة طبقاً لبنود المعاهدة التي بدءاً نفاذها بعد الحرب العالمية الأولى، فتكونت دول ذات نظام جمهوري وأخرى ملكية وثالثة سلطنات ومشيخات، امتلكت الدولتين البريطانية والفرنسية، قوة التأثير والنفوذ الكبيرين على هذه الأنظمة عبر الانتداب أو الوصاية أو من خلال علاقات ارتباط وثيقة الصلة مع الدولة القطرية الحديثة.

فالنظام العربي الذي تكون واستمر إلى الوقت الحاضر، يضم بين طياته صفحات سلبية في طريقة التعامل مع الوجودات السكانية الوطنية غير العربية أو المختلفة دينياً أو مذهبياً أو قومياً أو لغوياً أو قبلياً في الدولة الحديثة، بالرغم من تأسيس الدولة الحديثة على مبدأ المواطنة، لكن استبداد الأنظمة وقمعها لمواطنيها، تفاقم وتعاظم من أجل الحفاظ على التحكم والتسلط على رقاب الشعوب. ففي الشرق العربي انتمى دعاة القومية العربية( إحدى الركائز الأساسية في النظام العربي ) وقسم كبير منهم في العراق وسوريا ولبنان من أصول تركية إلى المدرسة القومية المعتمدة على القوة quot;التوجه البسماركيquot; وتطرف الكثير من أولائك القوميون بالدعوة للصهر القومي لـغير العرب من التكوينات الاجتماعية الأخرى كالأكراد، والتركمان، والأشوريين...الخ، وتجاهل الحقوق المدنية وحتى الثقافية للقوميات والأديان المتعددة والمذاهب الأخرى (للملل والنحل في العالم العربي) ، فالنظام العربي، لم يستوعب ويحتفظ بعلاقات إنسانية مع التكوينات التي تعايشت بسلام وآمان منذ الأزمنة البعيدة في منطقة الشرق الأوسط. بل خاض ولا يزال معها صراعات سياسية وصلت في بعض المناطق وخلال أزمنة محددة إلى نزاعات مسلحة في طول العالم العربي وعرضه.

كان نصيب أتباع مدرسة الإمامة من هذه الصراعات والأزمات كبير، سواء في الحرمان والتهميش من الحياة السياسية أو في الاشتباكات المسلحة. وهذا ما يفسر لنا لجوء العديد من مثقفي مدرسة الإمامة للعمل و الانخراط في الحقل السياسي المعارض غير الديني، بدافع قوي من الشعور quot; بالمظلومية quot; باحثين عن كل سبيل يشاركون فيه بالقرار السياسي لبلدهم، بالتضامن مع المكونات السياسية/الاجتماعية المتعددة في المجتمع. ناهيك عن الشروع في تأسيس تجمعات سياسية كاملة تنتمي إلى مدرسة الإمامة، حيث أنشأت على أسس من رد الفعل اتجاه تغول وتعسف السلطات الحاكمة، مشاركةًً قوى المعارضة أياً كان انتمائها واتجاهاتها السياسية والفكرية في معارضتها لاستبداد الأنظمة المتسلطة. ولعل أكثرية الشعب العربي في الوقت الحاضر عقب هبوب الرياح الديمقراطية، سواء انتمى مذهبياً إلى إحدى المدرستين يتشاركون بطريقة عفوية شاءوا أم أبوا بتعامل وتفاعل في مقارعة الدكتاتورية، ويكافحون سوية ً الاستبداد والظلم والتمييز، ويناضلون جميعاً نحو هدف إقامة نظام دستوري برلماني تعددي ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويقيم دولة العدالة والمساواة والقانون، تتشارك وتتعاضد فيه جميع مكونات الشعب من دون تمييز، باستثناء القوى الدينية المتطرفة والمتشددة التي اختارت هي بنفسها أيدلوجيه خاصة بها، تتسم وتتوسل العنف وسيلة لإقامة مشروعها.

إلا أن التيار السياسي من مدرسة الإمامة في العراق، فشل في تحقيق الأهداف السابقة، فشكلت الانتخابات تراجعاً الى الوراء التي أجريت في ظل استقطاب طائفي اثني حاد، أنتجت نظام المحاصصة الطائفية والأثنية في بناء الدولة والنظام على أنقاض الدكتاتورية، وبموجب الهويات الفرعية وليس على أساس الهوية الوطنية العراقية الجامعة. بتشجيع من قوات الاحتلال أولاً ومجلس الأمن الدولي ثانياًُ عندما أقر العملية السياسية التي تعثر تنفيذها، مما وضع العراق في دوامة وفوضى سياسية وأمنية. لا يتحمل التيار السياسي من مدرسة الإمامة أفعال الجماعات المتطرفة المحسوبة عليه، كما لا يتحمل وحده أيضاً مسؤولية الفشل السياسي والأمني، بل تشاركه الكثير من القوى الإرهابية المحسوبة على مدرسة الخلافة، وما تبقى من نظام البعث الصدامي، ودول الجوار الجغرافي التي جندت وغذت التطرف والإرهاب، ويساهم النظام العربي في المسؤولية عندما ترك شعب العراق لوحده، فهيمنت عليه نفوذ القوى المتصارعة بدءاً من دول التحالف وصولاً الى إيران وتركيا وسوريا والقوى السلفية الدينية المتطرفة فيدول خليجيةوالأردن، ناهيك عن دور القوات الأمريكية والبريطانية في تحمل مسؤولية الفشل في إحلال الاستقرار السياسي والأمني وبناء الاقتصاد الوطني .

نماذج من الانتخابات العربية
أولاً ndash; العراق -

منتمي مدرسة الإمامة من العراقيين لا يجمعهم كيان سياسي واحد، يمتلك برنامج انتخابي متفق عليه، ولا قيادة سياسية موحدة، كما هو الحال في القيادة المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد السيستاني بالتضامن مع بقية المراجع. ولكن يمكن القول أنهم يشتركون في وجهة نظر دينية متماسكة. الملاحظ أن أتباع مدرسة الإمامة وفي أي بقعة يتواجدون فيها، قد ينظمون أنفسهم في أحزاب وتجمعات سياسية أو في ظل قوائم انتخابية في أوطانهم، للمساهمة في رفد الحياة السياسية عبر مشاركتهم في سلطة أوطانهم ولدعم دولتهم، وغالباً تبنى التجمعات على أسس وطنية.

ولأجل المشاركة في الانتخابات العراقية، شُكل تحالف من الأحزاب الدينية السياسية، وجمع من المستقلين، وآخرين مرتبطين بمكتب المرجعية الدينية، وعدد من الوجهات الاجتماعية، وبعض العشائر، تحت أسم الائتلاف العراقي الموحد-UIC - Unified Iraqi Coalition بدعم وتوجيه من المرجعية الدينية في الدورة الانتخابية الأولى عام 2004 لتشكل رقماً انتخابياً قوياً ولتحسين موقع التيار الشيعي من الإسلام السياسي في النظام العراقي الجديد.

جرت انتخاب الجمعية الوطنية وفاز الائتلاف بأغلبية واضحة، كانت مهمة الجمعية الوطنية الرئيسية كتابة الدستور الدائم وتهيئته للأستفتاء العام، والذي تمت الموافقة عليه بأغلبية كبيرة في استفتاء عام، رغم احتوائه على فقرات لم تحظى بموافقة نواب وجمع كبير من منتسبي مدرسة الخلافة واتجاهات سياسية عراقية أخرى غير دينية، فشكل الدستور موضع عدم اتفاق بين العراقيين، مما أفرغه من أسمى مهمة له باعتباره عقد اجتماعي يجمع بين العراقيين.

فاز الائتلاف العراقي الموحدة في الدورة الثانية بدعم غير صريح من المرجعية الدينية بعكس الدورة الأولى، التي نظمتها لجنة مكلفة من المرجعية الدينية، ويشير العديد من المراقبين للوضع أن دور المرجعية الدينية في الانتخابات، انعكس بشكل سلبي عند جموع من العراقيين وترجمت إلى اتخاذ مواقف متشنجة، أدت إلى تناحر وخصومات داخل المجتمع الإمامي. الملاحظة الفارقة في الانتخابات تضاعف استعمال الرموز الدينية بشكل مكثف، فنسجت من خلالها قصص وأساطير تحكي ضرورة دعم قائمة الائتلاف، التي ضمت 18 كيان مرضياً عليها.

وفي الوقت نفسه دخل الانتخابات 17 كيان سياسي/ ديني أخر لم ينضم إلى الائتلاف العراقي الموحد، ليكون المجموع الكلي للكيانات السياسية الدينية لأتباع مدرسة الإمامة التي اشتركت في الانتخابات 35 كيان مسجلين لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والتي عينتها الأمم المتحدة. وهناك أكثر من 70 كيان سياسي غير ديني شارك في الانتخابات، شخصياتها معروفه بانتمائهم الى مدرسة الإمامة مذهبياً، فأصبح العدد المشارك من أتباع هذه المدرسة في الانتخابات أكثر من 105 من المجموع الكلي للقوائم 309 كيان التي تنافست على مقاعد البرلمان العراقي البالغة 275 مقعداً .

ثبت من تجربة الانتخابات العراقية أن المرجعية الدينية لعبت دوراً هاماً في الانتخابات النيابية وكتابة الدستور من ممثلين منتخبين، طبقاً لنظرية الشيخ النائيني في كتابه quot;تنبيه الأمة وتنزيه الملةquot; لأن السيد السيستاني من المدرسة الدستورية التي ينتمي إليها أستاذه المرجع الإمام الخوئي. وهذا ما يفسر لنا إصرار آية الله السيستاني على إجراء الانتخابات وكتابة الدستور، وحث الأمم المتحدة على إجرائها سواء في كل لقاءاته مع مبعوث الأمين العام السيد الأخضر الإبراهيمي أو فيما بعد مع السيد دي ميلو الذي قضى نحبه في تفجير إرهابي دموي لمقر الأمم المتحدة في بغداد، ولاحقاً الأستاذ غسان سلامة .

نظمت قائمة الائتلاف العراقي الموحد حملتها الانتخابية عبر: تشكيل لجان شعبية محلية مهمتها تعبئة الناخبين وراء قائمة الائتلاف، وإدامة الاتصال مع جمهور الناخبين، وجرى إخضاع واسع للمفاهيم والتفسيرات الدينية بشكل تعسفي في الحشد الانتخابي، ولعب مكتب المرجع السيستاني الدور المركزي في التوجيه والإرشاد. شكل دوام الاتصال بمفوضية الانتخابات دور فاصل في مراقبة الانتخابات، وكان لدور وكلاء المرجعية الدينية وعملهم في صفوف الجماهير تأثير في فوز الائتلاف، كذلك شاركت تنظيمات التيارات السياسية الشيعية في حملات التوعية و التعبئة مركزين على:

مظلومية منتمي مدرسة الإمامة منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وإقصائهم عن دورهم السياسي في وطنهم.
الدعوة لعدم تكرار الأخطاء السابقة بعد فشل تحصيل مكاسبهم السياسية من ثورة العشرين، وفي بداية تكوين الدولة العراقية التي حُرم العمل في دوائرها، وجسد ذلك ابتعاد علماء الدين عنها و عدم تأييدها.

جرت الانتخابات في ظل غياب البرامج الانتخابية. وما جرى من انتخابات عبارة عن تنافس وفوز قوائم طائفية/اثنية بعيداً عن التنافس السياسي الوطني. فازت قائمة الائتلاف لأنها مؤيدة من المرجعية الدينية. والناخب لا يملك أي ثقافة انتخابية - بسبب عزل العراق عن العالم الخارجي في ظل نظام السابق- تؤهله لانتخاب القائمة التي تعبر عن مصالحه، بل انساق الى التوجيه الديني عبر الحملات الانتخابية. قدمت شكاوى عديدة حول استعمال الرموز الدينية في تلك الحملات، والممنوعة حسب قانون الانتخاب العراقي. مما دفع مفوضية الانتخابات المستقلة لأجراء تحقيق واسع حول دور آية الله السيستاني، هل هو رمز ديني أم مرجع ديني؟ في النهاية اتخذت قراراً بكونه مرجعاً دينياً وليس رمزاً دينياً.

ثانياً ndash; لبنان -

أحتل أتباع مدرسة الإمامة في لبنان ما بعد الحرب الأهلية، مكانة سياسية فاعلة ، وعلى الخصوص بعد عام 1985 في بيروت بعد حركة 7 شباط الشهير، حيث كان الحضور السياسي لهم يترجم من خلال نشاط يقوم به عادة الوافدون إلى العاصمة وضواحيها من مناطق الجنوب والبقاع والجبل. وظلت الكتلة النيابية التي تتعاطى الشأن السياسي من مدرسة الإمامة محكومة بسلوك غير مضبوط الاتجاه، الى أن جاء الاستحقاق الانتخابي الأولى بعد اتفاق الطائف عام 1992، حين ظهرت القوى الجديدة، المؤثرة بصورة معلومة، وبدأ الضمور الفعلي للكتل التقليدية فاقعاً حيث فقدت كافة مراكزها إلا ما ندر منها التي تماشت مع التغيير، كذلك الانحسار الكبير لنفوذ القوى السياسية ذات الطابع القومي أو اليساري، وتراجع النخب السياسية المؤثر في الوضع اللبناني عن الـتأثير الفعلي، لصالح التيار الإمامي الإسلامي الذي بدء بحركة quot; أمل quot; كمنطلق ومن ثم أكمل quot; حزب الله quot; بممارسة أكثر تشددا ً نحو الطرح الإسلامي.

كانت المشاركة من مدرسة الإمامة في ارتفاع دائم في التجربة الانتخابية اللبنانية، حيث أظهرت النتائج أن القوى المتنافسة في الدوائر التي يعتبر بها أتباع مدرسة الإمامة أقلية هم بحاجة فعلية الى الصوت الذي يمثله أبناء المدرسة الإمامية، وإليك هذه المقاربة، حيث أظهر سلوك الناخب الإمامي في أحدى الانتخابات انه صوت 100% لصالح المرشحين من مدرسة الخلافة والأرثوذكس، وبنسبة 70% للمرشح الكاثوليكي، و66.5% للمرشح الدرزي، و61% للأقليات ونزولاً حتى 47% لمرشح الأرمن الكاثوليك ( النسب المشار إليها في المناطق التي يعتبر فيها أتباع مدرسة الإمامة أقلية).

إلا إن الأوضاع تغيرت كلياً في لبنان من بعد اغتيال الرئيس الحريري، و ظهور قوى سياسية جديدة على الساحة اللبنانية تبلورت في التيارين الأساسيين الأول قوى 14 آذار (الموالاة) والثاني قوى 8 آذار (المعارضة)، وما تلى ذلك من انسحاب القوات السورية، مسلسل الاغتيالات المبهمة الفاعل، والحرب العدوانية الصهيونية على لبنان صيف 2006، وما حققت من نتائج مذهلة في صمود الشعب اللبناني ومقاومته الباسلة ضد الهمجية الصهيونية، وصعود حزب الله كرأس الحربة في المقاومة، وقصفه الصاروخي للأراضي الإسرائيلية، غير من موازين القوى في الساحة اللبنانية بعد الحرب، إضافة الى تشكيل تحالفات جديدة تمثلت في المولاة والمعارضة. وظهرت حرب المخيمات في نهر البارد وما قامت به التنظيمات الإرهابية من السلفية المقاتلة، شكلت دافع قوي للقوات المسلحة اللبنانية بالسيطرة على الأوضاع، وإبقائها كقوة رمزية تحفظ السلم الأهلي اللبناني باتفاق جميع اللبنانيين، وكل هذه التطورات وغيرها من تدخل الدول الخارجية.

أثرت بشكل مباشر على التحول الديمقراطي وعطلت العملية الانتخابية، إلا أن اتفاق اللبنانيين على تسمية قائد الجيش رئيساً للبنان، شكل خطوة ايجابية لكنها بقيت مكانها بسبب تعقيدات الوضع السياسي. يخشى العديد من المراقبين أن تكون الانتخابات القادمة خطوة الى الوراء تزيد في الانقسام الطائفي الحاد الموجود أصلاً في النظام اللبناني، وهذه الخشية مرهونة باتفاق الأطراف السياسية في لبنان.

ثالثاً مملكة البحرين

انتظم الإسلاميون السياسيون من مدرسة الإمامة في البحرين، بـ جمعية الوفاق الوطني الإسلامي وهي تنظيم يمثل الإسلام السياسي الإمامي، يرأسها الشيخ علي السلمان، كان ينشط في داخل البحرين ثم أضطر للجوء إلى بريطانيا، ليتعاون مع عدد من المقيمين والمنفيين الإسلاميين الإماميين المعارضين في الخارج والعاملين في تنظيم سياسي معارضة يسمى quot; تنظيم أحرار البحرينquot;.

عاد إلى البحرين مع أغلب المعارضين، وقادة تنظيم أحرار البحرين إلى البلاد بعد إعلان الإصلاحات الدستورية في مملكة البحرين من قبل الملك حمد آل خليفة، وتم تعين عدد من المعارضين بمناصب حكومية عليا. تشكلت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية لتعبر عن التوجهات السياسية للجمهور السياسي من مدرسة الإمامة، وصوتت الجمعية مع أغلبية شعب البحرين لصالح الإصلاحات الدستورية، كما ورد في برنامج الجمعية quot; عندما قرر شعب البحرين التصويت quot;بنعمquot; لميثاق العمل الوطني في فبراير 2001 لما احتواه من تأكيدات على مكتسبات الدستور العقدي ndash; دستور 1973- وعدم المساس بها أو تجاوزها والتي أكدتها الضمانات الرسمية الكثيرة، كان ينظر إلى الميثاق على انه المشروع الذي سيخرج البحرين من دوامة التوتر الأمني اليومي والاحتقان السياسي الشال للحركة التنموية الى واحة أرحب من الديمقراطية والحياة العادلة الكريمة.quot;

إلا أن وحدة الجمعية تعرضت للانشقاق باتجاهين متعاكسين، فقد خرجت مجموعة من المتشددين وسمت نفسها quot;مجموعة الحقquot; برئاسة حسن مشيميع لعدم الاحتجاج القوي المعارض والشديد من جمعية الوفاق عن ما سمته المجموعة النكوص عن الميثاق الوطني الذي صوت عليه من قبل شعب البحرين، عندما شرع دستور جديد يختلف عن دستور 1973 الذي تطالب الجمعية بإقراره كدستور للبلاد.

و الانشقاق الثاني عن الجمعية برأسه الدكتور نزار البحارنة وجمهرة من الإصلاحيين في الجمعية، احتجاجاً على عدم مشاركة الجمعية في دورة الانتخابات الأولى، وامتناعها عن تكملة المشوار الإصلاحي عندما سن الدستور جديد ، وهذا ما أورده البرنامج الانتخابي حيث نص على quot; إلا أن ما جرى من إصدار لدستور جديد وبإرادة منفردة في فبراير 2002 هبط بآمال الشعب الى ادني المستويات، لذا قررت غالبية الشعب وقواه الوطنية المقاطعة للانتخابات البرلمانية كموقف وطني احتجاجي لنعرف المجتمع المحلي والخارجي بما جرى من تراجعات على المستوى الدستوري. وقد أحبطت كل الدعوات المخلصة طوال الأربع سنوات المنصرمة الساعية لإحداث حوار وطني جدي للخروج من المأزق الدستوريquot;.

ومثـّل السياسيون من مدرسة الإمامة في الدورة الأولى للبرلمان البحريني (مجموعة الدكتور محمد علي الستري) المستشار الحالي للملك، حيث حصلت على 11 مقعد برلماني، ولدلالة النضج السياسي فقد حصل تعاون وتنسيق بين هذه المجموعة وجمعية الوفاق الوطني. عادت الجمعية واشتركت في انتخابات الدورة الثانية بقوة، وحصلت على 18 مقعد نيابي ليترأس الشيخ علي السلمان المعارضة البرلمانية داخل قبة البرلمان، فاتحاً صفحة حياة سياسية جديدة بكل ممارساتها ونتائجها.

وقد عبّر برنامج الجمعية الانتخابي بكل وضوح عن سبب مشاركة الجمعية في الانتخابات الثانية quot; ونشارك اليوم لنكمل ما بدأنها من ضغوط للوصول الى توافق دستوري جديد وكي نمنع الفاسدين في النظام من السيطرة مرة ً أخرى على قوى الشعب والتمادي في التحكم في موارد البلاد ومن زيادة تعقيد الملفات المثقلة أصلاً، وتكبيل الحريات بقوانين قمعية جديدة، لا تقل قمعية عن قوانين أمن الدولة البائدة، وحتى نقارع الفساد المستشري في أجهزة السلطة بعناوين جديدة كاستملاك الأراضي والخصخصة والمشاريع الكبيرة الأخرى، ونحسن من وضع التعليم الذي أصبح يتهددنا ببطالة مقنعة متجذرة بعد أن كنا نعاني من البطالة البسيطة. فالواقع الذي يفرض اليوم على الشعب من زيادة مضطردة في مستوى الفقر، وتسارع التجنيس العشوائي السياسي المفتت للبنى الاجتماعية والمرهق لخدمات الدولة، وتصاعد الأصوات الطائفية وممارسات التمييز، كل ذلك في ظل وفرة مالية وأجواء عالمية متوترة، خصوصاً التأزمات في منطقة الشرق الأوسط ، واقع قد يصعب تغييره مع مرور الزمن، لم يترك المجال للقوى الوطنية إلا أن يكون لها تمثيل قوي داخل البرلمان رغم تحفظها على الدستور الجديدquot;.

لقد تعلمت الجمعية من تجاربها الكثير، ودخلت الى عمق الحياة السياسية السليمة، منخرطة في الحصول على انجازات تمرر بقوانين وقرارات يصادق عليها البرلمان كي تلزم الحكومة تنفيذها، تحت مراقبة البرلمان، بعيداً الحياة المرتجة والقرارات السريعة أو ما يعبر عنها بالثورية كبديل عن الشرعية الدستورية، وعززت الوفاق الوطني دورها الجماهيري، وأثبتت قدرتها على مسك الشارع الإمامي الاحتجاجي، كما عبرت عنها أحداث السنوات الماضية، لذلك كان من المفروض أن تستجيب السلطة في البحرين لمطالب الوفاق الملحة، لضمان استمرار دورها السلمي ولطمئنت جماهيرها بصحة النهج الديمقراطي البرلماني. وبعكسه سوف تحصل ردة ويتقوى التيار المتشدد، وستعود الحلول الأمنية المستندة الى حالات وقوانين الطوارئ وتعطيل الحياة البرلمانية للواجهة مرة أخرى.

إن انتهاج سياسة إضعاف الوفاق يضر بسلطة الحكومة، ويعرض البلاد الى أزمات خانقة وضياع للمكتسبات الدستورية، لما تتمتع به من هيمنة على الشارع تحتاجها البلاد للاستقرار السياسي، وقد أثبتت ذلك قدرتها في أحداث أول السنة الجارية، عندما هدئت مظاهرات الاحتجاج على مقتل احد المتظاهرين على أيدي رجال أمن الدولة.

شكلت الانتخابات في البحرين خطوة متقدمة وايجابية في توطين الديمقراطية داخل مجتمعاتنا القلقة والـ غير المستقرة، فالبرغم من العديد من الاضطرابات والتظاهرات التي جرت خلال السنوات الماضية، إلا أن القيادة السياسية لمملكة البحرين والمعارضة البرلمانية بقيتا مصرة على النهج الاصطلاحي الديمقراطي وإن كان بطيئاً، والمملكة بحاجة الى تسريع في مجال التنمية الاقتصادية ومكافحة الفقر والبطالة، لأحداث الاستقرار الاجتماعي والحياة السياسية والسليمة.

انتخابات أخرى

كما جرت انتخابات دستورية في العديد من الدول العربية الأخرى التي يتواجد فيها أتباع مدرسة الإمامة، في كل من عُمان والكويت، تمثلوا في برلماناتها وشغلوا مواقع سلطوية عليا في الدولة، بعد أن أدرك حكام تلك الدول بان المشاركة السياسية لجميع المكونات الشعبية المتعددة، تحقق الاستقرار الاجتماعي ويبني حياة سياسية سليمة، تمارس فيها آليات الديمقراطية بأي مستوى كان، أفضل بكثير من السلطة المستبدة، فكانت الانتخابات خطوة متقدمة الى الأمام. أما في المملكة العربية السعودية فقد جرت لأول مرة انتخابات البلدية وشارك فيها بكثافة منتمي مدرسة الإمامة وحصلوا على تمثيل متقدم في مناطقهم. أملين أن يتحقق اليوم الموعود بإجراء الانتخابات النيابية.

الاستنتاجات النهائية

الحركة الدستورية في الشرق الاسلامي وما تبعها من حركات مثل ثورة العشرين في العراق، وتشريع دستور من وحي الحركة في إيران والعراق وغير ذلك في بلدان المختلفة، أثمرتا عن تطور واسع النطاق وعميق الغور، في الأوساط العلمائية والمجتمع الديني في المنطقة، وأحدثت تطور ثقافي واجتماعي واسع، لكن هذا التطور لم يستثمر بشكل المتوقع والمطلوب عند تنظيمات التيار الشيعي في الإسلام السياسي، عند الشروع في تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي. لكن تصاعد الأوضاع في العراق وسقوط النظام البعث السابق، برزت دعوات ملحة لكتابة دستور عراقي جديد، وإجراء انتخابات استجابة لنداءات آية الله العظمى السيد السيستاني. وهذا ما يفسر العديد من الأحداث التي مرت فيها الانتخابات العراقية والإقبال الشعبي الكبير على ممارستها.

تعد المشاركة في الانتخابات من الممارسات المرحب بها بشدة شرعياً، وهي تقترب عند بعض الفقهاء من الواجب الشرعي. مما يظهر أتباع مدرسة الإمامة كقوة انتخابية مهمة تفرض نفسها في العمل السياسي في كل البلدان التي يتواجد فيه المسلمون من أتباع مدرسة الإمامة.

تعتبر النجف الأشرف في العراق مقر المرجعية الدينية، { وهي ليست كغيرها من المدن والمجتمعات، إنها مدينة دينية بمعنى الكلمة، ومغلقة لمذهب ودار لحوزته العلمية. يأتيها الطلبة quot;من كل فج عميقquot;. وكل يحمل ثقافته ومفردات لغته وطبائع مجتمعه، والكثير منهم يتوطنون، ويبرزون مراجع دين كبار، يذوبون داخل المجتمع النجفي، ولا يبقى من ولائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم الأصلية شيء. وهي بهذا المعنى حاضرة دولية، يتعقد داخلها الصراع الحضاري بين أقوام واتجاهات. يحصل هذا من دون المساس بهويتها، وشخصيتها القيادية بالنسبة لشيعة العالم.فما إن تناول علماؤها موضوع المشروطية والمستبدة، القادم من إيران وتركيا، حتى أصبحت هي عاصمة الصراع، ومركز الإفتاء في هذا الأمر}. فإذا كانت هي المركز حسب ما تقدم، فان منتمي مدرسة الإمامة في البلدان العربية الأخرى تعد أطراف (لبنان، البحرين، الكويت، عُمان، السعودية،الأمارات،...) فالعلاقة بين المركز والأطراف وثيقة جداً، إلا أن الملاحظ في السنوات القليلة الماضية التي جرت خلالها الانتخابات، أن الأطراف كانت أكثر نضجاً سياسياً في ممارسة الانتخابات من المركز، حيث طرحت نفسها كقوى وطنية في تسميتها وبرامجها وتحالفاتها، وليست كقوى سياسية طائفية، ولم تحصل تداعيات أمنية أو استفزازات مذهبية وطائفية في بلدانها. بعكس ما جرى في العراق!!!.

وعند البحث الدقيق نرى أن المصادمات المسلحة في العراق جرت بين القوى المتشددة والمتطرفة عند كل الأطراف المتصارعة وهي تملك مواقف متباينة بين رفض الانتخابات والمشاركة فيها.

شكلت الانتخابات في عدد من البلدان التي شارك فيها منتسبي مدرسة الإمامة عامل استقرار وتقدم نحو الديمقراطية، كما في دولة الكويت وسلطنة عُمان، ويمكن إضافة مملكة البحرين بالرغم من حدوث بعض الاضطرابات الأمنية. إلا أن الانتخابات في العراق أحدثت انقسام بشكل حاد داخل المجتمع العراقي. وما لم تتم المصالحة الوطنية الشاملة بين جميع الفرقاء سوف لن ينعم العراقيين بالاستقرار الأمني. وتزايد الأمل في الوصول إلى قناعات سياسية جديدة بعد الانخفاض في معدلات العنف، وصدور قرار مجلس الأمن الدولي 1770 الذي يسمح بتقديم الدعم الدولي لتطوير الوضع العراقي، فمن المتوقع أن تحدث الانتخابات القادمة إذا جرت في بداية عام 2009 تعديلات كبيرة في موازين القوى السياسية، والاتجاه نحو حياة السياسية أكثر استقرار، وعند الوصول الى ذلك المستوى من الأداء السياسي المعقول، ربما سيصبح العراق مُصَدراً للديمقراطية، بدلاً من الإرهاب والطائفية الآن .

وكذا الوضع في لبنان لازال التوتر في تصاعد منعكساً على عدم تطبيع الأوضاع وعودة الحياة السياسية من جديد، وستكون الانتخابات القادمة عامل توتر متزايد، في حالة عدم التوصل الى اتفاق سياسي شامل بين الأطراف المتنافسة.


ختاماً

من كل ما تقدم يمكنني القول بأن الانتخابات في أي بلد عربي، تعد خطوة متقدمة إلى الإمام، لما تختزن عملية الانتخاب نفسها من توليد وعي وتشخيص دقيق للاتجاهات السياسية الساعية نحو الديمقراطية، وهي بالتأكيد أفضل من أي نوع من الاستبداد والدكتاتورية، والعملية الانتخابية أفضل وسيلة لكشف زيف الأنظمة التسلطية وهي القادرة على دحرها، وتدفع الانتخابات نحو تشديد المطالبة بالإصلاحات السياسية طبقاً لنتائجها .

غانم جواد
باحث في قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية