أتألم عندما اٌقرأ ما يخالف الحقيقة..الحقيقة التي عاصرناها وعشناها بمرها وحلوها (أن كان فيها حلو)!! عاصرت العهد الملكي لكنني كنت يومها طالبا في المرحلة الاعدادية وليس لي كما للغالبية العظمى من الشعب العراقي آنذاك أهتمام بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد.. يوم كان السياسي ك (الاجرب) الذي تنفر منه الناس خشية العدوى وهذه شاهدتها بعيني!! فالتخت (مقعد جلوس المقاهي) الذي يجلس عليه سياسي في المقهى لا يجسر أحد ان يشاركه الجلوس عليه كباقي مقاعد المقهى التي تتسع عادة لثلاثة على الاقل.. ألاّ أن الوضع السياسي كان مستقرا في دولة تديرها مؤسسات ويشرف عليها برلمان منتخب ووزارات تُدار بكفاءات عالية وأذكر في اسبوع الاعمار لعام 1957 تم أفتتاح سدود وجسور في بغداد وباقي انحاء العراق أنجزته وزارة الاعمار آنذاك كلفت الخزينة المتواضعة في حينه ملايين الدنانير( حين كان الدينار يساوي 333و3 دولار وميزانية العراق لعام 57 كانت بحدود 50 مليون دينار أي بحدود 160 مليون دولار مقارنة بميزانية اليوم التي تجاوزت 48 الف مليون دولار!!!).. وعلى العموم كانت آلية الحكم كفيلة آنذاك بالتغيير نحو الاحسن كلما تطور التعليم وانتشر الوعي وتحسّن الاقتصاد والدخل الفردي مقرونا برفع سقف الحريات بمصاحبة ارتفاع الشعور بالمسؤولية والالتزام وتحسّن الخدمات والانسجام الاسري ةالاجتماعي.


جاءت ثورة الرابع عشر من تموز فاتحة لكوارث العراق الحديث!! فهدمت كل ذلك الصرح ومهما بررلها المناصرون فأن ما اصاب العراق من جور الجمهوريات وظلم ابناء الجلد اعظم بكثير من ايّ مكاسب جانبية صفّق لها وما زال البعض يبكي على اطلالها ويندب عروشها الخاوية لربما لمكاسب شخصية او محدودة لا غير...الكارثة التي نعيشها اليوم في العراق كانت جذوتها الرابع عشر من تموز عام 1958.. مهما قيل عن عبد الكريم قاسم من طيبة ووطنية واخلاص لا يشفع له جنايته في ازالة نظام برلماني مؤسساتي يخطو نحو الديمقراطية بخطى ثابتة بالرغم من الجهل السائد والفقر العام قبل ثورة البترول حينذاك.. فأ لغى كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها البرلمان فعطّل الحياة البرلمانية والحكم المدني وظلّ يحكم بمفرده كحاكم عسكري (زعيما أوحدا) بعد ان نحى جانبا مجلس السيادة وصفّى رفاقه الضباط ليبقى هو الزعيم الاوحد والاوحد والاوحد (النغمة التي كانت تطربه حينئذ ويعزف عليها الأفاقون كعادتهم)!! وأصبح العراق من يومها مسرحا للعمل السري لبعض الاحزاب كالبعثيين والقوميين أو علنيا كالشيوعيين واحزاب وطنية صغيرة لا تأثير لها في شارع السياسة كالحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي وجماعة الاخوان المسلمين.. مطلع عام 1963 نشّط البعثيون من عملهم واحدثوا لغطا في الشارع وقادوا اضرابا شاملا لطلبة الجامعة يُشم منه شيئاما غير مريح قادم ألاّ أن الزعيم الاوحد لم يُعر اهتماما كافيا للأمر الذي انتهى بكارثة شباط الاسود وما تبعه من كوارث... لكنّ ارادة الله قد هيئت في حينه ما فيه مصلحة الشعب حين انقضّ عبد السلام عارف على رفاقه البعثيين وصفى الساحة من عبثهم في 18 تشرين من نفس العام.. لم يكن عبد السلام سياسيا!! فهو كأي عسكري مهني شائت الظروف ان يتبوأ هذا المنصب ولكن لميزة فيه جعلت منه شيئا أذ أُشيع يومها أن عبد الناصر الذي كان مثله الاعلى أوحى اليه ان يستوزر الدكتور عبد الرحمن البزاز (أستاذ القانون الدولي بجامعة بغداد) كرئيس للوزراء فكان الجيش وقوى الامن كلها بيد رئيس الجمهورية ( عبد السلام عارف ) ليمسك بها بيد من حديد لا يجسر أحد من خرق الامن أو الاخلال بالقانون مما حدا بالبكر وكافة قادة البعث بالاعلان عن أعتزال العمل السياسي والحزبي وانزووا في منازلهم لا يعرفهم سوى حريمهم!! أما باقي شؤون الدولة فقد اُنيطت برئيس الوزراء (الدكتور عبد الرحمن البزاز) وحكومته التي خلت يومها من كافة العسكريين بأستثناء وزير الدفاع!! فكانت حكومة تكنوقراط فعلا ومهنية صرفة ولا تحمل غير الطابع الوطني..ولهذا حسب تصوري كانت فترة حكومة البزاز تمثل العصر الذهبي من عصور الجمهوريات في عصر العراق الحديث والى يومنا هذا!! ففي عهده الذي لم يطول سوى بضعة اشهر بدأ العراق يسترجع مكانته الاقليمية والدولية وتوقفت حركة الاقتتال في الشمال والتي انتهت اخيرا بالحكم الذاتي لأول مرة في تأريخ العراق الحديث وابتدع الاشتراكية الرشيدة التي ترضي اليسار واليمين واستحدث لأول مرة ندوة الاربعاء الاسبوعية تلفزيونيا ليشبع النهم الاعلامي من جهة وليواجه المواقف وجها لوجه وعلى الهواء مباشرة امام شعبه وبمنتهى الشفافية وساد الامن في كافة ربوع العراق وأنا شخصيا تجولّت بسيارتي المتواضعة آنذاك ربوع شمالنا الحبيب من كلالة وشلالات راوندوز الى سرسنك وغيرها من مصائفنا الرائعة بكل حرية وأمن.. ثمّ راح يعد العدّ لأعادة الحياة البرلمانية على اسس وطنية سليمة أضافة الى باقي مؤسسات الدولة المدنية الاخرى التي هدمتها ثورة 14 توز عام 58... ولكن للأسف الشديد الحلو ما يكملش( على رأي المصريين) أذ سرعان ما دبروا له حادث الطائرة وانتهوا منه كما انتهوا من بعد وبسهولة من وريثه الضعيف عبد الرحمن عارف بأنقلاب ابيض (كما زعموا) عام 1968 ليعود البعث بسلطة الحزب الواحد والحكم الدكتاتوري الفردي من الشباك بعد ان خرج من الباب مدحورا كما ذكرنا...


المهم من كل هذه المقدمة.. اردت ان اصل الى نتيجة وضعنا الراهن الذي لا نرى له مخرجا لحد الآن للاسف الشديد لتغليب العواطف في احكامنا أو لمأخذ العزّ منا وعدم الاعتبار مما مضى.. بل ولما فرضه الاحتلال علينا وكأنه أصبح واقعا لا خيار لنا فيه.. فأقول : لماذا ننسى التأريخ بهذه السرعة ولماذا لا نستفيد من تلك التجارب : ببساطة وضعنا من وجهة نظري يستلزم رئيسا للجمهورية يقبض على كافة قوى الامن من جيش وشرطة وقوى الامن الاخرى ليمسك بها بيد من حديد ولتتوحد خلفه كافة طبقات الشعب بكافة فئاته واحزابه وعلى ان يُنتخب انتخابا مباشرا من ابناء شعبه لدورتين فقط لا غير ويكون هو حامي النظام والدستور وهيبة الدولة والقانون وامنها الداخلي والخارجي... في حين تكون ادارة الحكومة ومؤسسات الدولة المدنية الاخرى وشؤون البلاد عامة بيد الحكومة ممثلة برئيس وزرائها.. ثمّ لماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين أيضا وفي يومنا هذا بالذات.. لنأخذ ما آل اليه النظام الطائفي في لبنان فها هو وبعد مرور عقود من الزمن يعود الى نقطة الصفر من صراع اهوج وتنافس بل صراع طائفي مقيت على السلطة لا أمل في الخروج من نفقه.. في حين نظام كالنظام التركي تخطى كل الصعاب وتجاوز كل الاشكالات بمنتهى المرونة والشفافية يحث الخطى للانظمام الى العالم الاول بمنهجية واستراتيجية ثابتة مهما اختلف المتداولون على السلطة.


يلزم ان نواجه الحقيقة وهي كما يبدو أن لا أمل يُرتجى من الاحزاب والقوى الظاهرة على السطح اليوم في العراق.. والمسؤولية تقع على امريكا التي هدمت كل مؤسسات الدولة وسمحت لهذه القوى والاحزاب العاملة الآن بتسلم مقاليد الامور وكأنه واقع مفروض علينا.. عليها أن تنهي كل هذه المهازل وتعيد بناء كافة مؤسسات الدولة على اسس وطنية مجردة وتوكل زمام الامور لفترة انتقالية محددة الى جهة حيادية وطنية مستقلة تجري خلالها اعادة صياغة الدستور والانتخابات والتأسيس لتشكيل احزاب وطنية تُبنى على ركائز وآليات ديمقراطية سليمة وقبل كل هذا أعادة الامن والاستقرار وتشغيل وأدامة ورش العمل والقضاء على البطالة لتحرير المواطن العراقي من أية ضغوط تبعية أو عوامل أقتصادية أو أجتماعية أو أية عوامل أخرى..

حكمت النعمة